اعتبر الأكاديمي الفرنسي ألان غابون أن الربيع العربي الذي انطلق قبل 8 سنوات في المنطقة العربي لم ينته رغم كل الاخفاقات التي تعرض لها من قبل الأنظمة السابقة، بسبب 4 أسباب منها أن هذه الانتفاضات كسرت هيمنة الحكام على البلاد إلى الأبد.
وقال الكاتب الفرنسي في مقال في موقع The Middle East Eye البريطاني الإثنين 17 ديسمبر/كانون الأول 2018، إن ثورات الربيع العربي التي أسقطت 5 أنظمة ديكتاتورية لهي قادرة على العودة مرة أخرى رغم هذه المآسي التي تعرضت لها.
وتابع يُعد المشهد السياسي الحالي في منطقة الشرق الأوسط مخيباً للآمال حقاً عندما يتذكَّر المرء شعور الأمل المُبهِج في تحقيق الديمقراطية والتحوُّل إلى نظام حكم أفضل منبثق عن انتفاضات عام 2011، التي اندلعت في تلك المنطقة، ويبدو المعجم الجديد لمرحلة "ما بعد الربيع العربي" أو حتى "الشتاء العربي" مُبرَّرَاً تماماً.
مشهد كارثي
وبحسب المقال تبدو المنطقة حالياً أبعد من أي وقت مضى عن رؤية الوصول إلى مجتمعات ديمقراطية سلمية عادلة مزدهرة شاملة كانت حلم الملايين الذين نزلوا إلى الشوارع والميادين العامة بأمل وبهجة كبيرين للغاية في جميع أنحاء المنطقة، من المغرب إلى البحرين، ومن مصر إلى اليمن.
ويَصعُب حتى تخيُّل أنَّ ذلك حدث قبل ثماني سنوات فقط، بل يبدو الأمر وكأنَّه لحظة أخَّاذة مذهلة تنتمي إلى حقبة تاريخية مُنصَرِمة.
وتابع في واقع الأمر، يبدو الوضع الآن أسوأ وأكثر كارثية مما كان عليه قبل أن يضرم الشاب التونسي بائع الخضار المتجول، محمد البوعزيزي، النار في نفسه يوم 17 ديسمبر/كانون الأول من عام 2010، إذ كانت تلك الحادثة هي الشرارة التي أشعلت هذه السلسلة التاريخية من الانتفاضات المترابطة الرمزية والثورات السلمية.
إذ أصبحت مصر، التي باتت ساحة ميدان التحرير فيها هي الشعار الأشهر والأكثر تداولاً للربيع العربي في أنحاء العالم، خاضعة الآن لحاكم مستبد فاشي بالغ العنف أسوأ بكثير من سلفه، محمد حسني مبارك. وما زالت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين تحت حكم سلالات ملكية مطلقة أو شبه مطلقة.
وبحسب المقال في حالة المملكة العربية السعودية، أقوى دولة في المنطقة وأبرز دولة لديها نفوذ وعلاقات ممتدة، يُشكَّل أسلوب الحكم الجديد القائم على رجل واحد مُتمثِّل في ولي العهد المتهور، محمد بن سلمان، الذي يُعد رجلاً قاتلاً وارتكب جرائم حرب في اليمن، انتكاسةً مُروِّعة في طبيعة ممارسة السلطة السعودية وأسلوبها، حتى في ظل المعايير المنخفضة للديمقراطية في المملكة السعودية.
بينما تعرَّض اليمن -الذي هَلَك جزءٌ كبير من سكانه على مرِّ أربع سنوات من جرَّاء مزيجٍ فظيع من حروب أجنبية بالوكالة، وحربٍ أهلية، وأمراض ومجاعة ناجمة عن أفعال بشرية– للتفكك والانهيار، والأمر نفسه ينطبق على سوريا وليبيا. وتمزَّقت بعض الدول تمزُّقاً عميقاً لدرجة أنَّها قد لا تستطيع التعافي قبل فترة تمتد على مدى العقد المقبل أو أكثر.
ولم يتعاف العراق حتى الآن من تداعيات ثماني سنوات من الاحتلال الأميركي وموجات العنف التي أثارها الغزو الأميركي في عام 2003. فالبلاد تعود بالكاد إلى أبسط مظاهر الحياة بعد ثلاث سنوات من وحشية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
فلسطين: طريق مسدود
وصل الوضع الإسرائيلي الفلسطيني إلى طريقٍ مسدود، ويرجع ذلك أساساً إلى تصميم إسرائيل (وحلفائها) على عرقلة قيام دولة فلسطينية، واستعمارها الوحشي المستمر بقوة السلاح، وعنصريتها الاستبدادية الحالية النابعة من إيمانها بتفوق العنصر اليهودي، وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي تعد أكثر الإدارات الأميركية تأييداً من دون قيد أو شرط لإسرائيل منذ إنشاء دولة إسرائيل.
