إذا كنت تبحث عن اسم دولة من حول العالم لكي تشير إلى الرخاء والرفاه والثراء، فإن دولة سويسرا حتماً ما سيتبادر إلى ذهنك.
فهي الدولة الأوروبية الغنية التي تغلب عليها الطبيعة والرقي والمستوى الاجتماعي الممتاز للغالبية العظمى من رعاياها. لكن ما لا تعرفه ربما عن تلك الدولة، أن لها تاريخاً صادماً في عمالة الأطفال والاتجار بهم.
هؤلاء "الأطفال المتعاقدون" أو "Contract Children"، كان من المتوقع أن يؤدوا الأشغال الشاقة في المزارع، وقد بيعوا على هذا الأساس إما لكونهم "يتامى" وإما لكونهم منتمين إلى الطبقات "الفقيرة" في البلاد في صورة من صور الاتجار بالأطفال.
هذه الصورة الصادمة من تاريخ دولة سويسرا تم تداولها لأول مرة بوضوح خلال السنوات الأخيرة، وسط دعوات تنادي بتعويض هؤلاء الضحايا نظير طفولتهم الضائعة وما عانوه من اضطهاد وويلات إثر العمل كعبيد "غير مدفوعي الأجر" في المزارع.
نهج عمالة أطفال الأسر الفقيرة والأزواج المدينين
منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى أوائل الستينيات، مارست سويسرا شكلاً نادراً من أشكال الاتجار بالأطفال.
إذ تم وضع الأزواج المطلقين الذين يدينون بالديون للدولة، وأطفال الأسر الفقيرة، والأيتام، والأطفال الذين كان آباؤهم في السجن أو متورطين في جرائم مع عائلات أخرى؛ لتوظيفهم من قِبل الدولة والكنيسة.
ووفقاً لهذه الممارسة، تم منح عمالة الأطفال الذين تم جمعهم من هذه العائلات تحت إشراف الكهنة إلى المزارع كـ"إيجار".
وبحسب تقرير نشره موقع BBC، تعرض الأطفال الصغار الذين وصلت أعمارهم لسنّ الرابعة من العمر، للبيع في أسواق الإتجار بالأطفال في المدن والمراكز المزدحمة والقرى المكتظة.
ومنذ لحظة البيع، لم تكن هناك أي مراجعة أو رعاية لهؤلاء الأيتام، ولا حتى في أثناء تعرضهم للاغتصاب أو التعذيب، لأنهم في نظر المجتمع كانوا هم من يُسمون بأبناء الأسر الفقيرة الذين ارتكبوا الجرائم وتطلقوا أو وقعوا تحت ثقل الديون.
وقد قامت المصانع بتوظيف عمالة الأطفال الأيتام، سواء الذين كانوا يسكنون في الدور أو في الملاجئ والمشردين منهم، في مهن قاسية، من بينها توظيفهم في تنظيف المداخن الحجرية الممتلئة بالرماد والسواد.
وكانوا يتسلقون بأحجامهم الصغيرة في هذه المداخن ويقومون بتنظيفها، تحت مراقبة وضغط أرباب العمل، وخوفاً من العقاب، ويحصلون آخر اليوم على أجور زهيدة، فيما يقدَّم إلى بعضهم فقط طعام لا يكاد يسد حاجتهم اليومية.
عشرات الآلاف من عمالة الأطفال الرخيصة أو حتى المجانية
يُقدر عدد عمالة الأطفال التي خضعت لهذه السياسة في القرنين التاسع عشر والعشرين بمئة ألف طفل، وفقاً لموقع Swissinfo السويسري.
وكان هؤلاء الأطفال يُعتبرون عمالة رخيصة بشكل فعال ومُجدٍ، وكانوا يتعرضون أحياناً للضرب وسوء التغذية والاعتداء الجنسي. من جانبهن، يمكن احتجاز الأمهات المراهقات غير المتزوجات والمتسربين من الدراسة دون محاكمة أو احتجازهم في مستشفيات الأمراض النفسية حتى الثمانينيات.
بل إن السلطات حينها أصدرت في بعض الأحيان مرسوماً يقضي بضرورة إخصاء البالغين وتعقيمهم وإجبارهم على تسليم أطفالهم للتبني؛ لعدم أهليتهم.
وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت روايات الناجين بالظهور في وسائل الإعلام، مما أثار تساؤلات في البرلمان. ثم لفترة طويلة، كانت الكنائس والكانتونات والبلديات والحكومة تلقي باللوم على بعضها البعض، حتى إن البعض أنكر من الأساس سوء المعاملة التي عانى منها الأطفال.
