مَن لا يعرف ألبرت أينشتاين؟ فحتى إن فاتك الاطلاع على أبحاثه واكتشافاته في الفيزياء، فلا بد أنَّك ترى صوره في كل مكان تقريباً.. على الكتب وحوائط الشوارع والمنتجات التجارية، فجميعنا نعلم أنه العبقري الذي أحدث ثورة في عالم الفيزياء.
لكن هل سمع أحدكم باسم زوجته ميليفا ماريك؟
ميليفا لم تكن امرأةً عبقرية فحسب، إنما كانت المرأة الوحيدة التي ناضلت لتدرس الفيزياء في زمن كانت العلوم فيه حكراً على الذكور.
ولم تكن المرأة الوحيدة في صفِّها فقط، بل هناك العديد من الأدلة أنَّها شاركت أينشتاين في بحوثه، ويعود لها الفضل في اكتشاف النسبية تماماً كما يعود لزوجها.
إليكم قصتها وفقاً لما ورد في صحيفة The Independent البريطانية.
امرأة مميزة في الظلّ
كانت ميليفا زوجةً لأينشتاين في أكثر سنوات حياته إبداعاً وابتكاراً، وعلى الرغم من أنها شاركت بفاعلية في تاريخ الفيزياء الحديثة، إلا أنَّها ظلَّت مختبئةً في الظل.
استمرَّ الجدل الدائر حول دور ميليفا في أعمال أينشتاين لعقودٍ.
حيث يؤكد أحد الجانبين أنها عاونته في العمل، حتى إنها شاركت في كتابة أوراقه العلمية، في حين أنَّ الجانب الآخر يقول إنها كانت امرأة تتسم بالذكاء فعلاً، لكنها لم تُسهم في أي من أعمال أينشتاين.
رسائل حسمت الجدل
أدى تصاعد ذلك الجدل إلى إظهار بعض الرسائل القديمة، من قبل العائلة، التي تبادلها كلٌّ من ألبرت وميليفا فيما بينهما.
نُشرت هذه الرسائل فيما بعدُ في سلسلة كتب ألبرت أينشتاين/ميليفا ماريك: الخطابات الغرامية والأوراق المجمعة لألبرت أينشتاين.
وفي العديد من الخطابات يمكن ملاحظة مشاركة ميليفا لألبرت حماسته العلمية والرياضية.
وفي نقاطٍ بعينها، يمكن الإشارة إليها باعتبارها مُشارِكة فعالة في اكتشافاته.
غير أنَّ النقاد يدفعون بضعف هذه الخطابات كدليلٍ، ويرون أن تشاركهما العمل هو ضرب من ضروب المبالغة.
درست الفيزياء حين كان الأمر حكراً فقط على الذكور
سواءٌ شاركت ميليفا في صياغة ألبرت لنظرياته أم لم تشارك، فلا يمكن نكران أنها كانت استثنائيةً لعدة أسبابٍ.
حيث إن قصتها تُلقي الضوءَ على محنة النساء المفكرات في النصف الأول من القرن الـ20، فمع كونها واحدةً من أوائل الفيزيائيات النساء في العالم، لم تَلقَ التقدير الذي تستحقه لأنها امرأة.
وُلدت ميليفا عام 1875 في مدينة تيتيل، بمقاطعة فويفودينا، التي كانت جزءاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية، والتي أصبحت الآن صربيا، وخاضت طريقاً مليئاً بالصعوبات كفتاةٍ تُريد أن تدرس الفيزياء، في حين أن التعليم كان متاحاً للذكور فقط.
وبعد أن رأى والدها ميلوس قدراتها، أرسلها خارج حدود صربيا إلى مدرسةٍ ثانويةٍ في مدينة شاباتس، حيث كان للفتيات هناك نفس الحقوق التعليمية للفتيان.
حصلت بعدها على وظيفةٍ في مدينة زغرب (جزء من الإمبراطورية النمساوية المجرية كذلك)، حيث واجهت الكثير من الصعاب.
تقدَّم ميلوس بطلبٍ من أجل أن تُقبَل ميليفا في المدرسة الثانوية التقليدية الملكية للفتيان.
المرأة الوحيدة في صفِّها
قُبلت ميليفا في المدرسة الملكية للفتيان، لتصبح أول امرأةٍ في الإمبراطورية النمساوية المجرية تحضر محاضرة فيزياءٍ في مدرسةٍ ثانويةٍ جنباً إلى جنبٍ مع أقرانها الذكور.
في الوقت الذي لم يكن مجال الفيزياء فيه الكثير من أسماء العالمات النساء.
استحقَّت ميليفا الشهرة، ليس فقط لقدرتها على مجابهة العقبات واستكشافها لعالَم الفيزياء بشجاعةٍ، ولكن أيضاً لريادتها وفتحها الباب للنساء من بعدها.
في النهاية، وصلت للمعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ، حيث كانت المرأة الوحيدة في صفِّها.
