قبل ثلاثة أعوام احتفل العالم عندما حررت القوات العراقية بدعم من الولايات المتحدة وإيران، مدينة الموصل القديمة من الحكم الوحشي في ظل تنظيم "الدولة الإسلامية"، وثارت الآمال في نفوس سكان الموصل بإعادة بناء حياتهم بعد ما لحِق بها من دمار، لكن اليوم تدور رحى معركة مختلفة، في الكواليس، من قاعات الحكومة المحلية التي تطل على شوارع خرّبها القصف في المدينة إلى قاعات الاجتماعات بفنادق في بغداد.
تلك المعركة ليست سوى صراع على النفوذ بين أحزاب وساسة ورجال فصائل مسلحة، بعضهم تدعمهم إيران وآخرون يفضلون الولايات المتحدة، وسجَّل حلفاء إيران انتصارات في هذه المعركة، فقد عيَّنوا محافظاً تفضّله إيران قبل عام. لكن النفوذ الإيراني واجه تحديات تمثلت في احتجاجات مناهضة للحكومة وعقوبات أمريكية واغتيال القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني.
صراع أمريكي إيراني: على المحك، السيطرة السياسية في محافظة نينوى التي تمثل الموصل عاصمتها، وهي منطقة غنية بمواردها الطبيعية وتمثل همزة وصل في طريق إمداد يمتد من طهران إلى البحر المتوسط، ويخدم هذا الطريق فصائل تدعمها إيران وتعد ألد أعداء الولايات المتحدة هنا منذ هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية".
استطاع المعسكر المؤيد للغرب إبدال محافظ نينوى بحليف قديم للولايات المتحدة، يعكس هذا التنافس صراعاً أوسع على مستقبل العراق نفسه.
على مدار عام حاورت "رويترز" نحو 20 مسؤولاً عراقياً يشاركون في هذا الصراع السياسي على نينوى. روى هؤلاء كيف كونت إيران وحلفاؤها شبكات لبسط النفوذ على الحكم المحلي وكيف حاول مسؤولون مؤيدون للغرب التصدي لهم وكيف عرقل هذا الشد والجذب نهوض الموصل من كبوتها.
يعتقد كثيرون من المطلعين على بواطن الأمور، أنه إذا كان لجانب من الجانبين أن ينتصر فسيكون في النهاية الطرف المتحالف مع إيران.
علي خضير، عضو مجلس محافظة نينوى، قال إن إيران تدعم حلفاءها بالمال والمساندة السياسية ولا تفارقهم. وأضاف أنه على النقيض فإن "سياسة الولايات المتحدة لم تؤثر على العراق".
وقد أصبح جانب كبير من الموصل عبارة عن أطلال، حيث تتعثر حركة السيارات عبر جسور مدمرة، ويبيع المعاقون من ضحايا الحرب المناديل الورقية والسجائر والشاي عند التقاطعات. وتلك صورة من البؤس يخشى المسؤولون العراقيون أنها تمثل الأرض الخصبة المثالية لعودة "الدولة الإسلامية" للظهور.
اتهامات لطهران: اتهمت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية إيران ببذل جهد كبير "للهيمنة على كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية في العراق". وأضافت المتحدثة مورغان أورتاغوس، أن الولايات المتحدة ملتزمة بمساعدة العراق على بناء قدراته الاقتصادية وتحسين الاستقرار والأمن.
في الجهة المقابلة، قال علي رضا مير يوسفي المتحدث باسم بعثة إيران لدى الأمم المتحدة في نيويورك: "إيران لا تتدخل في الشؤون الداخلية للعراق".
فيما لم تردّ الحكومة العراقية على أسئلة تفصيلية قدمتها رويترز. وقال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لـ"رويترز"، رداً على سؤال عن الموصل، إن الفساد والخلافات السياسية يعرقلان النهوض بالمدينة، لكنه نفى وجود صراع بالوكالة.
"طموحاتنا بسيطة": تعد أسرة رشا سعيد الصغيرة واحدةً من آلاف الأسر التي تعاني من مظاهر فشل مجلس المدينة.
قد عادت الأسرة إلى الحي الذي كانت تقيم فيه بعد تحريره من "الدولة الإسلامية"، ولا تزال في حالة حداد على مقتل ابنها وهو في التاسعة من العمر، في غارة جوية شنها التحالف بقيادة الولايات المتحدة في 2015.
وجدت الأسرة بيتها مدمَّراً بالقنابل وقد سُوِّي بالأرض. وتعيش رشا وزوجها لؤي شاكر وأطفالهما الثلاثة الباقون، بالاستدانة، في شقة مؤجرة أُجريت بها إصلاحات جزئية على مقربة من البيت.
تراقب الأسرة العشب ينمو على قطعة الأرض التي كان بيتها القديم قائماً عليها. ويقول سكان إن جثث بعض مقاتلي "الدولة الإسلامية" مدفونة تحت الأرض.
كان لؤي عاملاً يدوياً يعمل قبل الحرب في نقل البضائع إلى المتاجر بأسواق المدينة القديمة بالموصل. غير أنه لا يمكنه العمل الآن، إذ يمر بمرحلة نقاهة من عملية جراحية لإزالة ورم خلف أذنه.
لضيق الأماكن بالمجمع الطبي في غرب الموصل حيث كان من المفترض بناء مستشفى جديد، فإن المتابعة العلاجية متقطعة وبطيئة، قالت رشا: "أكو انتظار بالمستشفى. الطبيب المتخصص بإصابة لؤي يقدر ياخد بس 3 مواعيد في الأسبوع مثلاً".
