اتخذت الجمهورية الإسلامية الإيرانية موقفاً داعماً للغاية لروسيا، في هجومها على أوكرانيا منذ البداية، لكن الهجوم جاء في ذروة توسيع وتوطيد العلاقات بين موسكو وطهران، ويسيطر على الحالة الإيرانية القلق من تأثير الأزمة الأوكرانية على المفاوضات النووية الإيرانية، لاسيما بعد حديث الدول الأوروبية عن فرض عقوبات اقتصادية على موسكو.
ومنذ الساعات الأولى للهجوم الروسي على أوكرانيا، وخلال مكالمة هاتفية بين الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، دعم رئيسي موسكو بالقول "إن توسع الناتو يشكل تهديداً خطيراً لاستقرار وأمن الدول المستقلة، وإن ما يحدث يبعث على الأمل، وسيفيد الأمم والمنطقة بأسرها".
تزامن الأزمة الأوكرانية مع مفاوضات فيينا
جاء الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا في توقيت حساس بالنسبة إلى المفاوضات النووية في العاصمة النمساوية فيينا، والتي وبحسب مسؤولين ودبلوماسيين إيرانيين تحدثوا لـ"عربي بوست"، دخلت مراحلها الأخيرة، وما تبقى سوى القليل للاتفاق عليه.
الآن، تدخل مفاوضات فيينا المرحلة الثامنة، والتي من المتوقع أن تكون المرحلة النهائية، وسيتم قريباً الإعلان عن الوصول إلى صفقة بشأن إحياء الاتفاق النووي الإيراني، إلا أن الأمور قد تغيّرت بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا.
قبل الهجوم بحوالي شهر واحد فقط، قام الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بزيارة موسكو، ولقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسط إشادة هائلة من المعسكر الأصولي في إيران، والذي ينتمي إليه إبراهيم رئيسي، واصفين الزيارة بأنها "تاريخية" في عمر العلاقات الإيرانية الروسية.
موسكو لن تسمح لإيران بإحياء الاتفاق النووي وبيع الغاز لأوروبا
وبعد أن شرعت روسيا في العمل العسكري تجاه أوكرانيا، وحديث الدول الأوروبية عن فرض عقوبات اقتصادية على موسكو، وإيقاف صادرات الغاز الروسية، علّق المحللون الإيرانيون بأن هذه المسألة ستكون بمثابة فرصة كبيرة للاقتصاد الإيراني، إذا تم التوصل إلى صفقة بشأن إحياء الاتفاق النووي، ورفع العقوبات عن إيران.
يقول كوروش أحمدي، محلل السياسة الخارجية والدبلوماسي الإيراني السابق، لـ"عربي بوست"، "من الممكن أن تكون الأزمة الأوكرانية بمثابة انفراجة لإيران، فالولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون واقعين تحت ضغط مواجهة بوتين، ومن الممكن أن يسرعوا في اتخاذ قرار حاسم بشأن إحياء الاتفاق النووي".
يرى السيد أحمدي، أنه إذا سارت الأمور بالشكل الذي يتوقعه، فسيكون إحياء الاتفاق النووي، ورفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، بدايةً جيدةً لتصدير النفط والغاز الإيراني لأوروبا، فيقول لـ"عربي بوست": "يخشى العالم أجمع من ارتفاع أسعار النفط وقلة إنتاجه؛ نتيجة الهجوم الروسي لأوكرانيا، وحينها سيكون العالم بحاجة إلى النفط الإيراني، هذا الأمر من المتوقع أن إدارة بايدن تأخذه بعين الاعتبار".
لكن هناك الكثير من العوائق تقف أمام آمال وتوقعات الإيرانيين فيما يخص بسرعة التوصل لصفقة لإحياء الاتفاق النووي، وعودة طهران إلى الأسواق النفطية، وتصدير الغاز لأوروبا، وعلى رأس هذه العقبات روسيا، التي لن تسمح بحدوث هذا الأمر بسهولة.
