حين يقترب من الإنسان الموت، يزهد في الحياة، هكذا حال البشر كلهم إلا أهل "فلسطين"، كُلما اقترب منهم الموت رحبوا بِه كزائر تعودوا زيارته وأكملوا في حياتهم غير آبهين بكل زلزلة تدمر البيت من حولهم، فتراهم من تحت الأنقاض ينهضون، وبابتسامة راضية يرابطون، لا يصرخون إلا ليعلو صوتهم على أصوات القصف.
إن سألتهم كيف حالكم؟ قالوا والله بفضل الله ثابتون ومعنوياتنا عالية، ثم يحكون لك عن استشهاد هذا وذاك من الأهل وكأنهم يزفون إليك خبراً عادياً جداً، خبراً هادئاً مستكيناً. تحضَّروا للعيد وخبزوا الطعام وأعدوا المعمول، ثم يحدث قصف يزلزل أركان البيت، يهدأ الوضع قليلاً، فيكملون طقوس العيد.
أهل الرباط يعلموننا دروساً في الصبر والثبات، يعلمون كل إنسان أن الخوف شعور يدفع للدعاء، والحزن شعور يدعو للهدوء والاستكانة، وأن الإيمان يطمئن الروع، والعقيدة تثبت الأقدام، وتدفعهم دفعاً لغرس كل فسيلة في الدنيا رغم تحقق الدمار.
ولكن ويل لقلوبنا، تتصدع هاهنا من أجلهم، البعض لا يستطيع الحياة، وتشل أركانه فقط لأنه يتابع أخبارهم. لم نتمرس على الرباط والحياة معاً، ترفهت قلوبنا في الحياة للأسف، تعودنا الاستغراق في كل شعور حتى يأكلنا، تعودنا إن أتانا الحزن أن نقعد معه ولا نتحرك، وإن أتانا الابتلاء تتصدع معه أركان الحياة.
هذا حال نعمة الأمن والأمان وتوابعها على القلب إن لم نحرص على جهاد هذا الاستغراق، فيضيع علينا الجمع بين كل محور في الحياة. احزن، واستمر في العطاء، اغضب نصرة لدينك وابتسم لأهل بيتك، خف عليهم واستمر في الدعاء.
نحتاج إلى أن نتعلم من أهل الرباط قوة تسليمهم لكل شيء، حتى مشاعرهم، التسليم هو الذي يجعلك تحيا رغم كل شيء، التسليم يؤتيك من الدنيا ما يرضيك، ولا يجعل لك في الحياة هما، هاهم يحيون رغم الموت، وها نحن رغم الحياة قلوبنا على وشك الموت، ويموت القلب بعدم التسليم.
نعم فنحن في حالة رفض دائمة ومقاومة مستمرة لكل حال نستشعرها، لا نريد أن نشعر بالخوف، نكره أن يملأنا الغضب، نخاف إن شعرنا بالحب، نريد أن نظل في سعادة دائمة، نقلق من كل متغير، ونحبط من كل توقع ليس بآت، نريد السيطرة على كل شيء، ولا تعلمنا الأحداث سوى أننا ليس لنا من الأمر شيء.
الله وحده المهيمن، القاهر فوق عباده، دورك ليس سوى القبول والتسليم، تسلم بأنك تخاف، وتُطمئن الخوف بأن الله قيوم عليك، فتهدأ، تتقبل الغضب وتعلم أنه يطالبك باسترداد حقك، وقبل استرداده عليم بمراقبة نفسك هل هو حقك فعلاً أم قد يكون هناك تصور آخر لم تبصره؟ وتتوكل في الحب وتخاطر، فأنت تعلم أن السعادة ليست بنشوة اللحظة إنما بقلب يشعر بالطمأنينة، نتيقن أن سنة الحياة التغيير فنسلم لكل متغير، ونتوكل على الله في كل ما يشق علينا ونتوقف عن التوقعات، دوماً نخاطب أنفسنا برؤية العديد من التصورات فلا نركن لتصور أوحد يقتل فينا الرغبة في الحياة.
وما علينا سوى تعلم حالة السكينة والطمأنينة تلك التي شهدناها عليهم ونستدعيها كحالة نعامل بها كل الأحداث التي تزلزل قلوبنا فنسلم يقيناً لا كلاماً، فليس كل من يتنفس يحيا، حياة القلوب كلها فيمن استسلم، فأبصر حقيقة كل شيء.
الاستسلام لله، يجعل أعاصيرك تهدأ، فتستطيع الرؤية، وتتولد البصيرة، ومع البصيرة يأتي التخلي، التخلي عن كل تصور يعقد لنا الحياة، والتخلي عن كل رغبة في السيطرة على زمام الأمور، وما يلقاها إلا الذي وقف على عقله وهذب معانيه، ووقف على قلبه وطمأن روعاته بقوة يقينه في الله وغذى روحه بتمام التسليم.
حينها فقط، نكون نحن أيضاً قد جاهدنا، فلعلنا نكتب مثلهم من المرابطين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.