تعيش تونس منذ أيام مرحلة جديدة من تاريخها منذ أن أعلن رئيس الدولة قيس سعيد جملة من الإجراءات الاستثنائية، أهمها تجميد نشاط مجلس نواب الشعب، الذي تترأسه حركة النهضة.
"عربي بوست" توجه بجملة من الأسئلة إلى رياض الشعيبي، المستشار السياسي لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، لتبيّن مواقف حزب الأغلبية في البرلمان من هذا الظرف الاستثنائي وآثاره على مستقبل المسار الديمقراطي في تونس، والمبادرات الممكنة للخروج من الأزمة السياسية.
بعد مضي أسبوع على القرارات التي أعلنها قيس سعيد، كيف تقيمون الوضع السياسي في تونس؟
البلاد تعيش منذ أسبوع وضعاً استثنائياً بمقتضى إجراءات رئيس الجمهورية التعسفيةـ معززة بقوات الجيش والأمن، وإغلاق البرلمان علامة الديمقراطية في تونس ورفع الحصانة النيابية عن أعضائه، فضلاً عن إقالة الحكومة وتجميع كل السلطات بيده. وقد تأكد لنا حصول الانقلاب عندما وقف بعد منتصف الليل رئيس البرلمان التونسي في مواجهة دبابة تمنعه من دخول المجلس؛ وهي الصورة التي فضحت الانقلاب في كل أنحاء العالم.
وقد تتالت خلال الأسبوع الأول الإجراءات التعسفية بوضع اليد على الإدارة الحكومية وإقالة الوزراء والمسؤولين الكبار، وإيقاف بعض النواب في ظروف غامضة وعلى حساب حقهم في محاكمة عادلة، وتطويع الإعلام العمومي وتحويله إلى أداة دعاية سياسية فجة، كما لا ننسى توظيف الجائحة الصحية لمنع التجمعات والتظاهرات العامة.
ما هي الخطوات التي ستتخذها الحركة بعد رفض رئيس الدولة مطالب التراجع عن قراراته؟
حركة النهضة اختارت منذ انفجار الأزمة الدفاع عن حرمة الدستور التونسي وعن الديمقراطية بالوسائل السياسية السلمية والقانونية؛ لذلك دعت أنصارها للعودة إلى منازلهم بعد تظاهرات اليوم الأول أمام البرلمان، ونبهت من عدم الزج بالشعب التونسي وبمؤسسات الدولة وأجهزتها في هذا الصراع المقيت. كان السلم الأهلي والوحدة الوطنية والمكتسبات المشتركة خطاً أحمر بالنسبة لحركة النهضة، وعلى ذلك بنت خطتها السياسية باعتماد الحوار والمفاوضات والتنسيق السياسي والضغط لدفع الرئيس للتراجع عن خطواته الانقلابية. وقد نجحت إلى حد الآن في الحد من جموحه للتسلط، وعبأت ضغطاً دولياً غير مسبوق من أجل دفعه لتسريع المسار الديمقراطي.
هل تعتقد أن المواقف الدولية الرافضة لقرارات قيس سعيد يمكن أن تجعله يتراجع أو يُعدل في الطرح الذي اعتمده ؟
تونس عضو في نادي الدول الديمقراطية في العالم، وهي تختبر اليوم جدية هذه العضوية، وجدية الحقوق التي تمنحها إياها عضويتها في نادي الدول الديمقراطية، والتحرك الدولي والإقليمي القوي يبرهن بما لا يدع مجالاً للشك على أن تونس عضو كامل الحقوق في هذا النادي. فما إن أعلن الرئيس إجراءاته غير الدستورية حتى تسلط عليه ضغط قوي لدفعه للتراجع سواء من العالم الغربي أو من الدول الشقيقة. وما نراه اليوم من توجه للتراجع عن الإجراءات الاستثنائية المعلن عنها إلا نتيجة مباشرة لهذه الضغوطات.
لماذا ترددت القوى التي واجهت بورقيبة وبن علي في مواجهة سعيّد، باستثناء حزب العمال؟
على العكس من ذلك، فالقوى التي تصدت لنظام بن علي كانت مواقفها مبدئية وواضحة منذ البداية وإن اختلف تعبيرها عن موقفها. فأحزاب مثل الجمهوري (الديمقراطي التقدمي سابقاً) وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وحزب الحراك، وحركة وفاء (كلها متفرعة عن القوة السياسية التي كان يتزعمها منصف المرزوقي)، وحزب العمّال اليساري، وحزب ائتلاف الكرامة، وحزب قلب تونس (ثاني كتلة في الانتخابات الأخيرة)، وغيرها من الأحزاب التي اتخذت موقفاً رافضاً للانقلاب. ولم يتورط في دعمه إلا حركة الشعب المعروفة بضعف ثقافتها الديمقراطية.
