أثارت محاكاة ساخرة لأغنية ألمانية كلاسيكية مخصصة للأطفال أزمة كبيرة في البلاد خاصة بعدما اشتكى بعض الأجداد وكبار السن من إن الأغنية تسيء إليهم.
يمينيون متطرفون يُوجِّهون الغضب المُثار حول أغنية ساخرة ألمانية
كان الهدف من المحاكاةٍ وفق تقرير نشرته صحيفة The New York Times الأمريكية هو السخرية من فجوة الأجيال بين الشباب الألمان الذين يدركون أهمية قضايا المناخ والبيئة وأجدادهم الذين يُفضِّلون استهلاك كمياتٍ هائلة من مصادر الوقود التقليدية كالبنزين والغاز.
لكن بعدما نشرت إحدى أكبر قنوات البث العام في البلاد الأغنية عبر صفحتها على فيسبوك، اشتكى بعض الأجداد وكبار السِن، الذين شعروا بالإساءة، من الأغنية.
لم يتوقف الأمر عند ذلك بل استطاع ناشطو اليمين المتطرف توظيف الأغنية والغضب المثار حولها، ما دفع القناة إلى حذف الأغنية والاعتذار عنها، لكن الصحفيين العاملين في القناة اتهموا الرؤساء بداخل القناة بالرضوخ للضغوط وقالوا إنَّهم أصبحوا أهدافاً لتهديداتٍ بالقتل.
حتى إن الأمر بات يتحول إلى فضيحة وطنية في ألمانيا بسبب الأغنية القصيرة الساخرة التي تُدعى "Granny Is an Old Environmental Swine"، أو "الجدة خنزيرةٌ بيئية مُسِنة"!
بعض المراقبين أشاروا إلى أنَّ هذا الجدل مشابه لقضايا جدلية أخرى أثارها في الأعوام الأخيرة عددٌ قليل من المتصيدين اليمينيين المتطرفين الذين يسعون إلى زعزعة الإجماع العام حول مكافحة تغيُّر المناخ والتشويش على وسائل الإعلام التقليدية في البلاد.
مع أنَّ بدايات هذا الخلاف المحتدم ربما تبدو بسيطة، فإنَّه أجَّج المخاوف بشأن انهيار نسيج ألمانيا الاجتماعي، وبشأن القدرة المتزايدة لشبكات التيار اليميني عبر الإنترنت على بثِّ الخلاف حول القضايا الاجتماعية.
وتوجه اتهامات إلى اليمين المتطرف لقدرته على استخدام الإنترنت لخدمة أجندته الخاصة
حيث قال ميرو ديتريتش، وهو محللٌ لنشاط اليمين المتطرف على الإنترنت لدى مؤسسة Amadeu Antonio Foundation، التي تشجِّع التعددية وحقوق الإنسان: "بنفس الطريقة التي سارع بها النازيون إلى استخدام الراديو لأغراضهم الدعائية، كان اليمين المتطرف سريعاً جداً في تعلُّم كيفية استخدام الإنترنت للترويج لأجندته الخاصة".
لفعل ذلك، عكف عددٌ من المتصيدين اليمينيين على كتابة تغريداتٍ تنتقد شبكة قنوات WDR، التي نشرت الأغنية، وإعادة نشر تغريداتٍ تُهاجمهما لجعل المشكلة تبدو أهم مما كانت عليه. ونتيجة لذلك، شارك بعض الساسة في التعليق على القضية، وشعرت شبكة WDR بأنَّها مضطرة إلى الرد.
إذ عقد توم بوهرو، مدير شبكة القنوات، اجتماعاً مغلقاً في الأسبوع الجاري مع الصحفيين لطمأنتهم بأنَّه يقف وراء استقلالهم، وسيواصل دعم الإنتاجات الساخرة كما كان في الماضي.
لكنَّ هذه الواقعة كشفت عن منحنى التعلُّم الحاد في ألمانيا في ما يتعلق بشبكات التواصل الاجتماعي.
فعلى عكس الولايات المتحدة، حيث يستخدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تويتر باستمرار معتبراً إيَّاه ميكروفونه الخاص، لا يستخدم شبكات التواصل الاجتماعي في ألمانيا باستمرار سوى أقل من نصف سكان البلاد البالغ عددهم 82 مليون نسمة، وفقاً لدراسة أجراها مركز بيو للأبحاث في عام 2018.