في هذا الصدد تحدّث مسؤول ثانٍ في الحكومة الإيرانية، لـ"عربي بوست"، قائلاً "من خلال تحليل ردود الأفعال الروسية والمناقشات التي تمت بين موسكو وطهران من بعد الهجوم الروسي لأوكرانيا، أستطيع القول إن روسيا لن تسمح بأي شكل من الأشكال أن تحل طهران محلها في مسألة تصدير الغاز لأوروبا، فبالرغم من توسيع العلاقات الإيرانية الروسية في الفترة الأخيرة، وبالرغم من نظرة المسؤولين الإيرانيين لروسيا على أنها حليف استراتيجي، فإنه ليس من السهل خداع أنفسنا، خاصة أنه في العلاقة بين طهران وموسكو، دائما ما كانت تختار الأخيرة مصالحها في المقام الأول، مستخدمة بطاقة المفاوضات النووية في كثير من الأحيان".
في خريف عام 2021 تم تسريب مقطع صوتي مدته تتجاوز الثلاث ساعات، لوزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف، في هذا المقطع المسرب تحدث جواد ظريف عن الدور الروسي السلبي في المفاوضات النووية التي سبقت الاتفاق النووي الإيراني في عام 2014، فقد اتهم روسيا بعرقلة المفاوضات بين طهران وواشنطن في عام 2014، خوفاً من تأثر العائدات النفطية الروسية.
يقول المسؤول الحكومي الإيراني، لـ"عربي بوست"، "تعلم روسيا جيداً أنه من الناحية الفنية لا تستطيع إيران تصدير الغاز لأوروبا في الوقت الحالي، نظراً لأن طهران لا تمتلك خطوط أنابيب لنقل الغاز مع أوروبا، لكن لديها شكوك في دور قطر في هذه العملية".
وبحسب المسؤول ذاته، فإن زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، إلى دولة قطر، لحضور منتدى التعاون الاقتصادي العالمي، زادت من شكوك روسيا بأن إيران تريد إرسال الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر قطر، فيقول "هذا الأمر يعني أن إيران ستتجاوز روسيا بالكامل".
جدير بالذكر هنا، قبل توصل إيران والقوى العالمية إلى الاتفاق النووي في عام 2015، كان من المقرر أن تنضم الجمهورية الإسلامية إلى شبكة خطوط أنابيب تسمي نابوكو، تنقل الغاز من مدينة أرضروم في تركيا، إلى بومغارتن في النمسا، لكن روسيا عارضت الخطة، يقول مسؤول إيراني في وزارة النفط لـ"عربي بوست"، "عارضت موسكو الأمر بشكل حاد، لأنها كانت تعتقد أن انضمام إيران إلى خطوط نابوكو سيكون بمثابة بديل عن الغاز الروسي المصدر إلى أوروبا، وتكرَّر الأمر في عام 2015، عندما زار الرئيس حسن روحاني النمسا، وأعلن عن قدرة طهران على نقل الطاقة لأوروبا، وبعدها بأيام قليلة وبعد اتصالات بين المسؤولين الإيرانيين والروس، تراجع السيد روحاني عن الأمر، وأعلن أن إيران لن تحل محل موسكو في تصدير الغاز لأوروبا".
رغبة روسية في تأخير المفاوضات
بالنظر إلى تاريخ العلاقة المضطربة بين روسيا وإيران، هناك بعض المخاوف داخل إيران من أن يستخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين البطاقة الإيرانية، من أجل التوصل إلى حل وسط مع الغرب والولايات المتحدة، بشأن الأزمة الأوكرانية.
مسؤول حكومي إيراني بارز، ومطلع على سير المفاوضات النووية في فيينا، قال لـ"عربي بوست"، شريطة عدم الكشف عن هويته، "بعد الهجوم شعرت القيادة العليا في طهران بالقلق، بشأن مفاوضات فيينا، خاصة أنها في المرحلة النهائية، فروسيا طرف أساسي في الاتفاق النووي، ولا يمكن إبرام أي صفقة بمعزل عنها".
وبحسب المصدر ذاته، وبناء على هذه المخاوف، فقد تواصل الجانب الإيراني مع موسكو من أجل مناقشة مسألة مفاوضات فيينا، فيقول لـ"عربي بوست": "أحد القادة الأمنيين رفيعي المستوي في إيران تواصل مع موسكو في الأيام القليلة الماضية، وبعد المناقشة والتباحث وجدنا أن لدى روسيا نية في تأخير مفاوضات فيينا".
تجدر الإشارة هنا، وبحسب مسؤولين أمنيين إيرانيين تحدثوا لـ"عربي بوست"، في تقرير سابق، إلى أن المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، يتولى ملف الاتفاق النووي ومفاوضات فيينا، بشكل كبير، منذ وصول إبراهيم رئيسي إلى السلطة، في أغسطس/آب 2021، أي أنه من المحتمل أن يكون مَن تواصل مع روسيا بشأن مفاوضات فيينا، هو سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي، السيد علي شمخاني، الذي علق على مفاوضات فيينا في الأيام الأخيرة بشكل متكرر.
