يبدو أن الفيلم التسجيلي الذي نشره المعارض الروسي أليكسي نافالني قبل يومين من الاحتجاجات التي ضجّت بها روسيا، بداية الأسبوع، سيكون له تداعيات واسعة. الفيلم الذي حمل عنوان "قصر بوتين" وأبرز حجم الفساد في بلد يمتلك أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي، وثامن أكبر احتياطي من النفط، وثاني أكبر احتياطي من الفحم في العالم، وعدد الفقراء فيه أكثر من 20 مليون شخص، جعل الناس تنزل إلى الشوارع في احتجاجات تعد الأضخم في روسيا، منذ تولّي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحكم.
خرجوا دون الحصول على تصريح
40 آلاف شخص خرجوا في موسكو وحدها، وانطلقت المظاهرات في أغلب المدن الروسية، وفق المشهد الروسي العام فإن العدد الذي خرج إلى الشوارع ضخم، خصوصاً بالنسبة إلى احتجاجات نُظمت من دون الحصول على ترخيص رسمي، ما شكل تحدياً للسلطات التي سعت خلال الأيام السابقة للاحتجاجات إلى الترويج بقوة، بأنها ستتعامل بحزم مع المحتجين، كما توعدت معظم الجامعات والمعاهد والطلاب بالفصل في حال مشاركتهم في المظاهرات، ورغم ذلك جاءت المشاركة الواسعة جغرافياً لتشكل تحدياً جدياً.
إلى أي مدى يمكن أن تهد المعارضة بوتين
لا تملك المعارضة في روسيا قدرة حقيقية على التغيير لسبب مهم، وهو أن الأنظمة في روسيا لا تتغير عن طريق الانتخابات ولا تداول السلطة، أو عن طريق المعارضة الفعالة بالشارع، إذ تشبه الدولة البوليسية، لا يسقط النظام فيها ولا يتغير إلا بثورة شعبية أو بانقلاب عسكري.
يقول الصحفي الروسي المعروف مكسيم شيفتشينكو، وهو من التيار اليساري، إن المعارضة في روسيا تنقسم حالياً إلى ثلاث مجموعات: الديمقراطية الليبرالية التي يقودها نافالني، واليسارية التي تفتقد لقيادة فاعلة، والقومية المتشددة التي تبرز في مجموعات من الأحزاب القومية الصغيرة.
لكن التطورات الأخيرة جعلت المجموعات الثلاث تعرب عن دعمها لنافالني، الذي اكتسب صفة رمزية بصرف النظر عن عدم الاتفاق معه في الهدف النهائي المرجو، فاليسار يريد نظاماً اشتراكياً، بينما اليمين القومي يريد انغلاقاً على الفكرة القومية. ويرى شيفتشينكو أن أخطاء السلطة في التعامل مع نافالني من خلال محاولة تسميمه ثم اعتقاله فور عودته صعدت من هذه الحالة، ودفعت ممثلي مختلف تيارات المعارضة إلى الالتفاف حوله.
لكن الخبير في معهد كارنيغي ألكسندر باونوف، لفت إلى أن هذه الاحتجاجات "بالتأكيد مناهضة للسلطة والنخبة والفساد، لكنها ليست بالضرورة ليبرالية مؤيدة للغرب وديمقراطية"، وزاد أن جمهور الاحتجاجات الحالية أوسع من كل من جمهور الاحتجاجات الليبرالية المعتادة والأعمال الاحتجاجية المعتادة لمؤيدي نافالني.
وأضاف أن "الناس لم تخرج إلى الشوارع بسبب نافالني، الذي لا يعتبرونه زعيماً مثالياً لروسيا أو حتى للمعارضة، بل بسبب ما فعلته السلطات به، كما أشار إلى أن الشعارات المرفوعة اتخذت سمة "حملة غضب ضد السلطات".
يحاول منظمو الاحتجاجات حالياً تحويلها إلى فعاليات دورية، تستمر "ما دام نافالني باقياً في السجن"، رغم أنها غير فعالة، إذ إن روسيا ليست دولة ديمقراطية ولا يحصل تغيير النظام فيها بالانتخابات وتداول السلطة، لكن الخوف أن تتحول روسيا إلى نموذج يشبه بيلاروسيا، حيث يمكن للمعارضة أن تخرج المواطنين للشوارع أسبوعياً، وتقوم بتحويل التجمعات إلى حالة روتينية للحياة الوطنية والمدنية.
الاحتجاجات ونتائجها
ترى الأوساط الحكومية الروسية أن هذه الاحتجاجات شكلت بداية أولية لسلسلة من الاحتجاجات المماثلة، التي ينتظر أن تتصاعد تدريجياً في البلاد مع اقتراب استحقاق الانتخابات النيابية، في سبتمبر/أيلول المقبل، ولا يُخفي مسؤولون روس أن السيناريو الموضوع يهدف إلى استفزاز "ثورة شعبية" في روسيا مع حلول الخريف، لذلك تتفاقم أهمية هذه الاحتجاجات، كما تتضح أكثر أسباب تعامل السلطات معها بعنف زائد.