وينتشر على مواقع التواصل الاجتماعي خطاب الكراهية في ألمانيا
ففي هذا الصدد، قال فيليب كريسل، من منظمة #Iamhere التي تتعقب خطاب الكراهية على شبكات التواصل الاجتماعي وتحاربه، إن هؤلاء المستخدمين من بينهم العديد من الساسة والصحفيين الذين قد يركبون الموجة في مناقشة الموضوعات الأكثر تداولاً دون معرفة كيفية وصول هذه الموضوعات إلى صدارة قائمة الموضوعات المتداولة.
سرعان ما تعلَّم اليمين المتطرف أنه يستطيع إحداث تأثيرٍ كبير بالإفراط في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي.
إذ قال كريسل، الذي درس قضية الجدل الذي أثير حول الأغنية، والذي أصبح متداولاً تحت هاشتاغ #Umweltsau الألماني: "استخدام اليمين المتطرف لشبكات التواصل الاجتماعي بهذه الطريقة يُعد قراراً استراتيجياً. فهُم يعلمون أنهم يستطيعون أن يجعلونا نعتقد أنهم كثيرون حين ينشرون بكثرةٍ على تلك الشبكات. وهذا بسيطٌ للغاية، لكنَّ الكثير من الناس لا يتوقعون هذه الأشياء".
تجدر الإشارة إلى أنَّ تتبُّع تاريخ الأغنية وردود الفعل عليها عبر الإنترنت يُظهِر كيف أنَّ مجموعةً صغيرة من الممثلين استغلتها لاحتلال عناوين الصحف ودفعها إلى مقدمة النقاش العام.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني، أدَّى بعض الممثلين نسخةً من الأغنية في عرضٍ كوميدي مباشر على شبكة WDR، ونُشِرَت على الإنترنت دون إثارة الكثير من الاهتمام أو الاعتراض، حسب ما أوضح لوكا هامر، محلل شبكات التواصل الاجتماعي، على تويتر.
أما في الأغنية الأصلية المُخصَّصة للأطفال، كانت إحدى الجدَّات تتلقى مديحاً وتوصَف بأنَّها "ذكية" لقدرتها على قيادة دراجتها النارية في حظيرة دجاج صغيرة، وربط مقود الدراجة بوعاء الطهي الخاص بها.
وقد حاولت النسخة الساخرة من الأغنية الأزمة تغيير مضمون الأغنية الأصلية
حيث إن النسخة الساخرة قلبت هذه الصورة رأساً على عقب، إذ تنتقد حب الجدة لدراجتها النارية التي تعمل بالغاز، ثم تذكر أنَّها تترك دراجتها وتركب بدلاً منها سيارة رياضية متعددة الأغراض تستخدمها للاصطدام باثنين من الأجداد.
لكن حين قرَّرت قناة WDR2، التابعة لشبكة قنوات WDR، عرض الأغنية، جعلت جوقة من الأطفال تُغنيها. ونشرت مقطع فيديو للأغنية عبر صفحتها على فيسبوك في 27 ديسمبر/كانون الأول الماضي، فنُشِرَت التعليقات عليها، وجاءت المكالمات من عدة أشخاص، وكان الكثيرون منهم جداتٍ وأجداداً شعروا بالإهانة.
إذ أشارت كارين زوهرت، التي ذكرت أنَّها جدة من مواليد عام 1950، والتي تعيش الآن في العاصمة الألمانية برلين، إلى التناقض بين طفولتها التي عاشتها في الماضي وطفولة أطفال العصر الحاضر.
حيث قالت إنَّ الوضع كان مختلفاً في طفولتها، إذ كان ركوب الحافلة يُعَد رفاهية، وكانت الشقق تُدفَّأ بالفحم، أمَّا الملابس، فكان يُعاد تدويرها واستخدامها باستمرار. وأضافت أنَّ شباب اليوم هم الذين يجب أن يخجلوا. وكتبت: "أنتم الخنازير البيئية".
من جانبها حذفت شبكة WDR منشور الأغنية في اليوم نفسه، متعللةً بالضجة الغاضبة.