لكن في عام 2010، بدأت الأمور تتغير عندما حصلت النساء اللائي اعتُقلن دون محاكمة في سجن هيندل بانك بمدينة كانتون برن السويسرية، على اعتذار رسمي من السلطات الفيدرالية والكانتونية، بعد ضغوط مكثفة وحشد إعلامي للتنديد بالاتجار بالأطفال.
المسؤولية تقع على جهات عديدة
نظراً إلى أن أرشيفات هذه الأحداث موزعة بين الكانتونات والمدن والقرى والمؤسسات المختلفة، أو حتى تم تدميرها بشكل متعمد، لم يتم إجراء دراسة وطنية لهذه الممارسة حتى الآن، بحسب الموقع السويسري.
ونتيجة لذلك، فإن الشهادة الشفوية للناجين هي عملياً المصدر الوحيد الموثوق به لتوثيق ما حدث.
وبحسب تصريحات للباحث بيير أفانزينو، الأستاذ السابق في قسم العمل الاجتماعي بجامعة العلوم التطبيقية في لوزان، فإن "العديد من العائلات لديها أفراد تم تربيتهم وبيعهم في ظاهرة عمالة الأطفال المؤسفة".
وبالنسبة لعمالة الأطفال الذين أُجبروا على العمل في المزارع أو الذين احتُجزوا دون محاكمة، فقد استغرق الأمر سنوات من الضغط، وضمن ذلك الإضراب عن الطعام، والاستئناف أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان؛ لتلقي اعتذار رسمي عن هذه الممارسات.
المجتمع يدين بالاعتذار ويدفع تعويضات للناجين عن طفولتهم الضائعة
بعد سنوات من النضال من قِبَل الناجين، أدرك المجتمع السويسري أن هؤلاء الأطفال تم التجني عليهم من قِبل الأطراف كافة، خاصة في نظام الرعاية السابق للطفولة بالبلاد.
وبحسب تصريحات خبير اقتصادي لصحيفة Blick، فإن العمل بلا أجر للأطفال حقق ناتجاً بلغت قيمته ما يتراوح بين 20 و65 مليار فرنك سويسري، أي بما يعادل ما بين 22 و70 مليون دولار، في الثروة الزراعية للبلاد بتلك الفترة من تاريخها.
لذلك يجب أن يكون الأطفال الذين ما زالوا على قيد الحياة من هذه العمالة، ويُقدر عددهم بأكثر من 10 آلاف ناجٍ، مؤهلين للحصول على نحو 1.2 مليار فرنك سويسري، بما يعادل 1.6 مليار دولار، وفقاً للخبير الاقتصادي.
الحكومة تخصص تعويضات للضحايا الناجين
ويمثل مصير جريمة الاتجار الأطفال في سويسرا قضية خلافية حتى اليوم، لاسيما فيما يتعلق بمسألة التعويضات المادية للضحايا الناجين.
ويقارن بعض الناجين معاناتهم مع تجربة عمال السخرة في ألمانيا النازية، الذين أبقوا القوة الصناعية في زمن الحرب عاملة كما هي دون توقف، ولم يتم تعويضهم إلا قبل عقد من الزمان تقريباً.
وقد طلبت صحيفة Sonntagsblick السويسرية من الاقتصاديين المتخصصين إجراء حساب تقريبي للأرباح والمزايا الاقتصادية لعمالة الأطفال غير المأجورين، على مدى 150 عاماً في تاريخ الدولة الأوروبية.
وكان التقدير المتوقع لهذه العمالة متراوحاً بين 20 و60 مليار فرنك سويسري، بما يتراوح بين 22 و70 مليار دولار تقريباً.
وعلى الرغم من أن السلطات السويسرية قد قدمت اعتذاراً رسمياً في أكثر من مناسبة، فإن طلبات التعويض لم تتم تلبيتها إلا بعد عام 2016، وذلك تلبية لمطالب النشطاء بأن يُسمح لـ10.000 فرد مازالوا على قيد الحياة بحصة من صندوق تعويضات بقيمة 1.2 مليار دولار.
وبحسب وكالة رويترز، لم تكن التعويضات بالتقدير المالي نفسه بالطبع، إلا أن مجلس النواب السويسري خصص فاتورة- أقرها أعضاؤه من مختلف الأحزاب السياسية، ومجلس الشيوخ لاحقاً- بـ300 مليون فرانك سويسري، أي 308 ملايين دولار.
بمعنى آخر، تم تخصيص تعويضات بقيمة تراوحت بين 20 ألفاً و25 ألف فرنك لكل ضحية من الضحايا المقدر عددهم بالتحديد بـ12 ألفاً إلى 15 ألف ضحية مازالوا على قيد الحياة.