الفيلم التسجيلي
وتعود القصة إلى أن نافالني نشر قبل يومين من الاحتجاجات فيلماً تسجيلياً حمل عنوان "قصر بوتين"، كشف فيه تفاصيل امتلاك الرئيس الروسي قصراً خرافياً، تجاوزت قيمته مليار يورو.
وحقق الفيلم انتشاراً غير مسبوق على يوتيوب، إذ شاهده خلال أسبوعين نحو 80 مليون شخص، 70% منهم داخل روسيا، ما دفع الكرملين إلى الرد رسمياً، عبر نفي صحة محتوى الفيلم، قبل أن يظهر الرئيس الروسي بنفسه في لقاء عبر شبكة الإنترنت مع طلاب جامعيين، ليقول إن القصر لم يكن يوماً ملكاً له أو لأحد أقربائه. وتعد هذه الإطلالة نادرة، إذ لم يسبق أن لجأ بوتين للتعليق بنفسه على انتقادات تُوجه له.
ما عكس حجم المشكلة التي يواجهها الرئيس الروسي، الذي ظل لأوقات كثيرة يراهن على اتساع شعبيته، حتى في فترات اضطر فيها لاتخاذ قرارات صعبة زادت من تدهور الوضع المعيشي.
الاحتجاجات والشباب
كان لافتاً في الاحتجاجات التي خرجت، في 23 يناير/كانون الثاني الجاري، الحضور القوي لفئات الشباب، فضلاً عن أن 35% من المشاركين نزلوا إلى الشارع للمرة الأولى في حياتهم، ما شكل مؤشراً على مدى تفاقم مزاج الاحتجاج.
واللافت أكثر أن هذه الاحتجاجات شهدت للمرة الأولى توحيد شعارات المعارضة ضد الرئيس الروسي بوتين شخصياً، وحملت الهتافات اتهامات مباشرة لبوتين بـ"نهب البلاد" وحمّلته المسؤولية المباشرة عن الوضع المتردي، مع تزايُد المطالبات برحيله.
وشكّل توحيد الشعار بهذه الطريقة مع ظهور "قائد للمعارضة" في شخصية اليكسي نافالني، عنصر تهديد جديداً في الاحتجاجات الأخيرة، وتركزت مخاوف السلطات الأمنية في أن يُسفر ذلك عن تكريس فكرة الاحتجاج المتواصل في ميدان عام، في تكرار لمشاهد ميدان كييف عام 2004، أو ميدان التحرير بالقاهرة عام 2011، وهذا يفسر ظاهرة الاستخدام المفرط للعنف ضد المتظاهرين، واتساع نطاق الاعتقالات، إذ قامت السلطات باحتجاز ما يزيد على 3800 متظاهر في يوم واحد.
المعارضة الروسية
في السنوات القليلة الماضية كان حضور أليكسي نافالني المحامي والناشط السياسي الروسي لافتاً كناشط يكشف جوانب الفساد، من دون أن يقدم نفسه زعيماً للمعارضة الروسية، وهو من أبرز منتقدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد تعرّض نافالني للتسمم بغاز الأعصاب نوفيتشوك، المصنع بالطريقة السوفييتية، في محاولة لاغتياله في أغسطس/آب من العام السابق، ثم اعتقل بتاريخ 17 يناير/كانون الثاني لدى وصوله إلى موسكو، بعد رحلة علاج طويلة في ألمانيا، وهو محتجز الآن في سجن في موسكو، بسبب 4 قضايا يصفها بأنها ملفقة.
لكن الفترة التي أعقبت تسميمه وصولاً إلى هذه الاحتجاجات كرست دوره كزعيم واحد للمعارضة، وهو أمر خطير للكرملين، الذي كان يواجه عادة معارضة هامشية ومقسمة وتفتقد لزعيم موحد.
العقوبات الأوروبية والغربية
تطالب العديد من الدول الأعضاء والبرلمان الأوروبي بفرض عقوبات جديدة على موسكو، بسبب توقيف نافالني عند عودته إلى روسيا، مع التلويح بوقف مشروع خط أنابيب توصيل الغاز الطبيعي من روسيا إلى المانيا (السيل الشمالي 2)، والذي يعد من أهم المشاريع الحيوية لروسيا، والذي تكلف مليارات الدولارات حتى الآن. وتعتبر بعض الدول الأوروبية أنه سيكون بمثابة سلاح ذي حدين في يد بوتين للضغط على أوروبا، وهو ما دعا بلداناً أوروبية مثل بولندا والدنمارك إلى وقف هذا المشروع. كما نددت الولايات المتحدة بلجوء موسكو إلى "أساليب عنيفة" بحق آلاف المتظاهرين في أنحاء روسيا، مطالبة بالإفراج الفوري عن اليكسي نافالني. ونشرت السفارة الأمريكية في موسكو بياناً على صفحتها الرسمية قبل الاحتجاجات بيوم واحد، دعت فيه الرعايا الأمريكيين إلى تجنب التواجد في أماكن المظاهرات، ورأت موسكو في البيان "تحريضاً مباشراً للروس على الانضمام إلى المظاهرات، لأنه تضمن لائحة بالمناطق التي ستُنظم فيها الاحتجاجات".