لكنَّ بعض أعضاء حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف كانوا قد استغلوا الموضوع بالفعل، وبدأوا في تداوله على بعض الحسابات التي ذكرت منظمات خطاب الكراهية أنَّها تنتمي إلى متطرفين يمينيين، حسب ما ذكر كريسل.
ففي اليوم التالي، أصدرت الشبكة بياناً أعربت فيه عن أسفها حيال توجيهها إساءة إلى أي أحد، مؤكدةً أنَّ ذلك لم يكن هدفها.
حيث قالت في إشارةٍ إلى احتجاجات الشباب ضد تغير المناخ: "كان الهدف هو استخدام السخرية لمعالجة صراع الأجيال الذي سبَّبته حركة Fridays for Future".
ما دفع حاكم ولاية شمال الراين إلى انتقاد الأغنية الساخرة
من جانبه انتقد أرمين لاشيت، حاكم ولاية شمال الراين-وستفاليا والعضو في الحزب الديمقراطي المسيحي المحافظ، الأغنية ووصفها بأنَّها تلاعب مرفوض بالشباب، الذين يُحرَّضون على الأجيال الأكبر سناً.
أرمين لاشيت قال في منشور على تويتر: "لقد تجاوزت الأغنية حدود الأسلوب المُهذَّب واحترام كبار السن".
بحلول ذلك الوقت، كان عدد المنشورات التي تحمل كراهيةً قد تصاعد، واضطرت الشبكة إلى استضافة عرض نقاشي بين المستمعين حول الجدل المُثار.
حيث كان من بين المشاركين، توم بوهرو مدير الشبكة الذي قال: "لقد كان خطأ. أعتذر عن ذلك دون أعذار أو مبررات أو تحفظات".
غير أن تصريحاته أجَّجت الوضع بدلاً من تهدئته.
ففي رسالة مفتوحة إلى بوهرو، وصف العشرات من الصحفيين الذين يعملون في القناة قراره حذف مقطع الأغنية بأنَّه "مُهمِل"، قائلين إنَّها لم تُشكِّل إهانةً للأجداد أكثر من الإهانة التي وجَّهتها شخصية الأب مدمن الكحول في أغنية Papa Was a Rollin' Stone إلى الآباء.
جاء في الرسالة: "الغضب المثار حول الأغنية يتبع أنماطاً معروفة يستخدمها المتصيدون اليمينيون المتطرفون الذين يعرفون أنَّ مزاعمهم سخيفة. إنهم يسيئون استغلال ردود فعل مجتمعنا الهادفة المتمثلة في الرغبة في عدم إلحاق ضررٍ بأحد من أجل "اختراق" النقاش العام، وجذب الانتباه، وتحويل الأفكار والآراء التي تُعتبر مقبولةً لمصلحتهم".
مع تراجع القناة عن إذاعة الأغنية الساخرة قال الصحفيون أنهم تلقوا تهديداً بالقتل
ففي أعقاب الجدال، قال بعض الصحفيين إنَّهم تلقوا تهديدات بالقتل عبر الإنترنت.
بعد ذلك بيومين، تعهَّد بوهرو في مقطع فيديو بـ"بذل كل ما في وسعنا لحماية موظفينا". وأضاف: "أسأل نفسي عن مشكلة بلدنا حين يؤدي مقطع فيديو غير ناجح إلى تهديدات بالقتل".
تجدر الإشارة إلى أنَّ هذه الضجة ليست المرة الأولى التي يقع فيها الصحفيون في ألمانيا ضحية استهداف حملات الكراهية على الإنترنت، التي بدأت مع وصول أكثر من مليون مهاجر إلى ألمانيا في أواخر عام 2015، وتزايدت منذ ذلك الحين. لكنَّ أولئك الذين يتابعون نشاط الجماعات اليمينية عبر الإنترنت يشعرون بالقلق من أنَّ الشعب ما زال يستهين بمدى نفوذ تلك الجماعات.
إذ قال ديتريش: "أعتقد أنَّه لا يوجد وعيٌ كاف حتى الآن بشأن قوة الحشد اليمينية على شبكة الإنترنت ومدى تطوُّرها".
أضاف: "هذه الظاهرة ليست بالأمر الجديد، لكنَّ السؤال هو هل قناة (WDR) تعلَّمت منها أم لا".