في الحربِ الأولى 2008 استشهد خالي، ابتلعهُ صاروخٌ مسعور حتَّى إننا لم نر وجههُ الجميلَ وهوَ ملفوفٌ أمامنا في وداعهِ الأخير، كان سيتزوجُ في ذلكَ العام لكنهُ استشهد.
يومَها أصبحتُ كاتبة!
حتَّى بعدَ هذهِ الأعوام مازلتُ أدخلُ غرفتهُ وأفتحُ ثيابهُ المعلقةَ وأشمها، مازلتُ أغلقُ على ذكرياتي القليلة معهُ في درجٍ أسفل الذاكرة وأفتحهُ كلَّ يوم، مازلتُ أحتفظُ بصورةٍ صغيرة لهُ في محفظتي، مازالت الأعراس مرادفاً لي للفقد، مازلتُ أستدعي اسمهُ وملامحه، وأحبُّ دونَ وعي من يشبهه، ولا يمر بي حدث لا أتمنى أنه معي به، مازلت لا أجرؤُ على الكتابة عن قصته/قصتي، الأمر أشبه ببابٍ مختومٍ بالشمع الأحمر في غياهب القلب المفجوع، أريد الاحتفاظ به مختوماً وصامتاً ولكن لا أريدُ فتحه.
الذينَ نفقدهم لا يرحلونَ ببساطة، يتحولون إلى شكلٍ آخرَ من أشكال الحياة في عظامنا وأجسادنا، في وجوهنا، تصيرُ قلوبنا منازل لهم، وتصيرُ منازلهم قلوباً لنا، تحملُ الأماكن منهم ما تحملُ الأرواح، لا يعود الإنسان من الفقدِ كاملاً أبداً، ولا يعود كما كان مهما ادَّعى ذلك، الفقد هو اقترابنا نحنُ من الموت شيئاً فشيئاً، الحياة تُلهِينا ولكن لا تنسينا، ولا يصيرُ الأمرُ أهون بمرور السنوات أبداً.
تصفعُنا في الشوارع صورهم، أسماؤهم على الجدارن، شهاداتهم الجامعية أو المدرسية في الأدراج، ثيابهم، رائحةُ أحلامهم في خزائنهم، تصفعنا نجاحاتهم التي لم تتم، وأفراحهم التي لم تحصل، وذكرياتنا معهم التي نتخيلها ولم تحدث، الأماكن الفارغة منهم أكثر من الأماكن الممتلئة بنا.
كل شهيد هو عالمٌ من القصص، دفترُ حكايا، ومزرعة دموع، وتاريخُ إنسان.
لا يمكننا أن نحصيَ الأسماء فقط، من المخجل أن نمرَّ عليهم هكذا بدون تأملٍ في ملامحهم، بدونِ معرفةِ قصتهم، بدون وضعِ يدنا على كتفِ أحبتهم، بدون البكاء طويلاً سبعةَ أشواط على الأقل.
خرجَ حمزة ليشتري الخضار لأهله، هو طفلٌ عادي ليسَ بطلاً، خرج من بيتهِ على قدميه وعاد محمولاً وما بين هذهِ المسافة كل تلك القصص التي لا نعرفها ولكننا نتخيلها لأننا جميعاً في فلسطين نعرفُ ما معنى الفقد، وما معنى الموت ونعرفُ أنَّ أمهُ ستخطئُ كثيراً في الأيام القادمة وستنادي عليه ولن يرد، ستصمت وتتذكر ثم تبكي.
نعرفُ أنها ستشمُّ ثيابه، وسترتبُ غرفته، وستصنعُ طعامهُ المفضل وسيكون مالحاً لأنها ستبكي كثيراً وهيَ تعده. نعلمُ أنَّ مقعدهُ في الفصل سيكون فارغاً، وأنه لن يكتبَ اسمهُ على السبورة في الحضور والغياب فسجل الشهداء لا حضور فيه ولا غياب.
عندما تمرون على أسماء الشهداء، صورهم، منازلهم، عيون أحبتهم، أحزانهم الزجاجية، قفوا قليلاً، تنهدوا، اصمتوا، ثمَّ اقرأوا الفاتحة عليهم وعلى القدامى وعلى الذين سيرتقون فيها بعد.
وتذكروا قصصهم، لأن معركتنا ليست مع الموت بل مع النسيان ونحنُ شعبٌ لا ينسى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.