جلس الحبيبان سيمين ورضا يتأملان حفل قاعة زفاف في أحد أحياء مدينة طهران. مساحتها كافية لاستضافة معازيم العائلتين والأصدقاء، وتبدو لائقة اجتماعياً لاستقبال ضيوفهما، ولكن عندما قال صاحب الصالة إن إيجارها لليلة الواحدة يكلف 8000 دولار، عادت سيمين فجأة من خيالها الذي سرح في شكل فستانها المتدلي فوق الكرسي المنصوب في صدر الصالة المزينة بالورود والأنوار الصغيرة الدافئة.
"كان من المفترض أن يكون موعد زفافنا منذ عام مضى، ولكن لم نستطع توفير المبلغ المطلوب لاستكمال حفل الزفاف".
توضح سيمين أنها اضطرت إلى تأجيل موعد زفافهما للمرة الثالثة بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة التى تمر بها إيران حالياً.
فالعقوبات والسياسات الأمريكية لم تخنق فقط رؤوس الأموال الإيرانية وأسعار النفط، بل أحلام مئات آلاف الشبان معها.
تبلغ سيمين من العمر 31 عاماً، وهي تعمل كمدرسة فى إحدى المدارس الابتدائية، أما رضا فمحامٍ يبلغ من العمر 36 عاماً.
كلاهما ينتميان إلى أسر من الطبقة المتوسطة، ويعيشان فى العاصمة الإيرانية طهران.
تشكو سيمين من وضعهما الاقتصادي، خاصة في الآونة الأخيرة وتقول لـ "عربي بوست": "تمت خطبتنا منذ 4 أعوام، ومن وقتها ونحن نحاول تدبير أمورنا لإكمال مراسم الزفاف، لكن كل شيء في إيران أصبح باهظ الثمن، وبعيد المنال".
مهناز وبهرام، على صعيد آخر، زوجان محظوظان قليلاً، إذ تمكّنا من الزواج قبل خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني العام الماضي، لكنهما قرّرا عدم الإنجاب.
مهناز تبلغ من العمر 34 عاماً وتعمل طبيبة صيدلانية، وبهرام البالغ من العمر 39 عاماً، وهو طبيب بيطري ولديه عيادة خاصة به في مدينة أصفهان.
إيران تشجع على الإنجاب
في اجتماع المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي بعددٍ من الأزواج الشباب، في شهر أغسطس/آب 2019، صرّح بضرورة إنجاب الإيرانيين المزيد من الأطفال بدعم من مؤسسات الدولة.
حثّ المرشد الأعلى أيضاً الشباب على الزواج، و "تأسيس أسرة إسلامية صالحة. فالبلاد بحاجة إلى المزيد من الأطفال الصالحين"، على حد تعبيره.
أثارت تصريحات المرشد الأعلى انتقادات واسعة بين الإيرانيين على مواقع التواصل الاجتماعي الناطقة بالفارسية، واعترض البعض على دعوته لإنجاب المزيد من الأطفال في ظل الظروف الاقتصادية المريرة.
وتساءل آخرون عن قدرة الشباب الإيراني في ظل كل تلك الأسعار المرتفعة، وعبروا عن استيائهم من الوضع الحالي في البلاد، وعدم إحساس المسؤولين بمعاناة الشباب مع البطالة.
إذ تعاني إيران حالياً من ركود عميق، مع توقع نمو بنسبة 6٪، وتضخم بأكثر من 40٪ مع ملايين الشباب العاطلين عن العمل، وفق ما نشر موقع Radiofarda.
رحلة إيران من تحديد النسل إلى المزيد من الإنجاب
مرّت إيران بمراحل عديدة مع قضية تحديد النسل، والتحكم في عدد السكان، بدأ من عصر الشاه محمد رضا بهلوي مروراً بفترة التسعينات التي قدمت إيران فيها واحداً من أنجح برامج تحديد النسل في العالم بشهادة الأمم المتحدة.
يقول أستاذ علم الاجتماع الإيراني حسن أكبر بور لـ "عربي بوست": "بدأت إيران التخطيط لبرامج تحديد النسل عام 1967 في عهد الشاه محمد بهلوي. وقتها أمر الشاه بتوزيع وسائل منع الحمل مجاناً على كافة الشعب الإيراني، والتخطيط لحملة توعية كبيرة بأهمية تحديد النسل".
لكن برنامج الشاه لم يحقق هدفه المنشود بصورة كبيرة، ويعلل ذلك الأمر أكبر بور بأنه في تلك الفترة من تاريخ إيران كانت البلاد تعاني من أمية كبيرة، بجانب تصدي رجال الدين والمرجعيات الدينية تحديد النسل، ما أدى إلى فشل الحملة.
