أعاد العدوان الإسرائيلي على غزة تسليط الضوء على فلسطينيي الداخل، الذين تجندوا لدعم أبناء بلدهم في القدس وغزة، والذين أيضاً احتجوا على سياسة القمع والبطش والتمييز التي تتبناها إسرائيل ضدهم، رغم عيشهم داخل "خطها الأخضر".
ويواصل فلسطينيو الداخل المحتل هبتهم الشعبية التي ازدادت زخماً مع تنفيذ إضرابٍ شاملٍ دعت إليه لجنة المتابعة العربية يوم الثلاثاء الماضي، احتجاجاً على السياسة الإسرائيلية.
وتأتي هذه الهبة لفلسطينيي الخط الأخضر مع تصاعد حدة الاشتباكات في عشرات البلدات والقرى، تركزت في اللد وحيفا وعكا وسخنين ويافا وكفر كنا، وأدت لإصابة العشرات من المتظاهرين واعتقال الشرطة لمئات آخرين.
ويشكل فلسطينيو الداخل 20% من سكان دولة الاحتلال بواقع 1.9 مليون نسمة، ينحدرون من 160 ألف فلسطيني بقوا في فلسطين إبان نكبة 1948، ومرت تجربتهم طوال هذه الفترة بكثير من المحطات عنوانها سعي إسرائيل "لأسرلة" المجتمع، ولكنها فشلت في تحقيق هذا الهدف، بالنظر إلى اشتعال هذا الحراك الثوري.
فلسطينيو الداخل.. تمييز اجتماعي
تعيش إسرائيل مرحلة طوارئ بعد أن تفجرت جبهات القدس والداخل والضفة الغربية في وقت واحد، مع استمرار العملية العسكرية في غزة، وهي حالة استثنائية لم تشهدها من قبل، لذلك فإنها تخشى من تداعيات الإضراب أن يؤثر على سير العدوان على غزة.
جهاد عيد الله هو إعلامي فلسطيني يعيش في داخل الخط الأخضر، قال: "نحن فلسطينيي الداخل نعيش اليوم في ظل الاحتلال، فالشعب الفلسطيني إذا كان يعيش في الداخل أو الضفة أو قطاع غزة تُمارس ضده كل أساليب القمع، والنهج الإسرائيلي الصهيوني هدفه قتل وتهجير كل المواطنين الفلسطينيين، هذا القمع الذي تمارسه إسرائيل على كل منطقة حسب خاصيتها".
وأضاف وأضاف في حديث مع "عربي بوست": "يتم تهجيرنا وقتلنا وقمعنا عن طريق تشتيت الهوية حتى لا تعرف هل أنت عربي فلسطيني؟ أم عربي إسرائيلي؟ أو عربي فلسطيني بجنسية إسرائيلية؟ لكننا اليوم نؤكد أن الجميع يعيش تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، ولا فرق بيننا وبين أبناء بلدنا في الضفة أو في غزة، ففي غزة والضفة يتم القتل وعندنا تتم الأسرلة".
وقال المتحدث: "نحن لسنا جزءاً من النسيج الإسرائيلي، نحن عرب فلسطينيون نعيش داخل إسرائيل، نطالب بحقوقنا الشرعية والقانونية كمواطنين وندفع للحصول عليها، لكن في المقابل نحن مجتمع لدينا أنظمتنا ومؤسساتنا وأحزابنا ولجاننا التي تمثلنا".
وعن مستوى عيش فلسطينيي الداخل قال إن "هناك عنصرية تمارسها إسرائيل على الفلسطينيين في السكن وفي أماكن العمل وفي التعليم، فالطفل منذ اليوم الأول يتلقى تعليماً بمنهاج إسرائيلي يُشوه له الهوية، غير ذلك فنبقى نعيش في درجة أقل بكثير من المواطن الإسرائيلي".
وأشار المتحدث إلى أن "إسرائيل حاولت أنها تُدمج عرب الداخل في مجتمعها ونجحت مبدئياً، لكننا نبقى شعباً همنا الوحيد فلسطين ولدينا قضيتنا، وأنا شخصياً تم اعتقالي مرتين ، بسبب انتمائي ولأنني أحافظ على هويتي".
