حدث ما كان يجب أن يحدث أو ما كان مخططاً له؛ ضربة إيرانية ضد قواعد أمريكية في العراق محدودة جدا، وهي أقرب لرسالة للداخل الإيراني وللصفقة السياسية التي تمهّد الطريق للعودة إلى ما قبل خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني؛ صفقة كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرابح الأكبر فيها بلا شك ونجح في ما يريد بامتياز.
فعلى المستوى الداخلي، الجميع كان يعلم أن ترامب قاب قوسين أو أدنى من العزل السياسي بسبب فضيحة الانتخابات الأوكرانية، وإلى جانب بيلوسي ورفقائها من النواب الذين أزعجوا ترامب كثيراً كان آخر استطلاع رأي أجرته شبكة رويترز يشير إلى أن غالبية الأمريكيين يرغبون في عزل ترامب، ولم يكن هناك حديث في الشارع الأمريكي إلا عن عزل ترامب، وربما جاء اغتيال سليماني ليغطي على الموضوع، ويظهر بمثابة البطل الذي أعاد للولايات المتحدة هيبتها في الشرق الأوسط، وقطع اليد التي امتدت على السفارة والمصالح الأمريكية في العراق، ولا شك أن شعبية ترامب قد زادت بعد اغتيال سليماني، ونجاحه في إحراج نظام إيران.
أما على المستوى الخارجي، فقد وجَّه ترامب أكبر ضربة قاصمة للإمبراطورية الشيعية التي أنشأها قاسم سليماني في المنطقة، وحَّد من نفوذها بمقتل الرجل، فسليماني هو الرجل الثاني في إيران والأول خارجياً، وهو العقل المدبر لكل الميليشيات في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وخسارته ثقيلة جداً لا تعوَّض.
نجح ترامب في إظهار ضعف قوة النفوذ الإيراني في المنطقة مقارنةً بالنفوذ الأمريكي، فقد كانت رسالة واضحة بأن للشرق الأوسط ملكاً واحداً هو الولايات المتحدة، فهي تحارب متى تشاء وتمد يدها للسلام متى شاءت، وقد كان ذلك واضحاً في خطاب الرجل الأخير الذي دعا فيه الأوروبيين للتركيز على حرب داعش.
كما أعاد ترامب -بسماحه لإيران بضرب قواعده في العراق دون العقاب الشديد- الأمور إلى نقطة الحوار حول الاتفاق النووي، فبدت الضربة الأخيرة تفوح منها رائحة الصفقة السياسية أكثر من رائحة الانتقام، وهو ما تؤكده صحيفة الإندبندنت، وفق مسؤولين أمريكيين، وما أكده تصريح وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، حين أعلن أثناء الهجمات أن إيران لا تريد التصعيد، وأن الأمر قد انتهى.
نجح ترامب باعتماده على سياسة الكيل بمكيالين، فبدا مصعداً في اللحظات الأولى قبل دفن سليماني، والجميع يعلم الحالة النفسية لأهل الفقيد قبل دفنه كمية التأثر التي تكون في اللحظات الأولى من الصدمة، فكانت تغريدات ترامب حاضرة لتضغط على نظام إيران، وتظهر مدى تأثره بضربة سليماني.
وفي نفس الوقت كانت الوفود الخليجية تحت علم أمريكي تصل طهران وتخفف من حدة الأزمة والصدمة، وتعرض حفظ ماء وجه إيران مقابل عدم التصعيد.
كما أظهرت الأزمة ضعف الماكينة الإعلامية الإيرانية في زمن الإعلام، فبدا إعلام طهران يتبع سياسة البروباغندا الإعلامية أيام الحرب العالمية الثانية، حين استخدمت الصور الكاذبة والأرقام الكاذبة لأعداد الضحايا في صفوف العدو.
فبدا إعلام طهران مصراً على سقوط الضحايا في صفوف الأمريكيين دون صور أو فيديوهات توثق ذلك، وهو ما ينافيه الواقع، فلغة خطاب الأمريكيين بعد الواقعة كانت تنبئ بأن واشنطن في وضع جيد ولا خسائر في الأرواح، بل بدا خطاب ترامب خطاب المنتصر الذي يفرض شروطه على خصمه.
كما أن لغة التهديد والوعيد والحرب الإعلامية والصور المفبركة والمانشيتات العريضة في عصر السوشيال ميديا لم تعد تؤتي أكلها، فقد ماتت أساليب تشرشل بموته، ولو كان الفيسبوك وتويتر موجودين أيامها لفشلت تلك الأساليب.
ولم يكن ترامب لوحده المستفيد من مسلسل اغتيال سليماني، فقد بدا الاحتلال الإسرائيلي، وعلى رأسه نتنياهو الذي تنفس الصعداء وهو في وضع لا يحسد عليه، منتشياً، وسارعت الصحف العبرية للقول إن العملية من تخطيط جهاز المخابرات الإسرائيلي، وهو أمر يحسب سياسياً لنتنياهو الذي نجح في القضاء على عدو لإسرائيل وضرب مَن يدعي عداوتها وصانع أسلحة مقاومتها قاسم سليماني، وقد عُرف عن الرجل أنه العقل المدبر للقوة الصاروخية للفصائل الفلسطينية.
الأمر كله مرتبط ببعضه البعض، فترامب ونتنياهو ربحا الجولة سياسياً وأمنياً وربما شعبياً، وإيران خسرت سليماني وقوتها العسكرية في المنطقة، وقد تخسر سياسياً لو عاندت أو تهوَّرت.
وقد قيل قديماً إنه "يؤخذ بالسلم ما لا يؤخذ بالحرب".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.