يقول أكبر بور لـ "عربي بوست": "خطة الشاه لتحديد النسل كانت رائعة، لكن تنفيذها لم يكن بمثل كفاءة التخطيط لها؛ لأن القائمين على هذا البرنامج أغفلوا العديد من النقاط، مثل أهمية الوصول إلى المناطق الريفية، والتحدث مسبقاً مع رجال الدين لإقناعهم بالفكرة".
وفي عام 1979 بعد أن انهار نظام الشاه في إيران، وأعلن آية الله الخميني إيران جمهورية إسلامية، تم التخلص من كل خطط الشاه، ومن ضمنها خططه لتحديد النسل على وجه الخصوص، باعتبارها تقليداً غربياً لا يتماشى مع التقاليد الإسلامية.
جيش المليون رجل
في العام التالي، أي في 1980، شن صدام حسين هجوماً كبيراً على الجارة الإيرانية، ودخل البلدان في حرب دامية لثماني سنوات، فقد كلاهما فيها مئات الآلاف من الأرواح.
أدرك الخميني آنذاك أن الجمهورية الوليدة بحاجة لمزيد من السكان.
أراد وقتها بناء قوة بشرية عتيدة لمواجهة أخطار مستقبلية، فبدأ في حملة جيش المليون رجل.
على هذا الأساس، أصدرت الحكومة العديد من الحملات الدعائية الضخمة التي تشجع النساء على إنجاب المزيد من الأطفال، وقدمت إعانات مالية لكل الأسر متعددة الأطفال.
يوضح أستاذ علم الاجتماع أكبر بور لـ "عربي بوست" أنه "على عكس حملة الشاه لتحديد النسل، حققت حملة الخميني نجاحاً كبيراً في سنوات قليلة، وزاد عدد سكان إيران من 34 مليون نسمة في عام 1976، إلى 50 مليوناً في عام 1986".
الزيادة السكانية الهائلة شكّلت عقبة ما بعد حرب الخليج
في عام 1989، انتهت الحرب العراقية الإيرانية بخسائر فادحة بالنسبة إلى إيران على وجه التحديد.
إذ خرجت الجمهورية الإيرانية من تلك الحرب مثقلةً باقتصاد متهالك، وبنية تحتية مدمرة، وعدد كبير من مصابي الحرب، فأصبح التضخم السكاني الأخير بمثابة عقبة كبيرة أمام إعادة إعمار البلاد.
والحل؟ تحديد النسل من جديد.
عندها، أدركت الحكومة الإيرانية أنه لا بد من تغيير المسار، وتنفيذ خطط لتحديد النسل للسيطرة على التضخم السكاني.
بدأت الخطة بدأت أواخر عام 1989، وبداية 1990 عبر حملة لتوعية الشعب بأهمية تحديد النسل.
وتحت شعار "واحد جيد، اثنان كافيان"، بدأت الحكومة في برنامج صحي لتوعية النساء والرجال بكافة أنواع وسائل الحمل، وتوزيعها مجاناً في كافة أرجاء الجمهورية الإيرانية.
أقرّ رجال الدين تعقيم الرجال والنساء
يقول أكبر بور: "كانت بداية تلك الخطة لتحديد النسل تلك المرة، طموحة وناجحة للغاية، وتعاملت مع حكومة هاشمي رفسنجاني في ذلك الوقت بذكاء كبير، فأدركت الإدارة أن مفتاح نجاح تلك الخطة هو الوصول إلى جميع القرى والمناطق الحدودية وعدم الاكتفاء فقط بالمحافظات الكبيرة والعاصمة".
كان هناك عامل مهم لنجاح تلك الخطة أيضاً، وهو مباركة المرجعيات الدينية لفكرة تحديد النسل، بل إنهم أخذوا على عاتقهم دعوة الناس إلى ضرورة استخدام وسائل منع الحمل، من أجل مساعدة الحكومة في تخطي أزمة ما بعد الحرب.
وصلت حملة الحكومة لتحديد النسل إلى الجامعات التي أقيمت بها دورات تثقيفية في تنظيم الأسرة، وألزمت الحكومة الأزواجَ الراغبين في الزواج بأخذ دورة توعية بجميع أنواع وسائل منع الحمل، كضرورة للحصول على وثيقة الزواج.
وأصدر خامنئي فتوى تبيح تحديد النسل واستخدام كافة وسائل منع الحمل التي من ضمنها -وكانت تعتبر أشهر وسيلة منع حمل في إيران- عملية التعقيم للنساء والرجال (تكون عملية التعقيم بالنسبة إلى الرجال عبارة عن استئصال الأنبوب الذي يحتوي على الحيوانات المنوية من مكان إنتاجها في الخصية، أما بالنسبة إلى النساء فتكون عبارة عن استئصال الرحم، أو غلق قناتي فالوب).