هل من الممكن تأسيس جبهة سياسية مناهضة لما اعتبرتموه انقلاباً على الشرعية والدستور؟
هذا ما نعمل عليه الآن مع كل القوى المناهضة للانقلاب، وهناك مبادرات أطلقت في هذا الاتجاه ونحن منفتحون عليها جميعاً.
تطالب قوى مدنية وسياسية بضرورة الحوار بين كل الأطراف لتجاوز الأزمة الحالية. كيف تتفاعلون مع هذه الدعوة؟
نحن بدورنا ندعو باستمرار لحل كل الخلافات السياسية على طاولة الحوار، ونرى أن الثقافة السياسية التونسية المتينة تشجع على سلوك هذا المنهج. بل إننا كنا ندعو وحتى قبل 25 يونيو/حزيران 2021 للحوار، وتبنّينا مبادرة اتحاد الشغل للحوار الوطني. لكن حينها رفض رئيس الجمهورية إجراء هذا الحوار كما تلكأت أطراف أخرى لتتهرب من المشاركة فيه.
مثلما قدر التونسيين أن يعيشوا معاً وإلى الأبد على هذه الأرض، فإن قدرهم أيضاً أن يكون الحوار وسيلتهم الوحيدة لحل خلافاتهم.
يعمل الاتحاد العام التونسي للشغل، على صياغة مقترح خارطة طريق، هل تمت استشارتكم، وما هي المقترحات التي يمكنكم تقديمُها من أجل الخروج الهادئ من الأزمة برعاية القوى المدنية والاجتماعية؟
الاتحاد العام التونسي للشغل منظمة وطنية عريقة في البلاد، وهو يتحمل- إلى جانب كل القوى الوطنية- عبئاً كبيراً منذ الثورة وإلى الآن، ويساهم في كل محطة مساهمات رئيسية في تثبيت المسار الديمقراطي وتجاوز كل العثرات. لذلك سارع بوضع خارطة طريق كمبادرة منه للمساهمة في الخروج من الأزمة الحالية. سيعرضها اليوم الثلاثاء 3 أغسطس/آب 2021 على مجلسه الوطني للمصادقة، ومن المؤكد أنه ستتم موافاة كل القوى السياسية الفاعلة بنسخ منها لإبداء الرأي. عندها وبعد إطلاعنا عليه بشكل رسمي، سيكون بإمكاننا إبداء رأينا بها.
ما هي الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية لتعطيل المؤسسات الدستورية؟ وهل تعتقدون أن الأزمة القادمة ستكون أكثر حدة مما تعيش البلاد الآن؟
المشكل أننا جربنا الاستبداد لخمسين سنة، ونعرف مآسيه وحدوده. طوال هذه السنوات لم ينجح الاستبداد في حل معضلات البلاد. وما ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011 إلا تعبيراً واضحاً على فشل منظومة الاستبداد في تونس؛ لذلك نحن نعلم مسبقاً ما يمكن أن يدفعنا إليه أي مشروع استبدادي جديد. الديمقراطية وحدها والتشاركية والشفافية والحوكمة فقط هي التي يمكن أن تحقق التنمية في البلاد. لذلك أعربت منظمات الترقيم السيادي عن تخوفاتها من مزيد انحدار ترقيم تونس بسبب ما حدث. كما أن الشركاء الدوليين جميعهم أعربوا عن ترددهم في التعامل مع الوضع الجديد، ناهيك عن النزول الفظيع في قيمة الدينار التونسي وفي أسهم البورصة.
في الحقيقة لا يجب أن يستمر هذا الوضع طويلاً؛ لأن ذلك سيفقدنا كدولة ثقة شركائنا الدوليين وسيعرض وضعنا الاقتصادي والمالي لمخاطر إضافية.
الاقتصاد التونسي منفتح على الاقتصاد العالمي ويقوم على التصدير والسياحة والاستثمار الخارجي، وفي حالة تعطل هذه المحركات الثلاثة فإن البلاد ستجد نفسها في وضع غير مسبوق.
جاء في تصريحات بعض قيادات النهضة الاعتراف بتحمل الحركة جزءاً من المسؤولية في فشل منظومة الحكم وتسيير دواليب الدولة، وكانت قرارات قيس سعيد بمناسبة عيد الجمهورية نتيجة لذلك. هل تقر النهضة بالمسؤولية وتقدم نقدها رسمياً؟
لا نتهرب من مسؤولياتنا، ومن دون تبرير رغم أن المبررات قوية. لقد نبهنا باستمرار للأزمة الشاملة التي تعيشها البلاد وربما تكون بعض خياراتنا غير موفقة في المساعدة على التخفيف منها. كما لا شك اليوم من أن تعثر المسار الدستوري نتحمل فيه الجزء الذي يخصنا المسؤولية. وحتى الخيارات التوافقية التي أردنا من خلالها تأمين استمرار الانتقال الديمقراطي تحولت إلى عائقٍ أمام أي تغيير في الواقع. لقد وضعت حركة النهضة نفسها تحت إكراهاتٍ كثيرةٍ كان يسعها أن تخفف منها. لكنها للأسف لم تكن في أحيان كثيرة على بناء رؤى استراتيجية واستباقية وتعاملت مع الأحداث والإيغال في البراغماتية، ورد الفعل حتى أفقدها ذلك ميزتها وقدرتها على بناء بدائل ناجزة.