بالعودة إلى رغبة روسيا في تأخير المفاوضات النووية في فيينا، يقول المسؤول الحكومي الإيراني، لـ"عربي بوست"، "يقول المسؤولون الروس إن رغبتهم في تأخير مسألة المفاوضات ستكون لوقت قصير، حتى تتمكن روسيا من التوصل إلى حل مع الغرب بشأن أوكرانيا".
لكن في الوقت نفسه عبّر المسؤول الإيراني الحكومي عن المخاوف الإيرانية بشأن الرغبة الروسية في إطالة أمد المفاوضات النووية في فيينا، فيقول لـ"عربي بوست": "لا نخفي أن القلق ينتاب القيادة في طهران، هناك مخاوف من أن تقوم روسيا باستغلال المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن، من أجل التوصل إلى تسوية مع أوكرانيا، وتستغل الاتفاق النووي لصالحها".
دبلوماسي إيراني مقرب من وزير الخارجية أمير عبد اللهيان، شارك المسؤول الإيراني نفس المخاوف، في حديثه لـ"عربي بوست"، فيقول "تواصلنا مع روسيا بشكل مكثف بعد غزو أوكرانيا، وفي حقيقة الأمر كل الإشارات القادمة من هناك تثير القلق هنا في طهران، هناك إحساس داخل الإدارة الإيرانية بأن روسيا تهدف إلى تأخير المفاوضات في فيينا من أجل الضغط على واشنطن للحصول على حل يرضيها فيما يخص أوكرانيا، هذا الأمر لن يكون مقبولاً في طهران، خاصة أن المفاوضات في مراحلها الأخيرة".
جدير بالذكر هنا، أنه في عام 2014، وفي ذروة المفاوضات بين الجمهورية الإسلامية، والولايات المتحدة والدول الأوروبية، للتوصل إلى اتفاق نووي، استغلت روسيا المحادثات النووية حينها، للحصول على تنازلات من الجانب الأمريكي فيما يخص شبه جزيرة القرم.
هل يمكن لإيران إقصاء روسيا من مفاوضات فيينا؟
بحسب المسؤولين الإيرانيين الذين تحدثوا لـ"عربي بوست"، تناقش القيادة العليا في طهران كافة الاحتمالات التي تحيط بالمفاوضات النووية في فيينا، بعد هجوم روسيا على أوكرانيا، فيقول مسؤول إيراني بارز ومقرب من القيادة العليا في طهران، لـ"عربي بوست": "من ضمن أمور أخرى تتم مناقشتها حالياً بشكل مكثف، هو احتمال ماذا لو توصلت إيران والولايات المتحدة إلى حلول لكافة القضايا العالقة، وأصبحنا على وشك إحياء الاتفاق النووي، الذي سيكون بمثابة هدية كبيرة للاقتصاد الإيراني في ذلك الوقت، وعارضت موسكو أياً من هذه القضايا، وعطلت سير المفاوضات النووية في فيينا".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً لـ"عربي بوست": "داخل دوائر صنع القرار في طهران هناك من اقترح حلاً في حال قامت موسكو بتعطيل التوصل إلى إحياء الاتفاق النووي، وهو إقصاؤها من المفاوضات، والتفاوض بشكل مباشر بين طهران وواشنطن، لكنه سيكون حلاً صعباً".
لكن المسؤول الإيراني وصف هذا الحل بأنه سيكون الأصعب على الجمهورية الإسلامية، فيقول لـ"عربي بوست": "المفاوضات المباشرة بين طهران وواشنطن من الممكن حلها، والمسؤولون الإيرانيون قد مهدوا لهذا الخيار منذ أسابيع، لكن الوضع قد اختلف الآن، والتفاوض المباشر بينا وبين الأمريكيين سيكون بسبب رغبتنا في إيقاف موسكو عن تعطيل سير المفاوضات وإحياء الاتفاق النووي، وهذا أمر لن تقبله روسيا بأي شكل من الأشكال، وبعيداً عن صعوبة الخيار من الناحية الفنية، ورفضت موسكو، فإننا لا نحبذه حتى الآن".
