عندما كنّا صغاراً لا يتعدى طولُنا إلا بعض الذكريات والكثير من البراءة اصطحبني أبي أول مرة للمسجد، وأخذ المصلون يصطفون كاللؤلؤ المكنون في محارته، وأخذ الإمام يدعو في خطبته العصماء أن ينصر الله القدس المسلوبة، وأنه يجب ألا يترك كل ذي حق حقه، ثم كبرنا أكثر وأخذ يضيف بأن يحمي غزة الصمود من كل عدوان غاشم، وأخذنا نكبر ونكبر وتزداد الدعوات أفقاً، وبدأت القائمة تتسع بشراهة، وكلمات الدعاء تتزاحم بالرحمة لإخواننا المرابطين في الأقصى، وكانت الحسرات تتصاعد للسماء من أفواه المصلين وكلمة "آمين" تفزع قلوب فرعونَ كلِّ أمةٍ كَتَبَ المذلة والشقاء على أمته، حتى كبرنا شباباً وتربينا على حب فلسطين والدعوات لقدسنا مستمرة.
ويبدو أن هذه الدعوات آتَتْ أكلها أخيراً، وكما ذكر الله تعالى أهل الكهف بقوله: (هؤلاء فتية آمنوا بربهم)، فكذلك فتية فلسطين الأبرار الذين وقفوا بصدور عارية وجهاً لوجه مع المحتل وعيونهم تلمع بالإصرار والتحدي، فرغم تدليس الإعلام إبّان الفترة الماضية بأن الشعب الفلسطيني كسب أجره جراء بيعه قضيته وبأنهم خونة لأرضهم ولضمائرهم، فإن الشباب المنتفض لجم الأفواه العفنة التي نطقت كذباً وبهتاناً وطعنت في شرفهم. إن البطولة التي سطّرها الشباب الصائم المرابط الذي قال كلمة حق بوجه سلطان جائر أشرف وأطهر من أن تدنسها أفواه كتب لها ما يجب أن تقوله.
وكما يقول الشاعر "لا يؤلم الجرح إلا من به ألم"، تمسي وتصبح بغداد على أخبار فلسطين ودعوات المساجد ترتفع للسماء مستغيثة بالله الواحد القهار لنصرة أبطال الأقصى على عدوهم، وقلوبنا تحترق مما يحدث، كوننا مررنا بنفس أزمة إخواننا من قصف وقتل وتهجير، نفس الألم ونفس العدوان، ولا نتمنى أن يصيب إخوتنا الألم ولا نريدهم أن يتجرعوا من نفس الكأس التي تجرعناها.
ولا نستغرب من موقف المجتمع الدولي مما يحدث في فلسطين وسكوته المخجل، كونه لا يقف على أرض أخلاقية تميز بين الخير والشر، بل يقف على أرضية مادية بحتة، فبالنسبة له الحق مع الأقوى، بغض النظر إن كان القوي على حق أم لا؟ والضعيف على باطل أم لا؟ فبذلك تقدموا للهاوية وتراجعوا قروناً وعادوا لخانة اليَكّ، عندما كانوا في الجاهلية إذا سَرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الفقير أقاموا عليه الحد.
ولا يجد المجتمع الدولي أي حرج في تشريع قوانين للمثليين وقوانين للحيوان، وتقوم قائمة الدنيا لو جرح كلب أو ضلت قطة طريقها، لكنهم يجدون حرجاً بالغ الأثر وتُكمم الأفواه وتصم الآذان عما يحدث من جرائم قتل وتهجير قسري بحق الفلسطينيين، وكأن شيئاً لم يكن! يملكون إنسانية عظيمة تدعو للضحك بعيدة عن أي تصرف إنساني مبنيٍّ على قاعدة أخلاقية.
كل سكوت عما يحدث في القدس هو خيانة لأمانة الضمير (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)، فلا تكن رمادياً في مثل هذه الأوضاع، فكل سكوت هو ذل وضعف ومذلة، وتذكر أن أعظم أجر هي كلمة حق بوجه سلطان جائر، وأن أضعف الإيمان أن تنطق بالحق وتشارك ما يحدث في فلسطين في صفحاتك، وتنصرهم، فإن ارتفاع الظالم لا يعني إهمال الله له، فكلما زاد الارتفاع كان السقوط مرعباً ومدوياً.
وعلموا أولادكم أن فلسطين محتلة، وأن المسجد الأقصى أسير، وأن الكيان الصهيوني عدو، وأن المقاومة شرف، وأنهُ لا توجد دولة اسمها إسرائيل، فاللهم كما كنت عوناً لسيدنا محمد عليه الصلاة السلام يوم الطائف كن عوناً لهم وأيدهم بنصرك، وكما كنت عوناً لإبراهيم يوم أن حاول القوم حرقه فاجعل النيران برداً وسلاماً على غزة، وكما نصرت موسى عليه السلام يوم أن شق البحر له وأغرقت الظالمين فانصرهم، واجعل كيد الظالمين في نحرهم. اللهم إنا نسألك أن تحفظ القدس المنتفضة بوجه الظلم، وأن ترحم الشهداء الذين صعدت أرواحهم للسماء ولم تصاحبهم إلا صرخات الحق بوجه الظالم، وصعدت مع أرواحهم دعوات لنصرة إخوانهم المرابطين في الأقصى، ولا يضيع عند الواحد القهار دعوات أمام مساجدنا ولا دعوات المصلين ولا دعوات من صعدت أرواحهم إليه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.