لكن حركة النهضة رغم كل ما يقال أكثر حزب يمارس النقد الذاتي في البلاد، وليس هناك مطلقاً أي جماعة حزبية مارست بمثل ما مارسته النهضة من نقد ذاتي.
وحتى إن النهضة أخطأت وفقدت شعبيتها نتيجة أخطائها، فإن الحل عندها لا يكون إلا بالذهاب للانتخابات من جديد، أما تبرير هذا الانقلاب بنصيب النهضة من المسؤولية عن الأزمة الحالية، فلو كانت كل ديمقراطية تتعرض إلى أزمة يبرر ذلك انقلاب أعدائها عليها لما بقيت ديمقراطية واحدة في هذا العالم.
هل يمكن القول إن النهضة فشلت في تجربة الحُكم؟ وأن عليها القيام بمراجعات جذرية؟
مشاركة النهضة في الحكم وعلى امتداد السنوات العشر الأخيرة اتخذت 3 أشكال: ترأست حكومتين لمدة سنة ونصف السنة، وشاركت بممثلين في 3 حكومات لمدة خمس سنوات ونصف السنة، ودعمت من الخارج حكومتين طوال سنتين. وبالتالي عندما نتحدث عن مسؤوليتها فيجب أن نضع في اعتبارنا هذه المستويات المختلفة من المشاركة. حركة النهضة تُحمَّل مسؤولية كل المرحلة السابقة لأنها قادت الانتقال الديمقراطي وليس لأنها كانت تحكم، وهذا صحيح.
تأجيل الدورة الـ52 لمجلس شورى النهضة مؤشر لأزمة داخل الحركة، إضافة إلى تأجيل المؤتمر الـ11 لأكثر من سنة ونصف السنة دون آجال واضحة مع مطالبات داخلية بتغيير القيادة. هل النهضة في أزمة داخلية تاريخية؟
حركة النهضة كأي كائن حيّ يحتاج لتجديد خلاياه حتى يؤمن لنفسه الاستمرار، وهذه سنة ربانية؛ لذلك لا أحد في حركة النهضة يقاوم التجديد. لكن يجب أن نتوقع أيضاً أن الحركة عمرها تجاوز نصف القرن، ومن غير الطبيعي ألا تتشكل داخلها رؤى مختلفة وحتى تيارات متنافسة. قد يكون ذلك علامة نضج وليس علامة ترهل وضعف. وقد يستدعي ذلك أيضاً ضخ مزيد من الديمقراطية في إدارتها وتطوير هيكلتها القيادية لما يجعلها قادرة على استيعاب كل الحساسيات وبما يمكّن لها جميعاً في القرار.
لذلك ليس عيباً أن يسبق المؤتمر نوع من التنافس، ولا حتى أن تفجر أزمة كالتي حصلت اختلافات مسكوتاً عنها، المهم في كل هذا هو وحدة الحركة وتقدير الأولويات. ما عدا ذلك ليس إلا من غبار طول الطريق وشدة وحشته.
ما هو النداء الذي يمكن أن توجهه النهضة اليوم إلى منخرطيها وأنصارها أولاً، ثم إلى عموم التونسيات والتونسيين؟
أولاً نحن نعقِد نيتنا بالله سبحانه وتعالى ونسلّم بما قدّره لنا جميعاً. فعمل الإنسان ليس هدفه تغيير الأقدار التي لا نعلمها وإنما بذل الوسع فيما نعتقد أنه الأصلح لنا في ديننا ودنيانا.
ثانياً نحن نعتبر أننا مسؤولون أمام الله عن كل من وثق بنا واتبع منهج عملنا؛ لذلك حرصنا على أن نحفظ في هذه الأزمة دماءهم وأعراضهم وكرامتهم، وأن نسلك طريقاً للدفاع عن الديمقراطية لا يكون أبناؤنا وقوده، بل رصيداً نحافظ عليها وندخره.
ثالثاً لكل التونسيين، لقد أخلصت حركة النهضة في الدفاع عن حقوقكم وخدمة مصالحكم، فان أخطأت فهو خطأ المجتهد الذي لا يمنع الاعتذار عنه.