حالة من الاستغراب سادت أوساط القانونيين في مصر بعد موافقة مجلس النواب المصري على مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون المحكمة الدستورية العليا بما يمنحها الحق في مراجعة مدى دستورية الأحكام الدولية التي تصدر ضد مصر وإعطاء الحكومة المصرية الحق في تنفيذ تلك الأحكام من عدمه.
مبعث الدهشة، يرتكز على أكثر من سبب، أهمها توقيت صدور القانون، حيث وافق البرلمان المصري يوم الأحد 27 من يونيو/حزيران، على المشروع بانتظار التصويت الرسمي عليه في جلسة لاحقة، مضيفاً أن القانون ظهر في وقت حرج للغاية؛ لأن الجميع ينتظر خطوات تصعيدية في ملف سد النهضة، وغالباً ستحتاج مصر للجوء إلى المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية العالمية لإثبات مخالفة أديس أبابا التشريعات الدولية بخصوص المياه التي تمر في أكثر من بلد.
لم يكن هذا هو التوقيت المناسب لأن نصدر قانوناً يقول للعالم إننا لا نعبأ بكل الأحكام التي تصدرها مراكز التحكيم أو المنظمات الدولية إذا لم تكن على رغبة رئيس الجمهورية والحكومة، فكيف يستقيم لجوؤنا إلى تلك المنظمات ونطلب منها إصدار قرارات ملزمة تجاه دولة أخرى، في وقت نعلن فيه أن قراراتها غير ملزمة لنا؟!
11 نزاعاً دولياً ربحتها هيئة قضايا الدولة لصالح مصر
يقول حقوقي أن قسم المنازعات الخارجية بهيئة قضايا الدولة تمكن خلال الأعوام السبعة الماضية، أي منذ تولي السيسي منصبه كرئيس لمصر، في الحصول على 11 حكماً لصالح مصر أمام هيئات التحكيم الدولية والمحاكم الأجنبية، من أصل 25 قضية مرفوعة ضد مصر في منازعات استثمارية دولية، وأن قيمة المبالغ التي تمكنت هيئة قضايا الدولة من تجنيب الخزانة العامة دفعها في تلك الفترة بلغت حوالي 6 مليارات و183 مليون دولار أمريكي و174 مليون يورو بخلاف مليارين و4 ملايين جنيه مصري، تمثل قيمة مطالبات المستثمرين في تلك المنازعات.
أي أن الدولة تسير في الاتجاه الصحيح ونجحت عبر أجهزتها المعنية في كسب العديد من القضايا المرفوعة أمام المحاكم الدولية -والكلام لا يزال لعضو مجلس نقابة المحامين- فلماذا تصدر قانوناً مثل المزمع صدوره وكأن مصر تخرج لسانها للعالم، وتدخل نفسها في فقاعة قانونية ربما تفرض عليها عزلة إجبارية وتكلفها الكثير اقتصادياً وقانونياً وحتى سياسياً؟!
واختتم تصريحه بالقول إن مصر كانت طرفاً في 33 قضية أمام الأكسيد (المركز الدولي لفض المنازعات التابع لمجموعة البنك الدولي) فصل في 25 منها ولا تزال 8 أخرى قائمة، وربما تخسرها أو تكسب بعضها وتخسر الآخر، لكن من المؤكد أن الحل ليس بالاستعانة بالمحكمة الدستورية العليا كذريعة لعدم تنفيذ الأحكام الصادرة ضدنا وإنما في الاعتماد على من يفهمون في القوانين الدولية، مثل هيئة قضايا الدولة، ودعمهم للحصول على حق الدولة أمام تلك الهيئات الدولية.
يقول أستاذ في القانون الدولي لـ"عربي بوست" إنه في حالة التصديق على القانون، وعدم اعتراف مصر بأحكام التحكيم الدولي إن صدرت ضد مصر أو ضد أية شركات مصرية، فإن ذلك يعني عدم الثقة في التعامل مع مصر والاقتصاد المصري والشركات المصرية في الخارج، لأنه في حال صدر حكم من المحكمة الدستورية بعدم الاعتراف ورفض قرار هيئة التحكيم الأجنبية ضد الحكومة أو شركة مصرية بالخارج، لن تعترف المحاكم الأجنبية بحكم المحكمة الدستورية المصرية، وستقوم بتفعيل قانونها المحلي أمام الشركات والممتلكات المصرية على أراضيها وهذا يعني "تأميم" أو "مصادرة" الممتلكات المصرية لسداد قيمة التحكيم الدولي المفروضة، وربما يُعرض مصر لعقوبات دولية.