ويبدو أنَّ الجميع تخلَّى عن الشعب الفلسطيني تماماً، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي ومعظم الدول العربية، لاسيما الآن بعد انحياز المملكة السعودية بقيادة محمد بن سلمان إلى جانب إسرائيل.
وحتى تونس، قصة النجاح الوحيدة في الربيع العربي والاستثناء الذي يؤكِّد القاعدة، تعاني وضعاً هشاً متقلباً منذ سنوات، ومع أنَّ حكوماتها المختلفة المُتزعزعة في فترة ما بعد الثورة كانت ملتزمة حقاً بالديمقراطية، عجزت تماماً عن حل المشكلات الاقتصادية المأساوية، التي تجتاح هذه الأمة وتهددها أيضاً بتعريض مستقبلها الديمقراطي للخطر.
وفي هذه الأثناء، تكافح دول ذات وضعٍ أفضل نسبياً مثل لبنان، والأردن، والكويت من أجل النأي بنفسها عن المتاعب، وتبقى بعيدة عن الأضواء، وتتجنب الانغماس في دوامة التَّفكُّك والانهيار والعنف المُروِّع في كثيرٍ من الأحيان -سواءٌ على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي- الذي أعقب الفشل الواضح لتلك المحاولات الثورية، كما قال الكاتب.
يبدو الوضع في أغلب الأحيان مأساوياً ومُروِّعاً حقاً في كل مكان تنظر إليه، مع وجود اليمن وسوريا ومصر في أبشع وضعٍ ممكن.
لماذا فشل الربيع العربي؟
ليس من الصعب فهم كيف انتقلنا من مثل هذه الأحلام النبيلة المُتوهجة من أجل نظام حكم عربي أفضل إلى كوابيس العنف بجميع أشكاله، التي يمكن أن نشهدها الآن في جميع أنحاء المنطقة.
لا شكَّ أنَّ العامل الرئيسي في هذه النتيجة التاريخية المحزنة كان حملات القمع الهائلة العنيفة، التي سرعان ما أُطلقت ضد الانتفاضات من جانب رؤساء دول مثل الرئيس السوري بشار الأسد وقوى الدولة العميقة مثل المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر.
فبعد إسقاط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، أدركت بقية الانظمة العربية أنَّ الانتفاضة ضدهم كانت حقيقية، وأنَّها قد تشير حقاً إلى نهاية حكمهم وامتيازاتهم (مثل قبضة مؤسسات مثل المجلس الأعلى للقوات المسلحة على الاقتصاد الوطني للبلاد)، لذلك تحوَّلت جميع الزمرات الحاكمة والطغاة على الفور إلى وضع مناهض للثورة تماماً.
لقد فهموا بوضوح أنَّ هذه معركة تاريخية بالنسبة لهم من أجل البقاء، لذلك جمعوا على الفور -لتحقيق هذه الغاية- الموارد الهائلة -العسكرية والاقتصادية والسياسية والدعائية- لتكون تحت تصرفهم قبل فوات الأوان، بينما كانوا يدعمون بعضهم البعض في إجراءات القمع الدموي لتلك الاحتجاجات، كما فعلت المملكة العربية السعودية مع احتجاجات البحرين.
نجحت الوسائل اللوجيستية المهمة التي تمكّنوا من حشدها، ومن ضمنها قواتهم الأمنية الضخمة، وخبراتهم الطويلة ومهاراتهم في القمع، وتصميمهم الحاسم على وأد تلك الثورات في مهدها، وذكاؤهم الاستراتيجي، ومناوراتهم الممتازة المُحنَّكة -مع الأسف- في التفوق تماماً على المتظاهرين وقمعهم بصورة دموية، إذا لزم الأمر.
ووحَّد أولئك، الذين ما زالوا يُمثّلون أجهزة الدولة القوية وقواتها، جهودهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حكمهم.
ثورة ضد ثورة مضادة
وجرى التفوَّق على الأطراف الثورية والمُحتجّين بكل بساطة في مواجهة مثل هذه الجهات القوية المناهضة للثورة، التي تتسم بالتركيز والقسوة والذكاء ووفرة الموارد، بغض النظر عن ملايين المُحتجّين الذين خرجوا إلى الشوارع.