رأي عيد الله يُوافقه عليه تامر نافر، مغني الراب الفلسطيني الذي يعيش في مدينة اللّد المحتلة، والذي قال لـ"عربي بوست" إنهم كـ"فلسطينيي الداخل يعيشون تحت إمرة قوانين عنصرية تميز بين العرب وبين الإسرائيليين".
وأضاف المتحدث أنه "في صفوف العرب الفلسطينيين، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين تُسجل نسبتي البطالة والفقر عاليتين، مقابل ذلك تبقى نسبة التعليم متدنية جداً، ومدخُول الأسر قليلٌ جداً، وليست هناك تراخيص للأسر العربية لبناء البيوت".
وقال نافر: "نحن مواطنون من الدرجة الأخيرة، فالبلد تقدم نفسها كيهودية، لو مثلاً وجدت مواطناً مغربياً يهودياً يمكن القول إنه يُعامل كمواطن من درجة ثانية، لكن نحن كمسلمين ومسيحيين لسنا جزءاً من هذا المجتمع، نحن آخر شيء هنا".
واعتبر المتحدث أنه "في الـ20 سنة الأخيرة، منذ أن صعد اليمين للحكومة الإسرائيلية، أصبحت إسرائيل تبيع الهوى لفلسطيني الداخل، لا شيء مجاني، كما أنها قبل سنتين قررت إصدار قانون القومية، لتقول إن هذه الدولة يهودية".
مواطنون من درجة "أخيرة"
جزء كبير من التوتر الجاري في الداخل المحتل، مرتبط بتراكمات من السياسات الإسرائيلية العنصرية ضد المواطنين العرب، تشمل قوانين وإجراءات أقرتها الحكومات المتعاقبة تنتقص من الحقوق المدنية والسياسية لهذه الفئة باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثالثة، فضلاً عن تضامنهم مع المسجد الأقصى، واحتجاجهم على العدوان في غزة.
رضوان جبارين، الناشط السياسي والحقوقي من منطقة المثلث في الداخل، قال لـ"عربي بوست" إن "الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لا تزال تنظر إلى فلسطيني الداخل على أنهم أقلية غير مرحب بهم، لذلك نجد هذا التمييز في الوظائف الحكومية والحقوق السياسية والاقتصادية والدينية، كما أن الدولة تمارس هذا التمييز الطبقي القائم على الهوية الوطنية والدينية على أمل أن يغادر الفلسطينيون أرضهم من خلال قوانين وسياسات ليس آخرها دراسة قانون نزع صفة المواطنة منهم وترحيلهم إلى مناطق السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية".
وأضاف المتحدث أن "الخطر الأكبر الذي تخشاه إسرائيل أن تؤدي سياساتها العنصرية على مدار العقود السبعة الأخيرة إلى نتائج عكسية تمثلت في هذه الهبة الشعبية عبر تمسك الفلسطينيين بهويتهم السياسية والوطنية، وباتوا متمردين على الحالة الراهنة، لذلك يأتي إضراب يوم الثلاثاء ليؤكد أن فلسطينيي الداخل لا يزالون يشكلون رقماً صعباً في المعادلة السياسية والاجتماعية".
وأظهرت نتائج استطلاعات للرأي أجراها مركز "غوتمان" لدراسات الرأي العام، ومعهد إسرائيل للديموقراطية، أن 40% من الجمهور الإسرائيلي أبدى قلقه من ارتفاع نسبة الأطباء والممرضين العرب بالمستشفيات الإسرائيلية، و15% يعارضون وجود لاعبين عرب في المنتخب، و43% يشعرون بالانزعاج عند سماع اللغة العربية، و51% من اليهود يرفضون بناء علاقات اجتماعية وثيقة بين أطفالهم وأطفال العرب، و76% من الأبوين يرفضون أي نوع من المصادقة بين أبنائهم.
