عادت مساعي التسوية في ملف الذاكرة التاريخية بين الجزائر وفرنسا إلى نقطة الصفر، بعد بيان الرئاسة الفرنسية، الأربعاء 20 يناير/كانون الثاني 2021، والذي استبعد اعتراف فرنسا بجرائمها في الجزائر ورفضها مبدأ الاعتذار.
ويرى متابعون أن بيان الإليزيه من شأنه أن يعقد الأزمة بين البلدين، كما من شأنه أن يحبط الأسرة الثورية في الجزائر، والتي قاومت الاستعمار الفرنسي منذ 1830، وتعرضت لأقسى أنواع الجرائم والعذاب انتهت بثورة في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1954، من ثم استقلال الجزائر في 5 يونيو/حزيران 1962.
لا اعتراف فرنسياً
أكد بيان صادر عن الإليزيه مساء الأربعاء 20 يناير/كانون الثاني 2021، أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، استقبل بالقصر الرئاسي المؤرخ والباحث الأكاديمي بنجامان ستورا، الذي قدم تقريراً حول الاستعمار وحرب الجزائر (1954-1962)، يحوي مقترحات لإخراج العلاقة بين باريس والجزائر من الشلل الذي تسببه قضايا الذاكرة العالقة.
وأعرب الرئيس الفرنسي عن أمله في أن تحقق هذه المبادرات الوصول لمصالحة بين بلاده والجزائر، وأن تلفت النظر إلى جراح الماضي، مشيراً إلى أنه يرغب في أن يتم إحياء ذكرى من فقدوا حياتهم بالحرب الجزائرية، من خلال فعاليات مختلفة.
وسائل إعلام محلية في الجزائر أكدت أن بيان الإليزيه إشارة واضحة إلى أن "فرنسا غير مستعدة لتقديم اعتذار عما قامت به في الجزائر خلال حرب التحرير، أو خلال فترة الاستعمار الفرنسي ككل".
وما يؤكد استبعاد فرضية الاعتذار عن الجرائم المرتكبة في الجزائر تأكيد هيئة القصر الرئاسي الفرنسي أنها "ستقوم بخطوات رمزية فقط، وذلك في انتظار تلقي الرئيس تبون تقريراً مماثلاً من طرف المستشار شيخي عبدالمجيد".
فرنسا وبحسب "الإخبارية الجزائرية"، "تعتزم القيام بخطوات لا تبتعد عن الرمزية، لمعالجة الملف المطروح، رافضةً تقديم اعتذارها عن ماضيها الأسود واستعمارها للجزائر".
ومن المنتظر أن يشارك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في ثلاثة احتفالات تذكارية في إطار الذكرى الستين لنهاية حرب الجزائر عام 1962، والتي تشمل اليوم الوطني للحركى في 25 سبتمبر/أيلول، وذكرى قمع تظاهرة الجزائريين بباريس في 17 أكتوبر/تشرين الأول، وتوقيع اتفاقيات إيفيان في 19 مارس/آذار.
تفاصيل التقرير
أكد نص البحث الذي سلمه الباحث والأكاديمي بنجامان ستورا للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي نشرت نسخة منه جريدة "لوفيغارو"، أن "ما قام به الباحث كان بعيداً عن أي إملاءات خاصة من الرئاسة الفرنسية والرئيس نفسه".
ومن أبرز ما أوصى به ستورا في تقريره المكون من 150 صفحة، "تشكيل لجنة تسمى الذاكرة والحقيقة، وتُوثق شهادات الناجين من حرب الاستقلال الجزائرية، وذلك بتنسيق بين باحثين فرنسيين وجزائريين".
كما أوصى التقرير بـ"ضرورة زيادة التعاون بين فرنسا والجزائر، وأن يتمكن الجزائريون الذين قاتلوا إلى جانب فرنسا (يعرفون باسم الحركى) خلال حرب الاستقلال الجزائرية، من التنقل بسهولة بين البلدين، وتيسير منحهم التأشيرات".
التقرير اقترح أيضاً إزالة عبارة "سر الدولة" الموجودة بالوثائق التي يعود تاريخها إلى عام 1970 في الأرشيف، وإنشاء أرشيف مشترك بين البلدين، مشدداً على "ضرورة تقديم منح دراسية للطلاب الجزائريين لإجراء دراسات في الأرشيف الفرنسي، على أن يتم الشيء نفسه أيضاً بالنسبة للطلاب الفرنسيين".
التقرير شدد كذلك على أن "المدارس في فرنسا يجب أن تدرّس حرب الاستقلال الجزائرية بطريقة أفضل وأن تتوقف عن ذكر الاستعمار في الدروس".
كما أوصى كذلك بـ"تنظيم أنشطة تذكارية حول حرب الاستقلال الجزائرية، وأن يتم إعلان الـ25 من سبتمبر/أيلول يوماً لإحياء ذكرى الحركى، و17 أكتوبر/تشرين الأول لذكرى (مذبحة باريس 1961)، و19 مارس/آذار لإحياء ذكرى نهاية الحرب".
