هن مستودع الأسرار ومركز لتجمع المعارضين والنشطاء.. ستات الشاي في السودان من هنا انطلقت الثورة

عربي بوست
تم النشر: 2020/11/15 الساعة 09:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/11/28 الساعة 15:25 بتوقيت غرينتش
حواء بائعة الشاي في العاصمة السودانية الخرطوم (خاص)

على رصيف شارع النيل وسط العاصمة الخرطوم رُصَّت كنداكات السودان (ملكة حاكمة في حضارة كوش الإفريقية القديمة ببلاد السودان) فوق كراسيهنَّ القصيرة. فعلى بُعد مسافات متقاربة تجلس ست الشاي بملامحها السمراء المُميَّزة تُحمّص حبات البن، وتغلي ورقات الشاي الأخضر، وتنتظر زواراً اعتادتهم واعتادوها.

تُعرف بائعة الشاي في السودان بـ"ست الشاي" هذا اللقب الذي أصبح لصيقاً بسيدات من الطبقة الفقيرة، اخترن مهنة ليست بالهينة، فهنَّ النسوة رغم كثرتهن إلا أنهن يواجهن يومياً رجال السلطة، ومطارداتهن التي لا تنتهي، خصوصاً بعدما "اتهمت" بائعة الشاي باحتوائها الثوار الذين أطاحوا بالرئيس البشير.

ظهرت ست الشاي في السودان لأول مرة في ضواحي الخرطوم، لكن ضغط السلطات في المناطق الفقيرة على هؤلاء النسوة دفعهن إلى الانتقال إلى المدينة، خصوصاً في الساحات الكبيرة وسط العاصمة، هناك تكون حدة التدخلات الأمنية منخفضة، وغير مكلفة.

الكنداكة المثابرة

قبل أن تهزم خيوط الشمس ظلام الليل، تتحسس حواء طريقها إلى العمل. فست الشاي التي تحدث إليها "عربي بوست" تمتلك مكتباً طبيعياً، هو قطعة أرض تحت ظلال شجرة "اللبخ" الوافرة، يبدأ عملها الروتيني كزميلاتها برشّ الماء، وتنظيف المكان، ورصِّ المقاعد وتحميص البُن.

أصبحت ست الشاي عادة يومية في السودان، فالسودانيون اعتادوا امرأة سمراء تُخفي تقاسيم جسدها بملاحف، وتُواجه كثافة بخار الماء المتصاعد من غليان الأباريق، كل هذه التفاصيل، بالإضافة إلى الأثمنة المناسبة، جعل من الست الجهة المطلوبة والخاصة جداً.

أمام حواء يوم شاق وطويل من العمل، لكن الوقت أمامها يمُّر هيّن أمام روتين يومي، تقول حواء في حديثها مع "عربي بوست" إنها أمينة السر ومعدلة المِزاج، تستقبل كل "زول" بابتسامة كبيرة ليس من الضروري أن تظهر أسنانها من الضحك، لكن عيونها دائماً سعيدة.

تعيش حواء في ضواحي مدينة الخرطوم، وتُلمّ بكل ما يجري في الساحة السياسية والرياضية، فهي مستودع الأسرار والأذن الصاغية لحكايات ضيوفها، كما أنها مكتب اجتماع نشطاء عدد من حراك السودان الذي أطاح الرئيس المخلوع عمر البشير.

حواء، أم لطفل والأرملة بعدما فقدت زوجها في حرب دارفور، ونزحت هي وأخوتها عبر ممرات غير أمنة، وكابدت طويلاً للتغلب على مصاعب الحياة في السودان، البلاد المضطربة سياسياً وأمنياً، كما أنها ظلت تقاوم تعسف رجال الشرطة التي تنظر لستات الشاي كبؤرة لتجمع الأصوات المعارضة، وأحد المظاهر غير الحضارية في العاصمة الخرطوم.

تقول حواء لـ"عربي بوست": "كانوا يطاردوننا من مكان إلى آخر دون رحمة، ويصادرون الأواني، ويحطمونها أحياناً، ولكم تمنيت أن ينتهي هذا، وأن تنتهي الحرب بالمقابل لأعود إلى بيتي ومزرعتي، لقد تعبت من الوضع".

تضيف حواء في حديثها والدموع تغالب عينيها: "نحن شاركنا في الثورة وتحملنا الأعباء أكثر من الرجال، لكن معاناتنا لم تتوقف حتى الآن رغم انتهاء الثورة، الحياة أصبحت ثقيلة علينا أكثر بسبب الغلاء والمطاردات الأمنية، والتطويق السياسي".

من هنا انطلقت الثورة

لا يمكن لزائر للعاصمة السودانية الخرطوم ألا يجذبه منظر ستات الشاي، فبين هذه الكراسي والطاولات انطلقت أولى شرارات الثورة التي أطاحت بنظام البشير، وكانت أولى الخطط والأفكار للتحركات الثوار رُتبت فوق طاولة ست الشاي، التي كانت تحتضن يومياً العشرات منهن.