نهاد أبوغوش، الباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" قال لـ"عربي بوست" إن "كل المحاولات الإسرائيلية لـ"أسرلة" فلسطيني الداخل فشلت بالنظر إلى أن هذا الصراع قائم على الهوية الوطنية، وليس على الحقوق والمكاسب الاقتصادية، كما أن الزخم الذي اكتسبته الهبة الشعبية الحالية من خلال توحد راية الفلسطينيين حول قضية القدس ستدفع بصانع القرار في إسرائيل للتفكير بأن هذا المجتمع العربي لا يمكن أن يكون جزءاً من أي مشروع أو غطاء لتمرير قضاياه الوطنية، حتى لو تعرض لخذلان من الأطر السياسية التي تدعي أنها تمثل المجتمع العربي في الكنيست".
خذلان سياسي والقضية واحدة
يُمكن تحديد أبرز أشكال التمييز الإسرائيلي ضد فلسطيني الداخل بأنهم يمثلون 5% فقط من موظفي القطاع الحكومي في الدولة، رغم أنهم يمثلون 21% من إجمالي سكانها، ويبلغ مستوى الأجور والدخل في المدن العربية 60% من معدل مستوى الأجور في البلدات اليهودية، وهناك 58% من الأسر الفلسطينية في الداخل تحتاج إلى وحدة سكنية على الأقل خلال السنوات العشر الأخيرة، ولم تتمكن 43% منها من بناء أي وحدة سكنية خلال السنوات العشر الأخيرة.
نظير مجلي، الكاتب والمحلل السياسي من الناصرة، قال لـ"عربي بوست" إن "موقف الأحزاب العربية ممثلاً بالقائمة المشتركة التي تضم الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والتجمع الوطني، والحركة العربية للتغيير والفعاليات الشعبية ذات التوجه الإسلامي واليساري ساندت هذا الحراك، ووفرت ما يشبه الغطاء السياسي الذي بحثت عنه الجماهير العربية، باستثناء موقف منصور عباس الذي تحفظ على مسألة الإضراب حتى يبقي على حظوظه في الدخول؛ أي حكومة قد تتشكل من اليمين أو الوسط".
وأضاف المتحدث أن "مسألة الإضراب أخذت نقاشاً واسعاً بن الأطر السياسية العربية، وجرى التوافق على أن يكون ذا طابع سلمي ونضالي يحمل رسالة أننا لا نسعى للتخريب والإضرار بالدولة، لذلك تم استثناء قطاع الصحة والمدارس للأشخاص ذوي الإعاقة من الإضراب، لنضمن فاعلية عمل هذه القطاعات في هذا الظرف الطارئ، لكن بقية القطاعات ستلتزم به".
وحمل إضراب يوم الثلاثاء رمزية كبيرة بعد أن دعمته الفصائل الفلسطينية بالدعوة لإضراب شامل في الضفة الغربية والقدس، ما أكسبه أهمية بالنسبة لتحرك الفلسطينيين للمرة الأولى تحت لواء قضية وطنية وهي نصرة القدس، كما فعلت غزة.
عصمت منصور، المختص في الشؤون الإسرائيلية من الضفة الغربية، قال لـ"عربي بوست" إن "انضمام الضفة الغربية للدعوة إلى إضراب الداخل من شأنه أن ينقل الحالة السياسية الفلسطينية إلى مربع جديد، سيكون لها ما بعدها من خلال كسر وتغيير المنهج الإسرائيلي بالتعامل مع كل قضية في المناطق الفلسطينية على حدة، وهو ما تخشاه إسرائيل، وسيدفعها لتقديم تنازلات ليس أقلها احتواء المطالب الفلسطينية، والإقرار بشرعيتها، والعمل تحت هذا الضغط الشعبي الذي ينفجر لأول مرة منذ عقود بهذا الشكل".
وأضاف المتحدث أن "البعد الآخر لانضمام الضفة الغربية للإضراب يعني أن كل محاولات التهميش وطمس وإلغاء الهوية ودمج المجتمع و"الأسرلة" والمقايضات والحقوق الفردية، لم تعُد مجدية سياسياً، ومن زاوية أخرى كسرت الضفة الغربية القناعة الإسرائيلية التي حاولت ترسيخها على مدار السنوات الماضية بأنه مجتمع يهتم بالرفاه الاقتصادي، وليس له أي اهتمام بالقضايا الوطنية".