كان صوت الطائرات المألوف يُدوِّي في جميع أنحاء البلدات والقرى في شمال غربي سوريا، الأسبوع الجاري، في ظل تشديد القوات الموالية للرئيس السوري بشار الأسد هجومها الدموي على مدينة إدلب، التي تُعَد آخر معقل رئيسي لقوات المُعارضة في البلاد.
جانب من الحرب: رجال الخوذ البيضاء بين إنقاذ أسرهم والمدنيين!
في هذا الوقت، كان عاصم اليحيى، وهو متطوع في منظمة الخوذ البيضاء للدفاع المدني، مستعداً لأداء مهمته حين بدأ قصف بلدة محمبل، مسقط رأسه، يوم الأحد 5 مايو/أيار.
وقال يحيى لصحيفة The Guardian البريطانية: "سألنا شخصاً عن المكان الذي ضربته الغارة، فقال: "منزل أبو عاصم". فبدأت أصيح لزميلي: "قُدْ أسرع، أطفالي تحت الأنقاض!".
ولم يكن يحيى، الذي اعتاد سحب أطفال آباء آخرين من تحت الأنقاض يتخيل قط أنَّه سيضطر يوماً ما إلى إنقاذ أطفاله.
وعند وصوله إلى مكان الحادث بحث باستماتة عن أولاده الثلاثة وزوجته، الحامل في شهرها الخامس.
وقال: "عندما بدأنا الحفر قُلت لنفسي: "كيف سأواصل حياتي من دونهم؟" كنت أبحث عن لقاءٍ ربما يكون وداعنا الأخير".
لكنَّه لم يكن وداعاً، إذ سمع اليحيى وزملاؤه صرخاتٍ مذعورة صادرة من أطفاله العالقين، وفي غضون ساعتين تمكنوا من إخراجهم من بين أنقاض منزلهم.
وذكر اليحيى، متحدثاً من المستشفى في بلدة دركوش، حيث يُعالَج أفراد أسرته من جروحهم، أنَّه يخشى أن يكون الأسوأ لم يأت بعد.
وقال: "نحن في أمانٍ حالياً، لكننا لا نعرف ما إذا كان القصف سيزداد سوءاً".
الهجوم على إدلب هو الأشد منذ أشهر
جديرٌ بالذكر أنَّ أحدث حلقةٍ من سلسلة القصف العنيف لمدينتي إدلب وحماة أسفرت عن وقوع عشرات القتلى، وأجبرت عشرات الآلاف على الفرار من منازلهم.
وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يقع مقره في المملكة المتحدة، أنَّ الطائرات الروسية والتابعة للنظام السوري قتلت أكثر من 100 مدني في المنطقة منذ 20 أبريل/نيسان 2019.
ويعد الهجوم السوري الروسي المشترك على إدلب هو أشد اندلاع للعنف منذ سبتمبر/أيلول 2018، حين أقامت تركيا -التي تدعم المعارضة- وروسيا، منطقةً عازلة تهدف إلى تجنُّب هجومٍ هائل من جانب النظام السوري على المدينة، وبموجب ذلك الاتفاق تُراقب القوات التركية والروسية منطقةً منزوعة السلاح، تشمل أجزاء من اللاذقية وحلب وحماة.
من جانبها ذكرت الوكالة العربية السورية للأنباء يوم الإثنين 6 مايو/أيار، أنَّ الجيش السوري "وسَّع انتقامه" رداً على هجمات المعارضة. وأثارت زيادة الغارات الجوية مخاوف من وقوع مجزرةٍ كاملة في المنطقة الواقعة تحت سيطرة المعارضة.
الأطباء يخشون مواصلة عملهم مع استمرار القصف
قال الطبيب محمد أبراش، وهو جُرَّاحٌ في إدلب: "إذا استمرَّ القصف، أخشى ألا نتمكن من مواصلة عملنا".
إذ دمرت الغارات الجوية بالفعل 12 مستشفى وعيادة في المنطقة، وفقاً لبعض جماعات الرصد.
وفي بلدة حاس، أخلى موظفو أحد المستشفيات مشفاهم الواقع تحت الأرض، الذي كان يخدم منطقةً تضم 200 ألف شخص، قبل تعرُّضه للقصف يوم الأحد الماضي.