وفي ميدان الاعتصام قبالة مقر قيادة الجيش السوداني، وأثناء الاحتجاجات التي أطاحت نظام البشير، انتشرت العشرات من ستات الشاي يقدمن خدماتهن للثوار، ويسكبن أكواب القهوة بالبخور والشاي المنعنع بشكل مجاني، احتفاءً بقيام الثورة.

لم تُخف ست الشاي فرحها بنجاح الثورة وسقوط نظام البشير، فشاركن في الاحتجاجات وحمين المتظاهرين، وأطلقن الزغاريد إيذاناً بتحرك مواكب المسيرات، وبعضهن حُزنَ على لقب (كنداكة) في رمزية لملكات السودان القديم.

تقول حواء في حديثها مع "عربي بوست" إن طاولتها استقبلت العشرات من النشطاء في أيام الثورة، وسمعت أسراراً ساهمت في الإطاحة بالنظام قبل اندلاع الثورة، لكنها كانت كتومة جداً، حتى في بيتها ومع الناس القريبين منها، كانت تحرص على التزام الصمت، وعدم اجترار الحديث الذي تداول أثناء يوم عملها.

في بدء الأمر كانت مهنة بائعة الشاي مقتصرة على النساء المسنات، سواء الأرامل أو من الطبقة الفقيرة جداً، لكن اليوم أصبحت تمتهن بيع الشاي شابات في مقتبل العمر، سواء ممن تخلين عن دراستهن، وأيضاً شابات لم يستطعن الحصول على فرصة عمل.

ولعل أكثر ما هو لافت بخصوص ستات الشاي في السودان أن حياتهن تمضي على وتيرة واحدة، ولا توجد فرصة لأن تصبح الواحدة منهن ثرية أبداً، أو يحظى أطفالها بتعليم جيد، حيث يتراوح دخلهن اليومي ما بين ألف وألفي جنيه (15 دولاراً) بالكاد تغطي على تكلفة التنقل والمصاريف اليومية لبيتها.

وأشارت بعض الإحصائيات غير الرسمية إلى وجود نحو 13 ألفاً من النساء العاملات في بيع الشاي في العاصمة الخرطوم فقط، يُحَطن بتعاطف المجتمع وسخط الحكومة، وينظر إليهن كسيدات مكافحات، وأنهن بمثابة رأس الرمح في التغيير الذي تم إلى جانب الشباب المقهور، والدليل أن الثورة انطلقت من جلساتهن.

رعاية المبادرات الطوعية

ساهمت ستات الشاي في مبادرة تطوعية تحت إشراف جمعيات المجتمع المدني، مثل الست عشة والست أم قسمة، بائعات الشاي في الخرطوم، اللواتي اخترن أن يضعن طاولاتهن بالقرب من مستشفى الحوادث.

تقول تقوى كمبال، ناشطة في العمل الطوعي في حديثها لـ"عربي بوست" إن عشة وأم قسمة يعملن في بيع الشاي بجوار مستشفى الحوادث، ونلن شهرة كبيرة ونجومية أيام الثورة، بسبب مواقفهن الشجاعة ودعمهن للطلاب، حتى إن أم قسمة التي كانت تعتني بابنتها التي أصيبت بالفشل الكلوي وماتت بعد ذلك، ظلت داعمة لمبادرة "شارع الحوادث" وتحتضن المتطوعين، وتنسق جهودهم الأمر الذي نالت بسببه شرف قصّ شريط افتتاح غرفة العناية المكثفة للأطفال بمستشفى جعفر بن عوف.

وسردت تقوى بعض معاناة ستات الشاي إبان النظام السابق، إذ كنّ -وفقاً لحديثها- يتعرضن لحملات يومية، تنتهي بمصادرة عدتهن وتكبيدهن خسائر فادحة، ومع ذلك لم يتوقفن عن العمل، وتحدين عسف السلطة؛ لأن العمل في هذه المهنة كان خيارهن الوحيد.

وأضافت تقوى: "الآن بالرغم من الظروف الطاحنة فإن ستات الشاي مستقرات، ولا يتعرضن لأي إهانة أو معاملة سيئة، وبعضهن كأم قسمة مثلاً تحسنت أوضاعها المادية، واشترت كشك بالجوار".

لا يوجد مكان محدد (لستات الشاي) وإنما ينتشرن منذ الصباح الباكر في كل شوارع العاصمة الخرطوم، وأغلبهن من يأتي من الضواحي البعيدة بسبب غلاء الإيجار، وانحسار الظل القاسي للسلطة هنالك، بل إنّ أكثرهن من النساء المطلقات أو الأرامل، وضحايا العنف الأسري كذلك.

تقول الدكتورة جميلة الجميعابي المتخصصة في قضايا الأسرة والمجتمع، في حديثها لـ"عربي بوست" إن الحكومة مطالَبة بالاهتمام ببائعات الشاي، باعتبارهن فئة الشريحة ضعيفة، وفي حاجة دائمة للتوعية والحماية، وتقنين أعمالهن.

علامات:
تحميل المزيد