لم ينحصر التوتر بين المغرب وإيران المستمر منذ سنوات على مستوى السياسات الداخلية للبلدين فقط، بل امتد إلى محيط المملكة الإفريقية، حيث الصراع الخفي بين الرباط وطهران على "النموذج الديني"، خصوصاً في دول إفريقيا جنوب الصحراء.
تُحاول إيران نشر المذهب الشيعي في دول جنوب الصحراء، مقابل ذلك تسعى الرباط إلى صد الشيعة القادمين من دول آسيا، وذلك بفتحها مؤسسات "تُحارب" بشكل مباشر مذهب أنصار حزب الله في إفريقيا.
ويأخذ هذا الصراع الخارجي بين البلدين أبعاداً حادة، خصوصاً في دول غرب إفريقيا، التي تضم جالية مغربية مهمة وتربطها علاقات وطيدة بالرباط، إذ يعمل المغرب بشكل حثيث على التصدي لتغلغل المد الشيعي الإيراني لهذه الدول.
الدبلوماسية الدينية
يساعد إيران في تحقيق تسللها إلى قلب القارة الإفريقية ونشر مذهبها الشيعي، وجود عشرات آلاف الشيعة اللبنانيين الذين هاجروا في سنوات ماضية من لبنان واستقروا في دول إفريقية، إضافة إلى المؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية والدينية التي بُنيت بتمويل إيراني في إفريقيا.
وقد انتبه المغرب، منذ مجيء الملك محمد السادس إلى سدة الحكم سنة 1999، إلى سن سياسة جديدة نحو القارة الإفريقية تنتهج دبلوماسية غير تلك التي تعتمد على الجاذبية الاقتصادية ومشاريع الاستثمار، وهو ما يمكن تسميته بالدبلوماسية الدينية.
يقول عبد الإله السطي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ابن زهر بأكادير، في تصريحه لـ"عربي بوست": "منذ اعتلاء الملك محمد السادس للعرش، شهد المغرب سلسلة من الإصلاحات التي تهم الحقل الديني، ومن جملة هذه الإصلاحات إعطاء الأهمية للعمق الديني المغربي بإفريقيا"، وذلك من أجل "تكريس التوجه المغربي القائم على المذهب المالكي بطريقة الجنيد في التصوف والمذهب الأشعري في العقيدة، إضافة لصد الباب على بعض المذاهب الخارجية، التي جعلت من إفريقيا بيئة ملائمة لنشر خطابها والترويج لأفكارها"، يضيف أستاذ العلوم السياسية.
استراتيجية دينية مهيكلة
من جانبه، يرى سليم حميمنات، الأستاذ الباحث بمعهد الدراسات الإفريقية التابع لجامعة محمد الخامس بالرباط، في حديثه لـ"عربي بوست"، أن "الدين أصبح عاملاً رئيسياً لمواكبة السياسة الإفريقية للمغرب وتعزيز نفوذها، من خلال آليات التعاون الرسمي المشترك وفق رؤية ومنطق وأدوات مختلفة عن المنطق الصراعي أو الإقصائي الذي تنتهجه بعض الدول".
وأوضح حميمنات أنه "بالتركيز على الاستراتيجية الدينية للمغرب بمنطقة غرب إفريقيا، على الأقل في السنوات العشر الأخيرة، يميل المغرب أكثر إلى الاستقلال عن تقاطب صراعي سياسي وديني أشمل تكتلت فيه العديد من الدول الإسلامية السنية سابقاً، في مواجهة أيديولوجية التشيع وتصدير الثورة التي تبنتها إيران في عدة مناطق بالعالم العربي والإسلامي".
وأضاف الأستاذ الباحث بمعهد الدراسات الإفريقية، أن المغرب اليوم يعتمد "استراتيجية دينية، مهيكلة وأكثر كثافة، ترمي إلى تكريس النموذج الديني المغربي بخصوصياته المعروفة، والتي تلتقي وتتقاطع كثيراً مع نموذج التدين الذي تتبناه دول منطقة غرب إفريقيا".
ومن أجل تحصين "الأمن الروحي" للدول الإفريقية، والتصدي لتيارات التشيع الإيرانية بالقارة وخطابات التطرف أيضاً يقول عبد الإله السطي، أستاذ العلوم السياسية إن "المغرب وضع من ضمن أولوياته في عملية إعادة هيكلة الحقل الديني، التأسيس لتكوين علمي ومنهجي رصين للأئمة والقيمين الدينيين، ليس فقط لحاملي الجنسية المغربية ولكن أيضاً للأجانب الأفارقة".