القانون يتضمن تعديلين يتعارضان مع التزامات مصر تجاه الاتفاقيات الدولية الموقعة عليها
جدير بالذكر أن مشروع القانون يتضمن تعديلين بقانون المحكمة الدستورية العليا الذي يحمل رقم 48 لسنة 1979، الأول بإضافة المادة 27 مكرر التي تنص على أن تتولى المحكمة الدستورية العليا الرقابة على دستورية قرارات المنظمات والهيئات الدولية وأحكام المحاكم وهيئات التحكيم الأجنبية المطلوب تنفيذها في مواجهة الدولة.
بينما تنص المادة 33 مكرر على أنه على رئيس مجلس الوزراء أن يطلب من المحكمة الدستورية العليا الحكم بعدم الاعتداد بالقرارات والأحكام المشار إليها في المادة 27 مكرر أو بالالتزامات المترتبة على تنفيذها.
واستهدفت التعديلات -بحسب مصدر في المحكمة الدستورية العليا طلب عدم ذكر اسمه- قطع الطريق على أي حكم دولي يصدر ضد مصر، أو ضد أي قرار ملزم لها بدفع مستحقات أو تعويضات مالية أو أدبية، أو الالتزام بنصوص معينة من معاهدات دولية، أو توقيع عقوبات تتطلب رفع الضرر الواقع على أشخاص، أو أطراف أو جهات، من خلال تقدم رئيس الوزراء بطلب إلى المحكمة الدستورية لوقف تنفيذ تلك الأحكام أو القرارات، بحجة مخالفتها لنصوص الدستور المصري.
لكن المصدر عقَّب على مشروع القانون بوصفه كارثياً في آثاره على مصر، خصوصاً أنه يخالف بشكل صريح اتفاقية فيينا، التي وقعت مصر عليها، بشأن المعاهدات الدبلوماسية، والحاكمة لجميع اتفاقيات الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، والتي تسمح للدول بالتحفظ على بعض مواد أو بنود الاتفاقيات التي توقّع عليها، ليكون تنفيذها مقيداً بالنصوص الدستورية المحلية. لكنها تحظر وقف تنفيذ القرارات والأحكام الخاصة بتلك الاتفاقيات، أو المترتبة عليها بأحكام قضائية محلية.
كما أن التعديل يخالف التزامات مصر الدولية المستقاة من اتفاقية واشنطن لعام 1965، وكذلك اتفاقية المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار التابع للبنك الدولي بواشنطن "الأكسيد" التي انضمت لها مصر عام 1971. وبناء على ذلك قبلت الدول 163 -الموقعة على الاتفاقية- وبينهم مصر جريان التحكيم في الأكسيد تحت رعاية البنك الدولي، وفقاً لأحكام اتفاقية واشنطن وليس الدستور المصري.
رئيس اللجنة التشريعية في البرلمان المصري يدافع عن القانون
من جانبه دافع المستشار إبراهيم الهنيدي رئيس اللجنة التشريعية بالبرلمان المصري عن القانون، قائلاً إنه لم يعطِ المحكمة الدستورية اختصاصاً عالمياً كما يشاع، وإنما منحها اختصاصاً إقليمياً يخص الأحكام الأجنبية التي يتم تنفيذها على أرض مصر، ولم يخرج عن الاختصاص الولائي للمحكمة الدستورية، وإنما أعطاها اختصاصاً من جنس وظيفتها، كما أن القانون لم يقلل من الثقة الواجب منحها للاستثمار وإنما المحكمة الدستورية تلتزم في شأن الأحكام الخاصة في مسائل الاستثمار في أعمال الدستور وتشجيع الاستثمار والتصدير وتنظيمه، مؤكداً أنه لا أحد في البرلمان المصري ولا لجنته التشريعية يتخوف من أن تخرج المحكمة الدستورية عن الاختصاصات الممنوحة لها، ولدينا سوابق كثيرة التزمت فيها بالحفاظ على الدستور ومجال تطبيقه في مصر.
