كعادة تونس الثورة، فإنه لا يثار نقاش في فضائها العام إلا ويتم تحويل وجهته، فتضيع معانيه تحت وطأة العواطف المتفجّرة أو المصلحيّة المتربّصة، أو تتلاشى خلف ضجيج الفهلوة المتنطّعة.
وعلى هذا النحو كانت انطلاقة الجدل حول شخصية محمد القوماني، الذي أعلنت حركة النهضة بشكل رسمي، عن تكليفه بقيادة لجنة إدارة الأزمة السياسية، كآخر نقطة في بيانٍ كان عنوانه الرئيسي إعلانَ تكوين هذه اللجنة، وغاب عنه لأول مرة، مصطلح الانقلاب وما لف لفه من معجم تصعيدي، فلم تصف فيه النهضة ما حصل يوم 25 يوليو/تموز بالقرارات الرئاسية فحسب، بل أوجدت له المبررات، واعتبرته كسراً لما أنتجته الأزمة المتراكمة من حلقة سياسية ودستورية مغلقة، مع حضور مكثف لمعجم المراجعة، من قبيل "النقد الذاتي" و"تلقي الرسالة" أو الاستعانة بتعبيرات عديدة، مفادها أنه لا سقف لتنازلاتها المعروضة، إلا المحافظة على المسار الديمقراطي والتمسك بدولة المؤسسات والقانون. فكانت النهضة وهي تعلن عن رئيس فريقها التفاوضي، تتراجع خطوات إلى الوراء، لتفسح له مساحات المناورة على مصراعيها، وتزوده بقدر وافر من "الكروت" قبل أن تفوضه. فهل حملت الشخصية المختارة لهذا الدور الحساس ما ينسجم مع هذا السياق؟
لن أغوص من خلال هذه الأسطر في سؤال جدارة القوماني من عدمه أو مدى أفضليته عن غيره من قيادات النهضة للقيام بهذه المهمة، ولكني سأكتفي ببعض ما هو غائب عن التداول في شأنه، مما أراه مفيداً في استجلاء مدلولات اختياره، من الإثارات التاريخية التالية:
يعتبر محمد القوماني أحد أهم وجوه تيار "اليسار الإسلامي" او "الإسلاميين التقدميين"، وقد عاد إلى حركة النهضة في فترة متأخرة بعد الثورة، وبالتحديد في أكتوبر/تشرين الأول 2016، أي في ذروة ازدهار سياسة التوافق مع نداء تونس، وبعد أشهر معدودة من المؤتمر العاشر للحركة، في تساوق مع ما أقره من عناوين إصلاحية، كالانفتاح والتونَسة.
اليسار الإسلامي التونسي انشق عن الجماعة الأم في سنوات 79 و80، ليمثل الانشقاق الوحيد على خلفية اختلاف فكري، والذي تمحور بالأساس، حول ما تبنّاه "الإسلاميون التقدميون" من النقد الجذري لأدبيات الاخوان المسلمين، والشدّ المبكّر نحو الاتّصال بالمدونة الفقهية التونسية، وما تبع ذلك من خلافات جوهرية، من مثال الموقف من المرأة وثنائية الوحي والعقل.
لقد ساهم هذا الخلاف الفريد من نوعه في تاريخ الحركة الإسلامية التونسية في صناعة خصوصيتها، من خلال إدخال الروح النقدية إلى صفوفها في وقت مبكر، وتخصيبها بمقولات جديدة وترويضها على القبول بالاختلاف وتعددية الآراء.
بقي هذا التيار فكرياً بامتياز في تونس، إذ كان له إنتاج مضموني غزير من خلال مجلة 21/15، والتي لم ينتظم التيار بشكل جماعي بعد انشقاقه إلا تحتها، ولكن أعضاءه انخرطوا أفراداً في شتى مربعات الشأن العام، ومنهم من نجح في شق طريقه نحو مراتب متقدمة في عوالم الصحافة والفكر والعمل النقابي والمنتظمين السياسي والمدني، ومن أبرزهم اليوم: د.حميدة النيفر، صلاح الدين الجورشي، الحبيب بوعجيلة، زياد كريشان، ومهدي بن مبروك.
الزعيم التاريخي لهذا التيار هو ثالث المشايخ المؤسسين للجماعة الإسلامية في تونس (الغنوشي، ومورو) وسليل إحدى أهم العائلات العلمية والدينية بتونس العاصمة، التي تعد من مصاف طبقة النبلاء في حاضرة الحكم الحسينية، أو ما يعرف بالدارجة بطبقة "البلدية".
"اليسار الإسلامي" انشق في وقت مبكر، مما جعله لم ينخرط في أيٍّ من الصدامات مع الدولة، لا في الانكشاف الأمني الأول سنة 81، ولا في محرقة التسعينات، بل إنه لم يكتفِ بالحياد، في المحطة الثانية، حيث ترأس زعيمه الروحي الشيخ حميدة النيفر الديوان الوزاري لمحمد الشرفي، الذي يعتبر العقل المدبّر، لما عرف بسياسة "تجفيف المنابع" لنظام بن علي.
هذا التيار لا يتوفر على مرتكز قوة تنظيمية داخل النهضة، غير ما يمكن أن توفره لها مؤسساتها الرسمية من دعم.
كل هذه المعاني حاضرة في شخصية القوماني، فهو كاتب صحفي مواظب، لا يكاد يغيب أسبوعاً عن أعمدة الصحف بعد الثورة، وساهم قبلها في تأسيس منتدى الجاحظ الفكري، كما شغل عضوية الهيئة التحريرية لمجلة 21/15، وأما على المستوى الحقوقي فقد سبق له في التسعينات أن دخل الهيئة المديرة للرابطة التونسية لحقوق الإنسان (إحدى منظمات الرباعي الحائز على جائزة نوبل للسلام في 2015)، وأما على المستوى السياسي فقد كان أحد المؤسسين للحزب الديمقراطي التقدمي، وتدرج فيه حتى شغل خطة أمين عام مساعد.
وبذلك، فإن هذا الاختيار مثل البيان الذي تضمنه، يحوي رسائل عديدة تجاه الدولة التونسية ونخبها كما تجاه الداخل النهضاوي، ولكنه كذلك يفسح المجال أمام تيار فكري، خِلنا جميعاً أنه تلاشى، للعب دور تاريخي، في إنقاذ المسار الديمقراطي التونسي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.ne
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.