عانى السودان في تاريخه الحديث من ثلاثية الانقلابات والثورات والحروب الأهلية، ولكن رغم كل ذلك كانت التقاليد السياسية السودانية تتسم بسمات غريبة، وشهدت البلاد وقائع إنسانية لافتة في خضم هذه الاضطرابات وقسوة الحروب.
فمنذ استقلال السودان عانت البلاد من دوامة رباعية، ديمقراطية مضطربة يعقبها حكم عسكري (يأتي بانقلاب ويستمر لفترة طويلة عادة) ثم حرب أهلية، ثم ثورة شعبية، يعقبها حكم ديمقراطي مضطرب مرة أخرى.
ويعد المجتمع السوداني من أكثر المجتمعات العربية تسيّساً، ويوجد به أحزاب متعددة ذات تاريخ عريق، بعضها يعد امتداداً لحركات التصوف التقليدية في البلاد مثل حزب الأمة الذي يعد بمثابة الذراع السياسية لحركة الأنصار، والحزب الاتحاد المحسوب على الختمية.
ولكن في خضم كل هذه المشكلات كانت هناك أعراف سياسية واجتماعية تصمد رغم السنين، وساهمت في التقليل من قسوة هذه الأحداث.
الأجاويد.. أشهر التقاليد السياسية السودانية الموروثة
ومن أبرز هذه الأنماط ما يعرف باسم الأجاويد، وهي مبادرات أهل الخير لتجاوز الخلافات، والجودية في العامية السودانية هي عملية الصلح بين المتخاصمين، والصلح قد يكون بين الزوج وزوجته، أو بين الابن ووالده، أو بين قبيلة وأخرى، ويفترض أن الأجاويد يقومون بهذه الفضيلة لوجه الله تعالى، ولا ينتظرون من أحد حمداً ولا شكراً.
ولعب هذا التقليد دوراً مهماً في ظل المجتمع السوداني القبلي الذي تكثر فيه الخلافات وأحياناً الحروب العشائرية.
ووفقاً لهذه التقاليد الموروثة فإنه تجرى محاولات أولية لحل الخلافات بين الأفراد والجماعات، فإن لم يتحقق الحل في جلسة واحدة فلا بأس من المحاولة في جلسة ثانية وثالثة وتعليق النزاع أسابيع وشهوراً حتى تهدأ النفوس تدريجياً وتتهيأ الأجواء الملائمة للوسطاء الساعين بالخير بين الطرفين لممارسة تقاليد الأجاويد التي يضطلع بها -في العادة- علية القوم من كبار السن المشهود لهم بالحكمة والصلاح والنفوذ.
ويعتقد أن الأزمة في دارفور لها علاقة بخلخلة التقاليد العريقة التي كانت تنظم العلاقة بين مكونات الإقليم من قبائل عربية وإفريقية.
ولكن حتى أثناء الأزمة في دارفور كان الأجاويد تلعب دوراً في حلّ كثير من النزاعات القبلية.
فقد حافظت على وحدة السودان
ويرى الصحفي المصري يوسف الشريف في كتابه "السودان وأهل السودان.. خفايا السياسة وأسرار المجتمع"، الذي نشرته دار الشروق المصرية، أن تقاليد الأجاويد كان لها من القوة والنفاذ ما يفوق هيبة الدولة وسطوة القانون، وهي التي حافظت على كيان السودان ووحدته الوطنية وتماسك نسيجه الاجتماعي قبل أن يتشكّل نظامه السياسي وسلطته المركزية، خصوصاً في بلد شاسع المساحة والأطراف، يعج بالتعددية القبلية والعرقية والقومية والدينية والثقافية والملل والنِّحَل واللغات والرطانات والمصالح والرؤى المتباينة.
ويضيف: "نادراً ما يصل الخلاف بين أهل السودان إلى حد الشقاق والقطيعة والاحتكام إلى القضاء أو إلى السلاح، اللهم حين يستبعدون تقاليد الأجاويد المتاحة من التحكيم في خلافاتهم ومنازعاتهم، وذلك ما حدث ويحدث منذ عشرات السنين عبر المعارك الضروس التي تندلع من حين لآخر بين قبيلة "المسيرية العربية"، وقبيلة "الدينكا" الزنجية في جنوب السودان وبين الأنظمة العسكرية الديكتاتورية التي توالت على حكم السودان.