وقال أبراش إنَّ المستشفى الذي يعمل به، والذي يعاني نقص الموارد، واكتظاظاً بالمرضى فوق طاقته، علَّق الإجراءات الروتينية، وجعل الأولوية بدلاً من ذلك لعشرات المصابين الذين يستقبلهم يومياً. وذكر أنَّ أشد الحالات الحرجة تُرسَل إلى دولة تركيا المجاورة.
والصحفيون، عملهم أصعب تحت البراميل المتفجرة!
في يوم الخميس الماضي 2 مايو/أيار 2019، أفلت محمد سلهب، وهو صحفي محلي، بأعجوبة من التعرُّض للإصابة في بلدة إحسم.
إذ كان في المنزل مع والديه وزوجته وابنه الرضيع، حين سمع تقارير تفيد بأنَّ طائرات النظام تستهدف المنطقة بالبراميل المتفجرة، التي تتكون من حاوياتٍ مليئة بالمتفجرات والشظايا المعدنية، وتقتل عشوائياً.
وحالما سمع سلهب صوت أذرع المروحية، كان يعلم أن أصوات البراميل المتفجرة ستتبعها.
وقال سلهب: "اعتقدتُ لوهلةٍ أنني أُصِبت بالصمم، لكنني أدركت بعد ذلك أنني استطعت سماع صوت والدتي وهي تصرخ".
وذكر سلهب أنَّ البرميل الأول هبط على بُعد حوالي 200 متر من منزله، بينما كان الثاني قريباً جداً لدرجة أنَّه شعر بطعم الغبار في فمه.
وأضاف: قُلت لنفسي: "يا إلهي، كيف نجوت من هذا؟".
إدلب: ملجأ السوريين الفارِّين من هجمات النظام
جديرٌ بالذكر أنَّ إدلب أصبحت في السنوات الأخيرة ملجأً أخيراً للسوريين الفارِّين من هجمات النظام في أماكن أخرى من البلاد.
إذ تبلغ نسبة النازحين داخلياً في المدينة حوالي نصف إجمالي السكان الذين يعيشون هناك، والبالغ عددهم 3 ملايين شخص تقريباً.
وتُعَد المدينة المكتظة آخر معاقل قوات المُعارضة المتبقية، وتسيطر عليها حالياً جماعة هيئة تحرير الشام السلفية الجهادية المتشددة، التي سيطرت عليها في يناير/كانون الثاني الماضي.
ووفقاً لبعض الناشطين الذين تواصلت معهم صحيفة The Guardian البريطانية، يشعر العديد من المدنيين بالإحباط المتزايد بسبب تصرفات "حكومة الإنقاذ"، وهو الاسم الذي تُطلقه الذراع الإدارية لهيئة تحرير الشام على نفسها.
وأثارت صورةٌ نُشِرَت على مواقع التواصل الاجتماعي، تُظهِر بعض مسؤولي هيئة تحرير الشام وهم يستمتعون بوجبة فاخرة وسط إراقة الدماء، سخطاً شديداً.
وذكر أحد سكان إدلب، طالباً عدم الكشف عن هويته، أنَّ هيئة تحرير الشام لم تفتح مبانيها الحكومية الفسيحة للعائلات النازحة التي تحتاج إلى مأوى.
وفي الأسبوع الماضي وحده، فرَّ أكثر من 150 ألف شخصٍ من القتال الدائر، وفقاً لاتحاد منظمات الرعاية والإغاثة الطبية، الذي يدعم المستشفيات في المنطقة.
من بينهم عمار حمود، الذي كان في المنزل مع عائلته في منطقة جبل الزاوية بإدلب عندما بدأ القصف.
وقال حمود يوم الجمعة الماضي 3 مايو/أيار، متحدثاً إلى الصحيفة البريطانية عبر الهاتف من بلدة أريحا القريبة، حيث تعيش عائلته الآن: "الطائرات الحربية تُحلِّق في السماء وأنا أتحدث إليكم الآن، أنا منهكٌ جداً، لا أعرف ماذا أقول".
وذكر أنَّ جميع الأشخاص الذين يعيشون في قريته والبالغ عددهم 4 آلاف شخص، باستثناء قلة قليلة منهم، فرُّوا حين بدأت الغارات الجوية الأسبوع الماضي.
وأضاف: "قريتي خاوية تماماً، هذه إبادة جماعية".