باحث بإحدى المنظمات الحقوقية المصرية وصف في تصريح خاص لـ"عربي بوست" ما حدث خلال مراحل إعداد القانون حتى تمريره من البرلمان بـ"المهزلة"، بداية من قيام وزارة العدل بما يتوفر لها من خبراء قانونيين يعتبرون نماذج مشرفة في مجالي القانون المحلي والدولي، بإعداد المشروع وتقديمه إلى البرلمان، مروراً بالجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا، حيث وافقت بالإجماع خلال 48 ساعة فقط على مشروع القانون الذي حولته لها اللجنة التشريعية بالبرلمان لمناقشته وإبداء الرأي، لكن القضاة الأفاضل لم يناقشوا أو يبحثوا آثار القانون على البلاد، لأنه يصعب جداً تصور قيامهم بمناقشة القانون وتبعاته خلال يومين، وإنما وافقوا عليه بالإجماع رغم ما يحمله من اختصاصات جديدة وخطيرة، تمثل نقلة نوعية ربما لا نجد لها تطبيقاً في قوانين الدول الأخرى.
وأضاف قائلاً إن تلاعب الدولة في القوانين التي تحكم النزاعات الناشئة بينها وبين المستثمرين الأجانب على أراضيها، يقود بشكل حتمي إلى هروب الاستثمار الأجنبي من أراضيها، لأنه لن يجد من يضمن له الحصول على حقوقه في حالة الخلاف مع تلك الدولة، أي أن القانون المشار إليه يدمر مستقبل الاستثمار في مصر، في وقت يبذل فيه الرئيس ورئيس الحكومة جهدهما لتشجيع الاستثمار الأجنبي.
هل صدر القانون لمواجهة "نزاعات متوقعة" حول الاستثمارات الإماراتية في مصر؟!
محامي وناشط قانوني قال لـ"عربي بوست" تعليقاً على ما يدور حول الأسباب الحقيقية أو لنقل "الخفية" لصدور القانون، مؤكداً أنه لا أحد يعلم السبب الحقيقي لصدوره، لكن من المؤكد أن كل ما قيل حتى الآن سواء من المدافعين عنه أو المنتقدين له غير دقيق، مضيفاً أنه تواصل بشكل مباشر مع عدد من نواب البرلمان ومسؤولين في وزارة العدل والمحكمة الدستورية تربطه بهم علاقة جيدة، لمعرفة خلفيات صدور القانون في هذا التوقيت الحرج، لكن أحداً منهم لم يكن يملك فكرة واضحة.
وأضاف المحامي أن ما يقال عن أن القانون يهدف لمواجهة عقوبات أوروبية متوقعة على مصر بسبب قضية مقتل الباحث الإيطالي ريجيني غير صحيح، مطالباً الناس بالتفريق بين العقوبات القانونية والسياسية أو الاقتصادية، فالعقوبات القانونية ليست من سلطة أي دولة أو هيئة دولية ضد دولة ما، خصوصاً أن مصر لم توقع على الاتفاقية الجنائية الدولية التي تسمح بمحاكمة مسؤولي الدولة أمام المحكمة الجنائية الدولية.
وبالتالي فلا خوف على مصر أو مسؤوليها من عقوبات قانونية ملزمة تجاههم، أما العقوبات السياسية أو الاقتصادية فلا تحتاج إلى مراكز تحكيم دولية أو منظمات عالمية وإنما تفرض بشكل مباشر على الحكومات أو الأفراد.
وأضاف أنه ربما يتعلق الأمر تحديداً بنزاعات متوقعة مع دولة الإمارات بخصوص استثماراتها في مصر في ظل التردي المتواصل في علاقة البلدين في الفترة الأخيرة، مضيفاً: "هذا الكلام سمعته من البعض، لكنني لم أُعره اهتماماً في وقته، وليس لديَّ معلومات واضحة لمعرفة هل الاستثمارات الإماراتية في مصر تحتمل ما يجعلها محل نزاع دولي بين البلدين لدرجة تجعل مصر تحصن نفسها بقانون غريب مثل المتوقع صدوره قريباً؟!".