كان حضور ميليفا الطاغي في الجامعة هو ما أبرزها كفتاةٍ استثنائيةٍ.
لقاؤها مع أينشتاين ومشاركتها في أبحاثه
قابلت ميليفا ألبرت أينشتاين في الجامعة، وجمعتهما قصة حب انتهت بالزواج عام 1903.
لا تُلقي الرسائل المنشورة الضوءَ على العلاقة الشخصية بين ميليفا وألبرت فحسب، بل على تطوّرهما الفكري أيضاً، وشغفهما المشترك بالفيزياء.
تُقدم الخطابات دليلاً ومرجعاً للأفكار التي تَشارَكاها ولأبحاثهما العلمية.
في أحد الخطابات كتب ألبرت لميليفا قائلاً: "كم سأكون سعيداً وفخوراً عندما نصل بعملنا معاً على الحركة النسبية إلى نصرٍ حاسمٍ"، وقال لها في خطابٍ آخر: "أتساءل إذا ما كانت دراساتنا المتحفظة للقوى الجزيئية ستصمد فيما يتعلق بالغازات أيضاً".
وفي العديد من المناسبات كان أينشتاين يكتب لميليفا عن: "دراساتنا الجديدة"، و "أبحاثنا"، و "رؤيتنا"، و "نظريتنا"، و "أوراقنا".
وكان أيضاً شديد الحاجة إليها في المساندة العاطفية.
في أحد خطاباته قال لها: "من دونك تنقصني الثقة في نفسي، والسعادة في العمل… من دونك حياتي ليست حياةً".
ويُقال إنه في مخاطبته لمجموعةٍ من المفكرين الكرواتيّين قال: "أنا أحتاج لزوجتي؛ فهي تحلّ لي كلَّ المعضلات الرياضية".
وفي الواقع فإن تدريب ميليفا في الرياضيات والفيزياء يسمح لها بالبحث وتطوير الأفكار مع أينشتاين.
شكوك حول مساهمات ميليفا
مع ذلك، ظلَّت شكوك النقاد قائمةً، رغم إشارته إليها بقوله "عملنا" و "بحثنا".
قال بعضهم إن استخدام الضمير كان فقط من باب العاطفة لا أكثر، وإن ميليفا لم تكتب أبداً لأينشتاين عن الفيزياء، ولكنها كتبت عوضاً عن ذلك عن بعض المواضيع العادية.
في خطابٍ مؤرَّخٍ بتاريخ نوفمبر/تشرين الثاني عام 1901، كتبت ميليفا إلى أينشتاين قائلةً: "يالها من كتبٍ رائعةٍ تلك التي أرسلتها إليَّ… ولقد قرأتُ أيضاً الكتابَ الذي كتبه فوريل، بعدما أنتهي من قراءته سوف أكتب لك عنه، هل قرأت الكتاب الذي كتبه بلانك؟ يبدو أنه كتابٌ شيقٌ".
غير أن رسائل لاحقةً بيَّنت أن أينشتاين فرَّق بين عمله الفردي والعمل المشترك بينه وبين ميليفا، فقال في خطابٍ: "الأستاذ المحلي ويبر كان لطيفاً معي، وأظهر اهتماماً بأبحاثي. لقد أعطيته ورقتنا، لَكَم أتمنَّى أن يُحالفنا الحظ في إكمال مسيرتنا الجميلة معاً".
من الواضح أن أينشتاين يتحدث هنا عن شيئين مختلفين، أبحاثه الخاصة، وعمله المشترك مع ميليفا.
الاستنتاج الأكثر واقعيةً هو أنه كان يعمل على أفكارٍ مختلفةٍ، ويُشير إليها في نفس الوقت.
أليس من الممكن أن يكون لأينشتاين أفكارٌ يعمل على تطويرها مع ميليفا، وأخرى يُطورها بنفسه؟ الكثير من خطابات ميليفا لأينشتاين مفقودةٌ، وما زال السبب غير معروفٍ.
بالرغم من الشكوك فإن ميليفا كانت أهلاً لمشاركة أينشتاين بحوثه
بعد وفاة ميليفا، استدعى المؤلف يوردي كريستيتش ابنهما هانز ألبرت، ليخبره عن رؤيته لهما "يعملان معاً على نفس الطاولة في الأمسيات".
وبصرف النظر عن السياق التاريخي، فإنَّ ميليفا كانت فيزيائيةً وموهبتها في هذا السياق تجعل من المعقول أن تعمل هي وأينشتاين معاً، وفي خطابٍ آخر قال أينشتاين: "فيما يخص الأبحاث المتعلقة بتأثير جول-طومسون، لقد خلُصت ثانيةً إلى طريقةٍ أخرى، تتشابه في عدة نواحٍ مع طريقتِك لتحديد ارتباط ثابت الاتزان (k) بدرجة الحرارة (T)، التي تقترح بلا شكٍ تحقيقاً كهذا" ليتنا نستطيع أن نبدأ غداً.