لم يكن لدى أولئك الثوريين والمُحتجّين قادة، ولا موارد حقيقية سوى أجسادهم وروحهم وشجاعتهم (المثيرة للإعجاب لكنَّها ضعيفة أمام طلقات الرصاص)، ولا عُمق براغماتي حقيقي أو مهارات استراتيجية. إذ كانوا بعيدين للغاية عن نموذج قادة الثورة الفرنسية أو السوفيتية ،على سبيل المثال، وكثيراً ما ارتكبوا أخطاء مأساوية.
على سبيل المثال، عندما تهورت حركة "تَمرُّد" المصرية -التي كانت مشوَّشة تماماً ومنتشية حتى الثمالة من جرَّاء النجاحات الأولية المُبهجة المذهلة للربيع العربي- ودعمت الانقلاب العسكري الذي نفَّذه الرئيس عبد الفتاح السيسي في شهر يوليو/تموز من عام 2013 ضد الرئيس المنتخب ديمقراطياً محمد مرسي، اعتقدوا حينها –ويجب أن يُقال بغباء- أنَّهم يستطيعون السيطرة على قوة أضخم كثيراً مثل المجلس الاعلى للقوات المسلحة أو كبح جماحها.
وجد أعضاء حركة "تمرد" أنفسهم، نتيجة لهذه السذاجة، قابعين في زنزانات السجون مع أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، التي كانوا يكنِّون لها الكراهية في السابق، وذلك عندما انقلب السيسي -بعد القضاء على مرسي والإخوان المسلمين- ضدهم أيضاً. كان كل هذا متوقعاً جداً دون الحاجة إلى التأمل في أحداث الماضي، بحسب المقال.
السبب الثاني لانهيار الربيع العربي سريعاً وانتهائه إما بالعنف أو حتى بأنظمة استبدادية أشد وحشيةً هو أنَّ المُحتجَّين بالغوا في تقدير أنفسهم ونقاط قوتهم وقدراتهم بشدة بينما قللوا في أغلب الأحيان من شأن استمرار دعم قطاعات كبيرة من السكان للمستبدين والأنظمة، التي كانوا يسعون إلى إطاحتها، كما في حالة بشار الأسد في سوريا.
ووفقاً لكلمات الكاتب البريطاني، آدم روبرتس في مقاله بصحيفة The Guardian البريطانية: "التخلَّص من حاكم مستبدٍ وفاسد لا يكفي. فبناء مؤسسات ديمقراطية، واستعادة الثقة في دولةٍ معيبة، تُعد مهام أصعب كثيراً. وكان الفشل في فهم ذلك هو الذي قاد الولايات المتحدة وبريطانيا إلى مغامرتهما الكارثية في العراق عام 2003".
وأضاف: "ومع ذلك، ليس فقط المحافظون الجدد وأصدقاؤهم هم الذين يحتاجون إلى تعلَّم هذا الدرس، بل كذلك أنصار المقاومة السلمية المدنية وممارسوها، الذين يُركّزون غالباً على مهمة التخلص من المستبدين بتفكير وتخطيط ضعيف بشأن ما سيحدث بعد ذلك".
وعلى الجانب الآخر، اعتمد حُكَّام آخرون أقل مجاهرةً بإجراءات العنف مثل الملك المغربي محمد السادس وعائلة آل سعود، مزيجاً ذكياً من القسوة والمهادنة عن طريق منح مزايا اقتصادية، وإصلاح معتدل نسبياً غير مضر بحكمهم، واستخدام الدين كأداة، واستقطاب نخبها الدينية، والتهديد باستخدام القوة و/أو القمع الفعلي في استراتيجية مناهضة للثورة متعددة الأسلحة مُصمَّمة جيداً نجحت في إجهاض احتجاجاتهم المحلية أو إضعافها أو تشويهها أو إخمادها أو قمعها.
وأدَّت عوامل أخرى، على الرغم من كونها ثانوية وغير حاسمة، دوراً كذلك، مثل الافتقار الكامل إلى الدعم من "الغرب الديمقراطي الحر"، الذي أدلى قادته، من ضمنهم الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، في أفضل الأحوال بتصريحات معتدلة ومنافقة لمصلحة الربيع العربي، قبل استئناف دعمهم الكامل لتلك الدول القمعية، ورجالهم الأقوياء المستبدين سواءٌ الجدد أو القدامى، والطغاة المستبدين بأسرع ما يمكن.