الانقلابات تجاوزت الأجاويد، فأفسدت حال البلاد
ويرى يوسف الشريف أن الأنظمة الانقلابية التي أجهضت ثلاث تجارب ديمقراطية في السودان تجاوزت تقاليد الأجاويد في التراضي والوفاق، وروّجت لحل مشكلة الجنوب بقوة السلاح.
وقال: "لو أن العسكر لم يركبوا رؤوسهم ورفضوا الاحتكام إلى تقاليد الأجاويد لتغير مصير السودان من وجهة نظره".
ويضيف: "هذا ما حدث عندما انحاز الرئيس الراحل جفعر النميري إلى تقاليد الأجاويد، فكان نجاحه وأعظم إنجازاته بتوقيعه على اتفاقية أديس أبابا مع المتمردين الجنوبيين عام ۱۹۷۲.. وبعدها نعم الجنوب بالسلام والاستقرار على مدى 11 عاماً متصلة، وعاد التمرد بسبب تخليه عن هذه الاتفاقية".
وكان تأخر البشير في اللجوء سبباً في تفاقم مشكلة الجنوب وانتهى الأمر بانفصاله.
ويعتقد الشريف أن تقاليد الأجاويد التوفيقية كانت وراء نجاح السودان في حل كثير من النزاعات العربية والإفريقية، ولا أدلّ على ذلك من عقد مؤتمر القمة العربية بالخرطوم في أعقاب نكسة يونيو/حزيران 1967، ومبادرة رئيس حكومة السوان محمد أحمد محجوب إلى إنجاز المصالحة التاريخية بين الرئيس جمال عبدالناصر والملك فيصل.
جلسات الونسة.. برلمان شعبي يصعب قمعه
ومن الأنشطة المهمة في المجتمع السوداني جلسات الونسة التي يجتمع فيها الناس للنقاش وتبادل السمر.
وعادة يتم فيها النقاش بحرية في ظل الديمقراطية، وسرية في ظل الأنظمة العسكرية، حتى اعتبره البعض برلماناً شعبياً لا يمكن قمعه.
وكانت النكات والأخبار التي يتم تبادلها في الونسة لها تأثيرها السياسي الكبير، لدرجة أنها لعبت دوراً في سقوط بعض الأنظمة، خاصة قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي.
غرائب الخصومة في السودان
رغم الخلافات والمشكلات التي تعاني منها البلاد المنقسة قبلياً وإثنياً وسياسياً، فإنها شهدت نماذج غريبة من التسامح بين الخصوم يذكرها الصحفي المصري يوسف الشريف في كتابه "السودان وأهل السودان.. خفايا السياسة وأسرار المجتمع" لدار الشروق.
إذ يقول الشريف: "دهشتُ من طباع أهل السودان ففي خلال التجربة الديمقراطية الثانية، كان النقاشات بين نواب المعارضة والحكومة تتسم بالمعارك الكلامية الحادة كأنهم ألد الأعداء، ولكن يلتقون في الاستراحات بين الجلسات وكأن شيئاً لم يكن".
ويضيف: "في المساء يتجمعون للسهر والونسة في مودة ومحبة واحترام متبادل، وأدركت أن مثل الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ينطبق على السودانيين أكثر من أي شعب آخر".
وقال: "تعلمت من الشعب السوداني استبقاء شعرة معاوية مع الطرف الآخر مهما زاد الاختلاف".
النميري يلجأ للطب الشعبي لإنقاذه من موقف محرج مع عبدالناصر
كان الرئيس السوداني السابق جعفر نميري عسكرياً مشهوراً بالشجاعة ومحباً لاستعراض فتوته ومهارته في كرة القدم.
ويبدو أنه قد أجهد نفسه على ما يبدو وحمّلها فوق طاقتها وهو يستعرض مهاراته كرئيس جمهورية في مباراة كرة القدم التي قاد فيها أصدقاءه وزملاء الدراسة، حسب وصف يوسف الشريف.
لذلك خرج من إحدى المباريات متكئاً على حارسه الخاص حتى وصل إلى سيارته، وهناك في منزله اكتشف أن ساقه اليمنى تؤلمه ولم تعد تقوى على حمله، وكان لديه موعد مع الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر.