أقبل الإيرانيون على برنامج تحديد النسل مع مرور السنوات، حتى تمكنت الحكومة من النجاح في خطتها بالكامل، وارتفع معدل النساء اللاتي يستخدمن وسائل منع الحمل إلى 74% في عام 2000.
أشادت المنظمات الدولية ببرنامج تنظيم الأسرة في إيران، باعتباره الأنجح في تاريخ البشرية، ومنحت الأمم المتحدة جائزة السكان للجمهورية الإيرانية في عام 2001، تقديراً لنجاحها في السيطرة على عدد السكان.
مكاسب النساء من برنامج تحديد النسل
لم تكن الحكومة الإيرانية هي الوحيدة التي حققت مكاسب من برنامج تحديد النسل ونجاحه، فكان للمرأة الإيرانية نصيب كبير من المكاسب بسبب تنظيم الأسرة.
تروي الناشطة النسوية شيما رستمي لـ "عربي بوست"، بعضاً من تلك المكاسب فتقول: "لم يتخيل أحد أن حملة تحديد النسل ستساعد الإيرانيات على تحقيق المكاسب، قررت النساء المتزوجات حديثاً تأجيل الإنجاب، واستكمال تعليمهن الجامعي".
وأضافت: "على سبيل المثال، في عام 2010 وصل عدد النساء في الجامعات إلى 65% من إجمالي الطلبة المقيدين" .
واعتبرت أن تأجيل الإنجاب، أو إنجاب عدد أقل من الأطفال، يساعد النساء على إثبات نجاحهن في سوق العمل بعد أن كان محرماً عليهن لسنوات عديدة، على حد تعبيرها.
وترى رستمي أن من فوائد برنامج تحديد النسل الذي تبنته الحكومة أيضاً تأخير الزواج في سن مبكّرة، وبدأت الفتاة الإيرانية تفكّر في استكمال دراستها، والتخطيط لمستقبلها المهني.
تنظيم الأسرة كان خطأً كبيراً
بعد كل تلك النجاحات والإرشادات الدولية بما فعلته الحكومة الإيرانية لتنظيم الأسرة، أعلن خامنئي في عام 2012 وبشكل مباغت أن الأمر برمته كان خطأً كبيراً، وقال: "أحد الأخطاء التي ارتكبناها في التسعينات كانت السيطرة على السكان، كان المسؤولون مخطئين بشأنها، وأنا أيضاً لي دور في ذلك، ونطلب من الله أن يسامحنا".
استغل هذا الاعتراف الرئيس الإيراني المحافظ أحمدي نجاد، والذى كان يتولى رئاسة البلاد في ذلك الوقت، وبدأ في شن حملة مضادة لحملة تحديد النسل، مصرحاً بأن إيران لديها إمكانيات لاستيعاب 150 مليون نسمة.
وانقلبت الأمور من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وبعد أن كان الإيرانيون يحصلون على كافة أنواع وسائل منع الحمل مجاناً لدرجة أن الحكومة كانت قد أنشأت مصنعاً لتصنيع الواقى الذكري ليكون الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، تبدلت الأحوال، ومنع أحمدي نجاد كل تلك الوسائل، ومنع كذلك عمليات التعقيم، وأصدر أمراً بمعاقبة أي طبيب يقوم بإجراء مثل تلك العمليات.
من تحديد النسل إلى زيادة الخصوبة
وقتها أعلنت وزارة الصحة الإيرانية أن الحكومة قد قررت إلغاء ميزانية تمويل برنامج تحديد النسل بالكامل، وسيتم توجيهها إلى تمويل برنامج زيادة الخصوبة، والذي سيهتم أيضاً بالأمهات والأطفال حديثى الولادة.
لم يكتفِ المرشد الأعلى الإيراني بهذا القدر، بل صمم على زيادة عدد السكان.
ففي عام 2014، نشر الموقع الإلكتروني الرسمي الخاص به خطته المكونة من 14 بنداً، لتكون تلك الخطة هي السياسة التي ستتبعها الحكومة لعكس أعداد السكان المنخفض.
تنصّ الخطة بإيجاز على أهمية حث الشباب على الزواج المبكّر والإنجاب السريع، وتوفير التسهيلات للنساء أثناء الحمل خاصة العاملات منهن، ومعارضة النمط الغربى الذي يدعو إلى تحديد النسل، وأخيراً أهمية دعم برامج تثقيفية في المدارس والجامعات تحث النساء على الزواج والإنجاب بدلاً من العمل.