تقرير مستفز ومضلل
بيان قصر الإليزيه حول تقرير الاستعمار الفرنسي للجزائر وحرب الجزائر، في نظر الكاتب والمؤرخ الجزائري عبدالرحيم روان مستفز جداً، ويعيد تقزيم المستعمرات الفرنسية كأنها ما زالت تحت الوصاية والاحتلال.
وقال راوان في تصريح لـ"عربي بوست"، إن "الحديث عن الحلول الرمزية إشارة واضحة إلى أن فرنسا ما زالت تُعامل الجزائر كمستعمرة صغيرة ومتخلفة، تعطي لها فُتات الامتيازات، وترفض حتى الاعتذار أو الاعتراف بالجرائم المرتكبة".
وبخصوص تقرير بنجامان فيُؤكد المؤرخ الجزائري أنه "يحمل تضليلاً كبيراً، من شأنه أن يُعمق الهوة بين البلدين، لاسيما في ملف الذاكرة، كالحديث عن تسهيلات للأشخاص والعائلات التي كانت تساعد فرنسا أيام الاحتلال، ومنع التلاميذ من تداول كلمة مستعمر بالمقررات الدراسية".
وأضاف المتحدث، أن "تقديم الدعم والتسهيلات لمساعدي الجيش الفرنسي من الجزائريين دعم للخيانة، وجب أن تستحيي لذكره فرنسا ونحن في عام 2021. أما تغييب مصطلح المستعمر عن المقررات الدراسية، فهو محاولة لطمس حقائق تتألم فرنسا من ذكرها".
وأشار المتحدث إلى أن "فرنسا تريد إحياء كل ما له علاقة بالخيانة؛ وبالتالي إحياء جراح الجزائريين من خلال تخصيص يوم للحركى (مصطلح يطلقه الجزائريون على عملاء فرنسا خلال حرب التحرير)، وتعتبره فرنسا يوماً لرِجالاتها الأبطال".
وأكد المتحدث أن "الصفحات الطويلة والعريضة التي قدمها ستورا كان يمكن اختصارها في كلمة (اعتذار صريح وتعويض عن الجرائم) وإلا فلا".
خطوة تسميم العلاقات بين البلدين
الجزائريون الذين كانوا ينتظرون خطوات جادة لاعتراف فرنسا بجرائمها التي ارتكبتها من العام 1830 وحتى 1962، برأي الباحث في التاريخ الجزائري بجامعة اليكانت الإسبانية والأستاذ في جامعة بجاية الجزائرية، زروق ججيغ، "أصابتهم الصدمة من تقرير ستوريا وبيان الإليزيه".
وقال الباحث زروق ججيغ في تصريح لـ"عربي بوست"، إن "عودة موضوع الذاكرة التاريخية المشتركة بين الجزائر وفرنسا إلى الواجهة بعد إقرار الحكومة الفرنسية عدم اعتذارها للشعب الجزائري عن جرائمها المقترفة منذ 1830 وإبقائها لبعض المصطلحات السامة والمستفزة".
وتابع ججيغ، أن "بيان الإليزيه وتقرير بانجامان الرافضين للاعتراف الصريح لفرنسا بجرائمها في الجزائر، من شأنهما أن يعيدا ملف الذاكرة إلى واجهة المشهد العام".
وأضاف المتحدث، أن "التعنت الفرنسي سيُؤدي إلى توتر العلاقات بين البلدين، ما يجعلها في دوامة من التجاذب والتنافر، ففرنسا تستغل ملف الذاكرة التاريخية في خطاباتها؛ لأجل تحسين صورتها وعلاقاتها، وتقوم بخطوات رمزية فقط لأجل استعطاف الحكومة الجزائرية كإرجاع رفات الشهداء وغيرها".
وأكد أن "استمرار فرنسا في تبني الاحتفالات المخلدة لحرب الجزائر، وتكريم ومشاركتها في اليوم الوطني للحركى، وقرار قصر الإليزيه هذه الأيام المتضمن نفيها الاعتذار للشعب الجزائري، وعدم الاعتراف بجرائمها، ما هو إلى صورة مصغرة عن السياسة التي تبنتها الحكومة الفرنسية".
من جهته يرى الخبير الأمني الجزائري وأستاذ العلاقات الدولية مراد سراي، أن خطوة الإليزيه الأخيرة "بمثابة صب الزيت على نار العلاقات بين البلدين".
وقال سراي في تصريح لـ"عربي بوست"، إن "فرنسا تدرك جيداً بداية نهايتها من المشهد الجزائري العام، وبالتالي فهي تريد انتهاج أسلوب استفزازي وبث الشك بين أبناء الشعب الواحد، خاصةً أنها تعلم جيداً مدى أهمية الملف التاريخي بالنسبة للجزائريين".
ويتوقع أستاذ العلاقات الدولية "توتراً متزايداً بين البلدين، أو على أقل تقدير في ملف الذاكرة والعلاقة بينهما".
الاعتذار واجب
من جهته يرى المجاهد الجزائري وابن مدينة بوقاعة شرق العاصمة وأحد شهود العيان عن الجرائم الفرنسية بالجزائر عبدالقادر نجار، أن "فرنسا حتى وإن اعتذرت، وقدمت ما قدمت كتعويض عن جرائمها في الجزائر فلا يمكنها أن تمحي ساعة واحدة من بشاعة استعمارها من مخيلة الجزائريين".