وأضاف المتحدث في تصريحه لـ"عربي بوست" أن "المغرب يعتبر الآن رائداً في مجال التكوين الديني بالنسبة للأفارقة، وهو ما يخدم أيضاً مصالحه في توطيد الأمن الروحي بشركائه الجنوبيين وقطع الطريق عن المذاهب المستوردة حديثاً من بعض دول آسيا، خصوصاً ما أضحى يسمى بالمد الشيعي بإفريقيا".
من جهته يبرز سليم حميمنات، الأستاذ الباحث بمعهد الدراسات الإفريقية في حديثه مع "عربي بوست" "أهمية مؤسستين دينيتين أنشأهما المغرب للسهر على تكوين الأئمة الأفارقة، ويتعلق الأمر بمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، خصوصاً البرنامج التكويني المخصص لتكوين الأئمة الأجانب القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، ومؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بفروعها الـ32 المنتشرة بكافة ربوع القارة".
قواسم روحية مشتركة
كان المغرب قد قرر في فاتح مايو/أيار من سنة 2018 قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران رسمياً، إذ طلب من سفيرها مغادرة الرباط، واستدعى سفيره من طهران.
وكانت كلمة السر فيها قضية الصحراء، عندما أعلن وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة حينها، أن طهران تقدم دعماً "مالياً ولوجستياً" لجبهة البوليساريو الانفصالية عن طريق "حزب الله" اللبناني الذي يوفر أيضاً تدريبات عسكرية للانفصاليين.
يعتبر سليم حميمنات أن "العمل الديني الذي يرعاه المغرب يجسد نموذجاً دينياً وسطاً بين النموذجين الإيراني والسعودي، وهو مرشح لأن يكتسب مزيداً من القبول والنفوذ في أوساط النخب السياسية والروحية والمشيخات الصوفية بمنطقة غرب إفريقيا".
مرد ذلك، بحسب المتحدث نفسه، كون العمل الديني المغربي، "يؤطره على المستويين الشعبي والرسمي، تعاون نشيط ومتواصل يمتد عبر قرون، كما تعززه قواسم روحية مشتركة تقوي من رمزية ومصداقية النموذج المغربي باعتباره في المحصلة الأكثر تعبيراً وانسجاماً مع أنماط وعادات التدين المحلي بغرب إفريقيا".
في السياق ذاته يشير عبد الإله السطي، أستاذ العلوم السياسية، في حديثه مع "عربي بوست" إلى أن "الزاوية التيجانية كمثال راسخ الآن نجد لها امتداداً في العديد من الدول الإفريقية، ويعتبر المغرب قبلة وأحد المزارات الرئيسية لمريديها وأتباعها، وهو ما من شأنه أن يجعل العلاقات بين المغرب وهاته البلدان ليست علاقات تجارية وسياسية فقط، ولكن علاقات روحية تمتد إلى وجدان وروحانيات مواطنيها".
لهذا، وضع المغرب "بعين الاعتبار هذه المسألة في إصلاحاته الدينية الشاملة، من خلال تصدير نموذجه الوسطي القائم على بث قيم الاعتدال والوسطية في التكوين الديني" يردف أستاذ العلوم السياسية.
تهديد قديم
إذا كان سياق التنافس الراهن بين المغرب وإيران، يرتبط بمعطيات ورهانات جيوسياسية مختلفة تماماً، فإن "وعي المغرب بالتهديد الشيعي هو ليس وليد اليوم، بل يعود إلى فترة الثمانينات"، يذكر سليم حميمنات، الأستاذ الباحث بمعهد الدراسات الإفريقية.
وأبرز حميمنات أنه "سبق للملك الراحل الحسن الثاني، في كلمة له ألقاها أمام المجلس الأعلى للعلماء سنة 1984، أن نبّه صراحة إلى المخاطر والتهديدات التي ينطوي عليها نشر التشيع بغرب إفريقيا على أمن واستقرار دول المغرب الكبير ككل".
لكن الأستاذ الباحث في معهد الدراسات الإفريقية، ينبه إلى أن "هذه المخاطر كانت تندرج في إطار صراع سياسي وديني أشمل، تكتلت فيه العديد من الدول الإسلامية السنية في مواجهة أيديولوجية التشيع وتصدير الثورة التي تبنتها إيران في عدة مناطق بالعالم العربي والإسلامي".