يتحدث الأطباء عن نقص المعدات والأدوية، وضمن ذلك الكمامات والقفازات، وهو ما يمثّل مصدر قلق خاصاً مع ارتفاع حالات الإصابة بـ"كوفيد-19″ في العراق. وعلّق متحدث باسم وزارة الصحة في العراق، قائلاً إن المعدات الواقية متوافرة بجميع المؤسسات الطبية التابعة للدولة.
يقف البيت الذي تعيش فيه رشا بصفة مؤقتة وسط الدمار، على تل يطل على نهر دجلة ويشرف على الموصل.
تقول رشا مشيرة إلى تنظيم "الدولة الإسلامية": "قبل داعش والله طموحاتنا بسيطة. كنا نريد حياة من دون عنف وحرب، وبيت أكبر إلنا وتعليم لأطفالنا، والآن مستحيل".
صراع سياسي: يمثل الصراع السياسي على نينوى جانباً من الصورة الأوسع في المحافظات الشمالية ذات الغالبية السنية، وهي من المعاقل السابقة لصدام حسين، وتمثل قيمة استراتيجية لطهران، وتريد واشنطن أن تحد من النفوذ الإيراني فيها.
يرابط عدد كبير من 5000 جندي أمريكي بالعراق في قواعد منتشرة عبر ثلاث من هذه المحافظات، وكثيراً ما تتعرض لهجمات صاروخية يحمّل المسؤولون الأمريكيون المسؤولية عنه لفصائل تعمل لحساب إيران وتريد إخراج القوات الأمريكية.
تعمل الولايات المتحدة على تخفيض حجم قواتها في العراق.
كانت إيران قد أكدت هيمنتها على بغداد والمحافظات الجنوبية الشيعية في العراق بعد الاجتياح الأمريكي عام 2003 والإطاحة بصدّام. غير أن المناطق السُّنية في البلاد والتي تعيش فيها أيضاً أقليات من الأكراد والمسيحيين والتركمان الشيعة واليزيديين كانت تمثل تحدياً.
كما أصبحت هذه المناطق مراكز لتمرد سُني على القوات الأمريكية في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة ومعاقل لتنظيم "الدولة الإسلامية" الذي اتخذ من الموصل عاصمة له في 2014.
بعد أن ساعدت الفصائل المدعومة من إيران في إخراج "الدولة الإسلامية" من الموصل في 2017، بقيت الفصائل بالمنطقة.
هذا، وترفرف أعلام هذه الفصائل في مختلف أنحاء شمالي العراق جنباً إلى جنب، مع رايات ولوحات إعلانات تكرّم قياداتها ومن ضمنهم القائد الإيراني المقتول سليماني.
مدينة مدمرة: قال مسؤول رفيع بالإدارة المحلية ومسؤول ثان، إن فراغ السلطة بين المرعيد والجبوري حال قبل أسابيع فحسب من نهاية 2019، دون إحالة عقود في وقت حرج يتعين فيه إنفاق الميزانية السنوية.
أظهرت وثيقة مذيَّلة بتوقيع عبدالقادر الدخيل، مدير بلديات نينوى، اطلعت عليها رويترز، أن السلطات الإقليمية لم تحل عقوداً لمشروعات تتجاوز قيمتها 200 مليون دولار بمحافظة نينوى في 2019.
قال الدخيل لـ"رويترز"، إن من هذه المشروعات مستشفى جديداً للطوارئ ومعدات لمستشفى آخر في موقع قريب منه، وشراء عربات إضافية لأجهزة الدفاع المدني، وإصلاح 13 مدرسة.
عمِل الدكتور عمر حمودات، الذي يساعد في إدارة المجمع الطبي بالجانب الأيمن من الموصل، في مستشفيات المدينة في ظل العقوبات الدولية خلال التسعينيات وفي ظل احتلال "الدولة الإسلامي. وقال حمودات إن البنية التحتية للرعاية الصحية هي أسوأ ما شاهده على الإطلاق.
يقول في مكتبه المزدحم بالمجمع، إن المستشفى كان يستطيع في وقت من الأوقات إجراء 200 عملية جراحية طارئة في اليوم الواحد. أما الآن فقد أصبح العدد نحو 15 عملية.
قبل أن يصل تنظيم "الدولة الإسلامية" كان عدد الأسرَّة الإجمالي بمستشفيات محافظة نينوى نحو 4000 سرير. والآن أصبح العدد أكثر قليلاً من الألف سرير وضمن ذلك ما يسميه حمودات "كرافانات"، في إشارة إلى الهياكل سابقة التجهيز.
من جانبه، قال حسام خليل مدير الدفاع المدني في الموصل، إن توفير عربات الطوارئ مثل سيارات الإطفاء والإسعاف، لم يتحقق رغم أنه كان من المتوقع أن يتم في 2019.
كما أضاف: "أحياناً لازم نعتمد على سياراتنا الخاصة للشغل بس مو لإطفاء الحرائق أو الإنقاذ".
أشاد سكان الموصل بتعامل الجبوري مع أزمة كوفيد-19، حيث كان إغلاق المدينة حتى الآن سبباً في تحاشي انتشار المرض على نطاق واسع، غير أن البعض يشعر بأنه ليس أهلاً لمهمة إعادة بناء المدينة. ويقول كثيرون إنهم لا يريدون سوى محافظ لديه كفاءة بغض النظر عن انتمائه السياسي.