عبد القادر نجار الذي تحدث مع "عربي بوست" وآثار إحدى رصاصات المستعمر لازالت آثارها بفخذه لا يزال يتذكر الحرق والتعذيب والتنكيل والتهجير الذي مارسته آلة المستعمر الفرنسي إبان احتلالها للجزائر.
ويقول نجار إنه "على فرنسا أن تستحى، وتعطي الأشياء بمسمياتها الحقيقية، فلا يمكن للخائن ان يكون بطلا، ولا يمكن للمستعمر أن يكون مثالا، وعليها أن تنحني أمام كل الجزائريين اعترافا وندما كما قامت به، ونحن بعدها نفكر نقبل أم لا؟".
وعن البيان الرئاسي وتقرير بنجامان فيقول عبد القادر "أنا لم أطلع على فحواه، لأني أكره كل ما يأتينا من فرنسا، لكني على يقين بأنها تسعى إلى مصالحها وإحياء أمجادها والافتخار بماضيها الدموي".
أستاذ التاريخ الحديث بلال بارة يرى بأن "الاعتذار لا يمكنه أن يكون فقط عن الضحايا الذين سقطوا دفاعا عن الوطن فحسب فهذا شيء لابد منه، بل إن الاعتذار يجب أن يكون أيضا عن الضرر الكبير الذي أحدثته جراء سلب السيادة وإسقاط سمعة دولة كانت يحسب لها ألف حساب في زمانها".
الاعتذار حسب المتحدث "يجب أن يكون عن الماضي والحاضر أيضا، فالتخلف الذي تعيشه البلاد اليوم ويأس أبنائها، هو راجع لسنوات الاحتلال التي زرعت فيها الأمية ونهب للثروات، لذلك وجب تقديم اعتذار لجيل اليوم أيضا".
ويعتقد بلال "أن تركة الاستعمار ثقيلة تترتب عليها أعباء أخلاقية ومادية يستوجب على المستعمر الفرنسي أن يردها" وهذا ما يراه شبه مستحيل مع هذه الحكومات التي تراوغ سياسيا هدفها الترويج لبرامجها في كل حملاتها الانتخابية الرنانة.
على الجزائر أن ترد
واستغرب الكاتب والمؤرخ الجزائري عبد الرحيم روان بقاء الجزائر صامتة بعد بيان الإليزيه وتقرير بنجامان، وقال بأن ذلك لا يخدم تماما الذاكرة الوطنية وعودة حق الجزائريين باعتراف فرنسي رسمي عن الجرائم وملف التعويض.
ويبني المؤرخ الجزائري وفق حديثه لـ"عربي بوست" "آماله عن التقرير الذي كلف به الرئيس عبد المجيد تبون مستشاره المكلف بالذاكرة الوطنية عبد المجيد شيخي، والذي سيبُت في عمق الجرائم المرتكبة خلال فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر".
وقال روان إن "كل الجزائريين ينتظرون أحر من الجمر التقرير الذي سيُنجزه مدير الأرشيف الوطني ومستشار الرئيس عبد المجيد شيخي، والذي يجب أن يكون ردا مُزلزلاً وموثقاً عن تقرير بنجامان".
وأضاف المتحدث أن "الجرائم الفرنسية في الجزائر لا غبار عليها، لكن كل ما هو موثق بالصورة والصوت والتدوين، هو محفوظ بفرنسا، باعتبار أن الخطوة التي أقدمت عليها قوات الاحتلال الفرنسي حينها هو نهب الأرشيف والتستر عن كل الجرائم".
وعلى عبد المجيد شيخي حسب الباحث أن "يعتمد على الشهادات الحية المسجلة، والتي ما زالت حية إلى اليوم، وكذا الاستعانة بمؤرخين فرنسيين أصدقاء الثورة، والذين كتبوا ويملكون رصيدا قويا عن بشاعة الجرائم الفرنسية".
الجزائر لن تطوي الملف
أعلنت الجزائر، في 21 ديسمبر/كانون الأول 2020 أنها لن تطوي صفحة الماضي الاستعماري مع فرنسا، تزامنا مع اعتزام الأخيرة إعلان تقرير جديد بشأن هذا الملف، وهو التقرير المقدم للرئيس ماكرون.
وقال حينها عبد المجيد شيخي، مستشار الرئيس المكلف بالذاكرة في لقاء مع الإذاعة الجزائرية: "موقفنا مستقر نحن كجزائريين، لن ننسى أو نطوي صفحة الماضي (في إشارة لفترة الاستعمار)، ونطالب باسترجاع الوثائق التي هربتها فرنسا خلال الحقبة الاستعمارية".
تصريح ورغم أنه لم يحمل تفاصيل رفض نسيان الماضي الا ان أستاذ العلاقات الدولية مراد سراي فيعتبره "رد على كل محاولات فرنسا طمس الحقائق والتهرب من مسؤولياتها تجاه ما ارتكبته في الجزائر".