لكن ما أسباب خامنئي لزيادة عدد السكان؟
برر المرشد الأعلى رغبته فى زيادة عدد سكان إيران، وفسّر خطأ برنامج تحديد النسل في التسعينات بأن هذا البرنامج أدى إلى انخفاض حاد في عدد السكان، وأن البلاد ستصاب بالشيخوخة في المستقبل القريب، إذا استمر رفض الأزواج إنجاب المزيد من الأطفال.
يبلغ عدد سكان إيران حالياً بحسب آخر الإحصاءات 81 مليون نسمة، وأعلن خامنئي مراراً وتكراراً أنه يريد أن يصل عدد سكان إيران إلى 150 مليون نسمة.
لكنْ هناك مَن يخالف خامنئي بشأن شيخوخة السكان التي يخشاها، فيقول الصحفي الإيراني مصطفى (اسم مستعار) لـ "عربي بوست": "إن نسبة الشباب في المجتمع الإيراني حوالى 60% من إجمالي عدد السكان، فلا داعي للقلق من هذا الأمر".
ما الدوافع الخفية وراء زيادة عدد الإيرانيين؟
إلى جانب أسباب المرشد الأعلى، صرح آية الله جعفر سبحاني -وهو واحد من أهم المرجعيات الدينية في مدينة قم- بأن انخفاض عدد السكان في إيران سيؤثر على أعداد الشيعة في العالم الإسلامي.
فى هذا الصدد يقول الصحفي الإيراني مصطفى لـ "عربي بوست": "مؤخراً بدأت زيادة مواليد الأقليات الدينية الأخرى في إيران تثير قلق السلطات، مقابل انخفاض عدد المواليد الشيعة، وفي إحدى المحافظات المتعددة الأقليات وصل عدد المواليد السنة والشيعة 50 إلى 50%".
دور الأم والزوجة لم يعد مقدساً بين النساء
لم يتوقف المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي منذ سنوات عن دعوة الإيرانيين إلى الزواج والإنجاب بكثرة، ولكن ظل الشباب الإيراني متمسكاً بموقفه المعارض لرغبة القائد الأعلى.
ترى سيمين سعدى أستاذة علم النفس في إيران، أن الأجيال الجديدة سواء من النساء أو الرجال، يرفضون فكرة الزواج من الأساس لأسباب عديدة أهمها الأحوال الاقتصادية والاجتماعية التى تمر بها إيران.
تقول سعدي لـ "عربي بوست": "في السابق كانت النساء ترى الزواج والأمومة شيئاً مقدساً يجب تطبيقه، لكن الآن لدى النساء أولويات أخرى، وأصبحن مهتمات أكثر بالتعليم والعمل".
ترى سعدي أيضاً أن تطور الحريات في العالم وصلت أصداؤه إلى إيران بالرغم من كل القيود المفروضة على المجتمع.
"هناك نسبة كبيرة من الشباب تفضل عدم الزواج من الأساس، ولا يرون غضاضة من إقامة علاقة جنسية خارج إطار الزواج"، على حد تعبيرها.
كيف نتزوج؟
بالعودة إلى تصريحات المرشد الأخيرة عن أهمية إقبال الشباب على الزواج، يقول رضا الذي ما زال لم يتمكن من جمع الأموال الكافية لإقامة حفل زفافه: "الأسبوع الماضي سألت عن أسعار قاعات الزفاف، ووجدت أن أقل وأسوأ قاعة تكلف حوالي 3000 دولار أمريكي".
تلتقط سيمين خطيبة رضا طرف الحديث وتقول: "نحن بحاجة إلى قاعة متوسطة تكلفتها تصل إلى 8000 دولار، هذا السعر غير شامل التكاليف الأخرى من الأكل والشراب المفترض تقديمه في الحفل".
وبعملية حسابية سريعة أخبر رضا "عربي بوست" المبالغ التي يجب أن تتوافر معه لإتمام حفل زفافه الذي طال انتظاره فيقول: "نريد 7000 دولار للقاعة، و2500 دولار لفستان الزفاف، 1500 للبدلة، وهناك مصاريف للتصوير الفوتوغرافي يتراوح سعرها ما بين 800 إلى 1000 دولار".
أوضحت سيمين أن تلك التكاليف ما زالت أولية فقط، وهناك الكثير من المصاريف الأخرى، مثل المهر الذي ينبغي أن يكون عالياً وفق الأعراف والتقاليد الإيرانية.
ثم التفتت إلى رضا وسألته مبتسمة: "كم ولد تودنا أن ننجب؟"، فأجابها ضاحكاً: "على حسب نسبة التضخم! فلنتزوج أولاً ثم نفكر في موضوع الإنجاب!".