نظرة أخرى متفائلة
غلبت نبرة القلق إلى حد ما على أحاديث أغلب المصادر الإيرانية التي تحدثت لـ"عربي بوست"، عن مسألة تأثير الهجمة الروسية على أوكرانيا على المفاوضات النووية الحالية في فيينا، والتي تهدف لإحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015.
لكن هناك من يشعر بالتفاؤل، ويرى أن دعم طهران لموسكو في أزمتها مع الغرب سيكون له آثار إيجابية على سير المفاوضات النووية.
يقول سياسي إيراني من المعسكر الأصولي، ومقرب من دوائر صنع القرار في الجمهورية الإسلامية، لـ"عربي بوست": "انتقاد العديدين داخل إيران لدعم طهران لموسكو في أزمتها مع الغرب يثير السخرية، لأن مسألة انضمام أوكرانيا للناتو هي بمثابة خط أحمر للأمن القومي الروسي، وطهران ترى في موسكو حليفاً استراتيجياً قوياً، روسيا دولة عظمى تمتلك حق الفيتو في مجلس الأمن، وهذا الأمر قد يساعد الجمهورية الإسلامية في خلافها النووي المستمر مع الولايات المتحدة، فكيف لنا أن نخسر حليفاً بهذه القوة".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً: "أما الحديث عن استغلال موسكو لورقة المفاوضات النووية للضغط على الغرب والولايات المتحدة فأجده حديثاً ساذجاً، لا أنكر القلق الإيراني من تأثير الأزمة الأوكرانية على المفاوضات أو تأخيرها، ولكن في الوقت نفسه أصبحت موسكو مؤخراً تهتم بإحياء الاتفاق النووي أكثر من ذي قبل، لأن رفع العقوبات عن إيران سيفتح أبواب التعاون الاقتصادي الهائلة بين البلدين".
ويرى السياسي الإيراني الأصولي أن كلاً من موسكو وطهران لديها مخاوف وقلق، خاصة بعد الاعتداء العسكري الروسي لأوكرانيا، أو زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لقطر، والحديث عن تصدير الغاز الإيراني لأوروبا، لكنه ما زال متفائلاً، ويقول لـ"عربي بوست": "كل هذه الأمور والشكوك من السهل تسويتها، فالعلاقة بين الجمهورية الإسلامية وروسيا مؤخراً آخذة في النمو والتطور، مع الوقت سيتم حسم جميع القضايا العالقة بين البلدين".
الخوف من الخديعة الروسية
تحدّث المسؤولون الإيرانيون الذين تواصلوا مع "عربي بوست" عن تطمينات روسية لإيران، بشأن استكمال المفاوضات النووية في فيينا، والتوصل إلى صفقة لإحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، بالرغم من التوترات الأخيرة بين روسيا والغرب بسبب الحرب العسكرية الروسية على أوكرانيا، لكن في الوقت نفسه هناك خوف من وقوع إيران في الخديعة الروسية.
يقول الصحفي الإيراني المختص بالسياسة الخارجية، والمقيم في طهران، لـ"عربي بوست": "أخشى أن تكون تصريحات السيد أوليانوف عن اقتراب المفاوضات النووية في فيينا من الانتهاء مجرد كذبه، مثل كذبة بوتين، الذي قال مراراً إنه لن يهاجم أوكرانيا، كما أن هناك خوفاً من أن تكون إيران قد تعرضت لخديعة روسية، فتعمد الروس تأخير الوصول إلى صفقة في مفاوضات فيينا، قبل الضربة الروسية لأوكرانيا، لكي لا تصبح إيران مركزاً قوياً في الأسواق النفطية بعد الأزمة الأوكرانية".
يرى الدبلوماسي الإيراني المقرب من وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان، أن في نهاية الأمر، الجمهورية الإسلامية تتمتع بالاستقلال فيما يخص قراراته للسياسية الخارجية، فيقول لـ"عربي بوست": "لا يوجد التزام كامل ومقيد بين الدول في الوقت الحالي، وإيران دائماً كانت مستقلة عن أي دولة لها علاقات جيدة معها، كما أنه لا يمكننا توقع المواقف الأخلاقية في السياسية الخارجية في هذه الأيام، لا نعتمد بشكل كامل على روسيا في المفاوضات النووية كما يعتقد البعض، والرئيس الإيراني يتابع باهتمام الاستفادة من الفرص، والدليل على ذلك زيارته إلى دولة قطر"، في إشارة إلى التعاون بين طهران والدوحة في مسألة تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا.