أسد الدين اسمه في اللغة العربية العربية، وشيركوه في اللغة الكردية تعني "أسد الجبل"، وللحقيقة فقد كان شيركوه أسداً في زمانه، وقد عُرف بتحركاته العسكرية السريعة، وظهوره المفاجئ أمام الأعداء. وهو القائد الذي حمى مصر من السيطرة الصليبية ومن الوزراء الفاطميين الخونة، وفي نفس الوقت هو المعلِّم الأوّل لصلاح الدين، ولولاه، ربما، لم يكن صلاح الدين الذي نعرفه في التاريخ.
البداية.. مع عماد الدين زنكي
كانت بداية شيركوه مع أخيه نجم الدين أيوب بن شاذي، كان أبوهما شاذي نقيباً لقلعة تكريت بالعراق، وعندما توفي أصبح ابنه نجم الدين – السياسيّ المُحنّك – قائداً للقلعة، التابعة رأساً لصاحب شرطة بغداد الأمير بهروز، الذي كان صديقاً لوالدهما. كما يخبرنا الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام.
كانت الخلافة العباسية في ذلك الوقت ضعيفة ومقسّمة، كلّ أميرٍ مستقلّ بالمدينة التي يحكمها أو بعدّة مدن يحكمها، وبين الأمراء وبعضهم حروب كثيرة، والخليفة العباسي ليس له من الأمر سوى الاسم. فقد كانت تبعية الأمراء للخلافة تبعية اسمية فقط، لها ظاهر الاسم وليس لها عملياً أيُّ معنى.
بل إنّ الأمراء السلاجقة قد نافسوا الخليفة نفسه وحاربوه في بعض الأحداث، ورغم أنّ عماد الدين زنكي، البطل الذي أسقط إمارة الرها الصليبية، كان مجاهداً كبيراً وقائداً عسكرياً وسياسياً من طرازٍ رفيع، فإنه تورّط أيضاً في صراع السلطان السلجوقيّ مع الخليفة العباسيّ، وحارب بغداد، لكنّه هُزم. وفي طريق عودته من هزيمته، قدّم له نجم الدين أيوب خدمةً هو وجنوده، إذ قدّم لهم المساعدة اللازمة لعبور نهر دجلة، ليصل إلى مقرّ حكمه في مدينة الموصل.
اغتاظ الأمير بهروز في بغداد، والذي كان في صفّ الخليفة حينها، وأخرج الأخوين من قلعة تكريت، وفي نفس ليلة خروجهما ولد لنجم الدين فتىً سمّاه يوسف، وهو الطفل الذي سيعرفه التاريخ للأبد: صلاح الدين الأيوبي.
أين الوِجهة بعدما طرد الأخوان من قلعة تكريت؟ سيذهبان إلى عماد الدين زنكي في الموصل، والذي أحسن إليهما وضمّهما إلى مستشاريه وقادته.
المشرق الملتهب بحاجة إلى قادة أوفياء
على الجانب الآخر، وفي بلاد الشام كانت 4 ممالك صليبية قد أنشئت على مدار النصف قرن الماضي. كان المسلمون منقسمون للغاية، تعاون بعضهم مع الصليبيين لمواجهة الأمراء المسلمين الآخرين. جاءت أولى المحاولات للوقوف في وجه الصليبيين من الأمير مودود بن التونتكين، أمير الموصل الذي حاول جاهداً أن يستعيد إمارة الرها أكثر من مرّة لكنّه فشل. وعندما حقّق نصراً يعتبر هو الأوّل من نوعه في مواجهة الصليبيين الذين جاؤوا مع الحملات الصليبية، اغتيل وهو خارج من صلاة الجمعة في جامع دمشق.
للقراءة أكثر حول الأمير مودود، يمكنك الاطلاع على هذه المادة.
أكمل عماد الدين زنكي رحلة مودود بن التونتكين، فقد كان أميراً للموصل كما كان مودود، لكنّه استطاع أن يستعيد إمارة الرها عام 1144، وكان أسد الدين شيركوه في جيشه.
لم يلبث عماد الدين زنكي بعد استعادة إمارة الرها أكثر من سنتين، فقد اغتيل في خيمته أثناء محاولته ضمّ قلعة جعبر لنطاق سلطته، وأثناء الهرج والمرج المصاحب لمقتل القائد، كان أسد الدين شيركوه هو القائد الذي استطاع أن يحافظ على الجيش، فأعطى نور الدين محمود ختم الإمارة وصحبه إلى مدينة حلب ليصبح أميرها بدلاً عن أبيه المقتول.
للاطلاع أكثر حول عماد الدين زنكي، يمكنك قراءة هذه المادة.
القائد الفذّ.. قاهر الصليبيين
في تلك الأثناء، انقسمت دولة عماد الدين زنكي بين الأخوين سيف الدين غازي أميراً للموصل، ونور الدين محمود أميراً لحلب. وقد اتّسمت العلاقة بين الأخوين بالاستقرار والتفاهم، لكنّ نور الدين محمود كان هو من حمل لواء الجهاد ضد الصليبيين، وتحرير بلاد الشام منهم، فقد كانت الموصل بعيدة عن إمارات الصليبيين في الشام، وبطبيعة وجود نور الدين في حلب قرب الإمارات الصليبية فقد انغمس هو أكثر من أخيه في الحروب مع الصليبيين، على أنّ أخيه سيف الدين غازي قد ساعده مراراً حين طلب نجدته.
ومع بزوغ نجم نور الدين محمود، بزغ معه نجمان آخران، أسد الدين شيركوه قائداً لجيوشه، ونجم الدين أيوب الذي جعله عماد الدين زنكي أميراً على بعلبك، ثم ساهم في ضمّ مدينة دمشق لنور الدين محمود.
في ذلك الوقت، كانت مصر مقرّ الخلافة الفاطميّة، وكان الصليبيون يضعون أعينهم عليها بسبب ضعف الدولة، فقد كان وضع الخليفة هناك أسوأ بعض الشيء من الخليفة العباسيّ، وكان الوزراء هم المتحكمون في الدولة تماماً، غير أنهم وعلى عكس وزراء وأمراء الخليفة العباسي، انخرطوا في تعاونٍ مع الصليبيين من أجل مصالحهم الشخصية.
كان هناك شخصان يتصارعان على الوزارة في مصر الفاطمية، ضرغام وشاور. استطاع ضرغام أن يكسر شوكة شاور ويفوز بالوزارة، فهرب شاور إلى نور الدين محمود وطلب دعمه بجيشٍ يجعله على رأس الوزارة، وعرض في مقابل ذلك أن يدفع ثمن الحملة، وأن يبقى جيشه في مصر.
كان هذا العرض كبيراً ومغرياً، فمن مصر يمكن لنور الدين محمود أن يشنَّ هجماته على الإمارات الصليبية في الشام من الجنوب، وخصوصاً مملكة بيت المقدس، المملكة الأهمّ والأقدس من بين الممالك الصليبية الأربع.
ذهب شيركوه واستطاع هزيمة ضرغام، وما إن وصل شاور لكرسيّ الوزراة حتّى انقلب على شيركوه ورفض دفع تكلفة الحملة واستعان بالصليبيين، فجاء عموري الأوّل، ملك مملكة بيت المقدس، بجيشه إلى مصر دعماً لشاور ضدّ شيركوه.
أصبح وضع شيركوه صعباً، محاصراً في مدينة بلبيس المصرية، من شاور وحلفائه الصليبيين، وهنا جاءه المدد من نور الدين محمود على رقعة الشطرنج في الشام، فقد تحرّك نور الدين محمود في الشام فخاف عموري أن يستعيد نور الدين مناطق مهمة في الشام، فمال إلى الصلح على أن يخرج جيشه وجيش شيركوه من مصر، وهكذا انتهت أولى مهام شيركوه في مصر، وقد كانت تلك الحملة عام 1164.
مصر.. حُلم أسد الدين شيركوه
يبدو أنّ خلافاً في الأولويات السياسية والاستراتيجية دار بني نور الدين وشيركوه، فقد كان نور الدين محمود متردداً بعض الشيء في الانخراط بالشأن المصري، بينما كان شيركوه يعتقد أنّ ضمّ مصر لمعسكر نور الدين محمود سيشكل قوةً ضاربةً أمام الصليبيين.
بعد عامين فقط من رجوعه من مصر، عاد أسد الدين شيركوه على رأس جيشه. فقد علم نور الدين محمود بنية عموري الأول توجيه حملة عسكرية إلى مصر. وبعد إلحاحٍ من شيركوه على نور الدين، قاد حملته الثانية على مصر.
التحم الجيشان في معركةٍ كبيرة عام 1167 استطاع شيركوه أن يهزم الصليبيين فيها، ومن المنيا ظهر فجأةً بجيشه في الإسكندرية، فترك نصف الجيش مع ابن أخيه يوسف صلاح الدين، وعاد بالنصف الآخر لوسط مصر يسيطر على بعض المناطق فيها.
انطلق جيش عموري الأول ليحاصر الإسكندرية، استمرّ الحصار شهرين ونصف، وكان هذا الحصار أحد أكبر اختبارات الشاب صلاح الدين الأيوبي، وقد كان في الثلاثين من عمره.
كان شيركوه أسداً بحقّ، فما إن علم بحصار الإسكندرية حتى حاصر القاهرة نفسها، ومرةً أخرى اتّفق الطرفان على الخروج من مصر، وبقيت الوزارة في يد شاور من جديد.
كان يجب لهذا الحلم أن يتحقّق، وجاءت الفرصة لأسد الدين شيركوه عام 1169، عندما انطلقت حملة صليبية من مملكة بيت المقدس باتجاه مصر. كانت الحملة هذه المرة على عكس رغبة شاور. قدّم شاور عرضاً للصليبيين بدفعه أموالاً سنويةً لهم، فرفضوا. قاوم شاور الصليبيين، وأحرق مدينة الفسطاط لكي لا تكون غنيمةً في يد الصليبيين.
في نفس التوقيت كان الخليفة العاضد المريض والعليل جسدياً، قد أرسل لنور الدين محمود رسالةً يستنجده بها، وجاء الاستنجاد فرصةً لأسد الدين شيركوه ليحقق حلمه.
وصل شيركوه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي إلى مصر بدعوةٍ من الخليفة نفسه هذه المرّة. فأصبح وضع شاور مضطرباً. انسحب عموري الأول الذي يبدو أنه كان يرجو السيطرة على مصر بسرعة قبل أن تصل جيوش نور الدين بقيادة شيركوه إلى مصر.
وصل شيركوه أخيراً لحلمه، فقد استقبله الخليفة العاضد هو وابن أخيه صلاح الدين استقبالاً طيباً، ولكنّ شاور لم يكن مطمئناً لوجود شيركوه بالطبع، فقرر التخلُّص منه هو وقادته جميعاً، لكنّ يد القائد الشاب صلاح الدين كانت أسبق وأسرع، فتخلّص من شاور وقبض عليه وقتله بأمر الخليفة.
أسد الدين شيركوه وزيراً لمصر.. ومن بعده صلاح الدين
اختار الخليفة الفاطمي، العاضد، أسد الدين شيركوه وزيراً له بديلاً عن شاور. لكنّ القدر لم يمهل القائد الستينيّ، فقد توفي بذبحةٍ صدرية بعد شهرين فقط من وزارته عام 1169.
حقّق شيركوه حلمه بضمّ مصر إلى الشام، وبعد وفاته اختار الخليفة ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي ليكون وزيراً له بديلاً عن عمّه، ويقال إنّ كبار رجالات الدولة وقادة الجيش في مصر اختاروا صلاح الدين لأنّهم اعتقدوا أنّه شاب يسهل التحكُّم فيه على عكس عمّه أسد الدين، لكنّ صلاح الدين فاجأهم، فمع وفاة الخليفة الفاطميّ بمرضه، ودون وجود من يخلفه، أصبح صلاح الدين سلطاناً على مصر، وبعد وفاة نور الدين محمود أصبح صلاح الدين الأيوبي سلطاناً على مصر والشام، وأصبحت عاصمته القاهرة، ومنها استطاع تحطيم جيوش الصليبيين في موقعة حطّين الفاصلة، التي استردّ من خلالها بيت المقدس.
كان صلاح الدين في الحقيقة تلميذاً مباشرةً لعمّه أسد الدين شيركوه، فرغم أنّ والده هو نجم الدين أيوب، فإن عمّه شيركوه كان دائماً ما يصحبه في معاركه وصولاته وجولاته، حتّى ليعجب الجميع ويظنون أنّه ابنه وليس ابن أخيه.
اكتسب صلاح الدين الحنكة السياسية من والده، الذي دائماً ما كان أميراً من قلعة تكريت حتّى بعلبك إلى دمشق، واكتسب من عمّه أسد الدين مهارته العسكرية، فقد كان يأخذه دائماً في كلّ معاركه ويعتمد عليه، وهكذا ورثه في وزارة مصر، التي كانت سبباً لتأسيس الدولة الأيوبية التي حكمت مصر والشام واليمن والحجاز قرابة قرنٍ من الزمان.