فمع ويبر يمكننا الحصول على ظروفٍ جيدةٍ للعمل في كل النواحي، لأنَّ معمله هو الأفضل وهو مجهزٌ بأفضل الأدوات".
فهل كان أينشتاين ليكتب لميليفا عن تأثير جول-طومسون، والطريقة، وأدوات المعمل لو لم تكن مؤهلةً لتلقّي وفهم مثل تلك المعلومات؟
هل حُذف اسم ميليفا من مخطوطات النسبية؟
وبأخذ أكثر النظريات إثارةً للجدل في الاعتبار كتبت ديسانكا تربوهوفيتش جيوريتش، كاتبة سيرة ميليفا، عن التصريح المثير للجدل الذي كتبه عالم الفيزياء السوفييتي أبراهام جوف.
حيث ادَّعى جوف أنه رأى أوراق النظرية النسبية المنشورة عام 1905، وقال إنها كانت موقعةً باسم أينشتاين-ماريتي.
وماريتي هو النطق الهنغاري لاسم ماريك، الذي هو لقب ميليفا.
وعلى الرغم من ذلك حُذف اسم ماريتي من المخطوطة النهائية المنشورة.
ويُقدِّم كلٌّ من جيوريتش وجوف ادعاءاتٍ استفزازيةً، ولكن هل هي ادعاءاتٌ لا يمكن تصديقها؟
فمن الضروري أن نُقدر كلاً من الخلفية والسياق، فيما يتعلق بسبب محو اسم ميليفا من المنشور النهائي.
العنصرية قد تكون السبب
واجهت العالمات الأوروبيات في القرن الـ20 العديد من المشاكل المتعلقة بالعنصرية، وكان من الطبيعي أن يُستبعدن، على الرغم من مشاركتهن، من الأوراق العلمية.
ولكن النقاد أرجعوا محو اسمها إلى التقاليد السويسرية، التي تُضيف اسم الزوجة قبل الزواج إلى اسم عائلة الزوج.
وهناك أمثلةٌ على هذا بين العالمات السويسريات في الماضي، لذا يُمكن أن يكون "أينشتاين- ماريتي" الشكل الرسمي لاسم أينشتاين، باعتباره شخصاً تزوَّج في سويسرا.
مع ذلك، فإن اسم أينشتاين هو ما ظهر على الأوراق العلمية، واستمرَّ الوضع كذلك في جميع أعماله اللاحقة.
أموال نوبل مقابل الطلاق
في 31 يناير/كانون الثاني عام 1918، كتب أينشتاين لميليفا يعرض عليها الأموال التي حصل عليها جراء فوزه بجائزة نوبل مقابل إتمام الطلاق.
وعلى الرغم من ذلك، فبعد حصوله على الأموال لم يُعطِها إلا النصف.
الأمر الذي أدَّى إلى إثارة الكثير من التساؤلات.
لماذا استخدم أينشتاين أموال جائزة نوبل، ولم يستخدم نفقةً زوجيةً عاديةً أو نفقة إعالة الأطفال؟ هل دفع نصف المال مقابل نصف العمل؟
بعد طلاقهما حافظ الاثنان على علاقةٍ مستقرةٍ، ففي نهاية المطاف فقد جمعتهما الاهتمامات وولدان.
ابنهما الأصغر إدوارد شُخصت حالته بالفصام، وقضت ميليفا بقية حياتها تُعنى به، إلى أن ماتت في الرابع من أغسطس/آب عام 1948، عن عمر يناهز 72 عاماً.
حتى قبرها كان مجهولاً
في صيف عام 2004، عُثر أخيراً على موقع قبر ميليفا الذي كان مجهولاً في مقبرة نورثيم في زيوريخ برقم 9357.
القليل من الخطابات وشهادات الشهود لا يمكنها أن تُقدم إجاباتٍ عن الأسئلة التي يطرحها كُتاب السيرة الذاتية والمؤرخون منذ عقودٍ، والتي تدور حول الإسهامات الفكرية لميليفا ماريك.
ومع ذلك، فإن مراسلاتهما تُقدم فهماً جديداً للمصادر الفكرية والشعورية التي جعلت إسهامات ألبرت أينشتاين الرائدة ممكنةً.
ولا تزال عبارة "وراء كل رجل عظيمٍ امرأةٌ" عبارةً خالدةً.
لكن العقبات المؤسسية والتسجيل غير المكتمل أخفيا إنجازات ميليفا ودورها التاريخي.
ربما لن نحصل أبداً على فهمٍ شاملٍ لشخصية ميليفا وإنجازها العلمي.
لكن، وعلى الرغم من كونها محجوبةً عن الجماهير، فإنها لافتةٌ للنظر على نحوٍ مدهشٍ.
لذا، فبهدف إبراز أهميتها المخفية يجب علينا أن نبحث، ونتقصَّى، ونُقيِّم إسهاماتها في الفيزياء.
لهذا السبب، فإن الدليل على أنها شاركت ودعمت أينشتاين في تطوره العلمي يستحق أن يُولى اهتماماً حقيقياً.