طلب النميري استدعاء الدكتور عبدالسلام صالح عيسى، مدير المستشفى العسكري على عجل، وهو أخصائي عظام مشهود له بالكفاءة والخبرة المباشرة علاجه وهو يمت إليه بصلة قرابة.
وحين وصل إلى منزل الرئيس قرر الطبيب ضرورة نقله إلى المستشفى لإجراء الأشعة اللازمة حتى يتبين مكان الإصابة وبعدها يحدد طريقة العلاج، لكن الأشعة لم تكشف عن كسر أو شرخ في عظام الساق، ومن ثم بدأ علاج نميري بالجلسات الكهربائية والتدليك، لكن دون جدوى، كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل وكلما حاول نميري الوقوف على ساقه اليمني خذلته ولم تسعفه على الحركة.
بينما لم يتبق من الزمن على وصول الرئيس جمال عبدالناصر إلى مطار الخرطوم سوى سبع ساعات، فهل يلتقيه وهو متوكئ على حارسه أو على عصاه؟ وكيف يصافحه ويحتضنه كالعادة وهو في هذه الحالة؟ وكيف يمشي إلى جانبه وهو يستعرض حرس الشرف؟ وهل من اللائق أن يطلب تأجيل الزيارة؟
هنا خطرت إلى ذهن نميري فكرة سرعان ما قرر أن يستجيب لها وفضل ألا يطرحها للمناقشة مع الدكتور عبدالسلام صالح، وهمس في أذن أحد معاونيه: استدعى "بت بتي" من أم درمان فوراً.
بعد أقل من ساعة كانت بت بتي في منزل نميري، وهي امرأة ضئيلة الجسم، موغلة في انتمائها للطبقة الشعبية وتراثها الموروث.
فهي قد ورثت شهرتها عن والدها ووالدتها في علاج جبر العظام وحالات التمزقات العضلية والتهابات المفاصل والروماتيزم وغير ذلك عبر العلاج البلدي والتداوي بالأعشاب والتدليك الذي تمارسه بأصابعها السحرية المدربة قالت له خير يا سيادة الرئيس.. حسدوك وحسادك عيونهم حمر.. ثم تحسست بت بني الألم في ساق نميرى حتى تأكدت من موقعه ومساحته وكنهه ثم عادت تقول: "ما في عوجه إن شاء الله".
ثم طلبت منه أن يستلقي على سريره واستسلم لها صاغراً.. وفجأة أمسكت ساقه وجذبته من قدمه بشدة حتى صرخ نميري من شدة الألم وقالت: كوراكك، أي صراخك، خد الألم وفات.. ثم طلبت من نميرى أن ينهض من فراشه ويقف على قدميه، وتمشي في غرفته جيئةً وذهاباً حتى أدرك مندهشاً أنه عوفي من الإصابة ولم يعد يشعر بالألم، بينما الدكتور صالح عيسى لا يصدق ما حدث! حسبما ورد في القصة التي أوردها يوسف الشريف في كتابه السودان وأهل السودان.
مباراة لكرة القدم بين ألدّ الأعداء
واحدة من أغرب المواقف التي تظهر تقاليد الخصومة في السودان، ما حدث في مدرسة حنتوب عام 1973.
فقد احتفل خريجو "حنتوب" بالعيد الفضي للمدرسة، ولبى الدعوة من بريطانيا مديرها الأول وواضع نظامها، الإنجليزي مستر براون، وامتلأت ردهات المدرسة بطلابها القدامى يتقدمهم الرئيس نميري في عهد زعامته.
وجاء زميل دفعته القديم وغريمه المطارد والمطلوب لدى الأمن محمد إبراهيم نقد من مخبئه مشاركاً في الاحتفال، بعد أن أعطي الرئيس النميري الأمان وأدار المباراة الرئيسة مساعداً أول لحكم المباراة التي شارك فيها نميري لاعباً.
وبعد انتهاء المباراة طلب من نقد العودة إلى مخبئه، ليعود طريداً مرة أخرى وكان يمكن للنميري إلقاء القبض عليه، ولكن لم يفعل.
وبعد الثورة على النميري في منتصف الثمانينيات وانتقاله للعيش في القاهرة بعد خلعه من الحكم، كان أحياناً يزور مقر إقامته في المنفى شخصيات سودانية كانت تناصبه العداء وهو في الحكم.