ما الذي يبعث على الأمل؟
رغم الموقف الكئيب الذي تمر به معظم البلدان، ورغم كل ما ذُكر أعلاه، تظل هناك أسبابٌ تدعو إلى التفاؤل. فلا يجب أن يمر الربيع العربي مرور الكرام أو يُصنف على أنه فشلٌ تامٌ كما يفعل معظم المحللين منذ سنواتٍ، بمن فيهم صفوة خبراء السياسة الخارجية.
من منظورٍ سياسيٍ، يمكن أن يقود ذلك فقط إلى مزيدٍ من اليأس والإحباط، بينما من منظورٍ تاريخيٍ، فإن تصنيفه بهذا الشكل يحمل جزءاً فقط من الصواب، بالإضافة إلى أنه ينم عن قصورٍ في الرؤية، وتركيزٍ أكثر من اللازم على الوضع الراهن.
أولاً، إسقاط أربعة أنظمةٍ ديكتاتوريةٍ في سنةٍ واحدةٍ (زين العابدين بن علي في تونس، ومبارك في مصر، والقذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن) ثم إجراء انتخاباتٍ حرةٍ في عدةٍ بلدانٍ، وقيام نظامٍ ديمقراطيٍ حقيقي واحدٍ على الأقل واستقراره (في تونس، وهو ليس أمراً مفاجئاً لكل من يعرف تلك الدولة جيداً ويفهم تفرُّدها مقارنةً بباقي دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط) وعلى الأقل إجراء بعض الإصلاحات في بلادٍ مثل المغرب، كل ذلك لا يجب تجاهله أبداً.
ثانياً، تبقى التجربة المنعشة للربيع العربي، الذي كان تجربة الملايين الأولى للحرية والسيادة الشعبية، لحظةً تأسيسيةً ونموذجاً ومصدراً مستمراً للإلهام.
ثالثاً، فضح الربيع العربي، إلى الأبد، الفكرة التي كانت مستقرةً بين تلك الشعوب، والقائلة إن "العالم العربي" ميؤوسٌ منه، ولن يكون أبداً قادراً على تحقيق الحرية والسيادة الشعبية كما فعلت معظم شعوب العالم، وبهذا كان الربيع العربي نوعاً من الاستثناء الجغرافي الثقافي.
رابعاً، أظهر الربيع العربي أن تلك الأنظمة الاستبدادية التي ظن الكثيرون أنها راسخةٌ للغاية، أو على الأقل قويةٌ ومستقرةٌ، ليست في الواقع سوى مجرَّد نمورٍ ورقيةٍ يمكن الوقوف في وجهها بل وهزيمتها. ولو أنَّ قادة الأنظمة من أمثال عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد ومحمد بن سلمان كانوا يقمعون أي بادرة معارضةٍ منذ ذلك الحين بالوحشية التي شهدناها، فإنهم يفعلون ذلك بدافع الخوف، بل واليأس حتى، لأنهم وبعد شعورهم بحرارة الانتفاضات، يعرفون أنهم أشد هشاشةً بكثيرٍ من مظهر القوة والثقة الذي يسعون للظهور به.
وبطريقةٍ ما، تعد وحشيتهم التي فاقت كل ما رأيناه قبل عام 2011 مقياساً لمدى هشاشتهم. وإن لم يلاحظ المحللون ولا الشعوب ذلك، فإن أولئك الطغاة يعرفونه جيداً. لهذا السبب كانوا يعملون بجهدٍ إضافيٍ لمحو ولو أبسط ذكرى للربيع العربي.
لكنَّ الخيال الطوباوي كان دائماً سمةً أساسيةً للبشرية، والربيع العربي يظل جزءاً رئيسياً لا يتجزأ من هذا الخيال النشط، مع أنَّه قد يبدو خاملاً في الوقت الراهن.
خامساً، من الخطأ منطقياً القول بأنَّ الربيع العربي انتهى، فهناك العديد من الأماكن التي تشهد استمراره، ولو على نطاق أصغر، وبأشكالٍ مختلفة أكثر محليةً وأقل تألُّقاً.
مصدرٌ دائمٌ للإلهام
وبحسب الكاتب رغم الصعوبات الاقتصادية، لم يفقد الشعب التونسي التزامهم الديمقراطي وإرادتهم لمواجهة القادة العرب المستبدين القمعيين الفاسدين، وذلك ما اكتشفه محمد بن سلمان في زيارته إلى تونس في وقتٍ مبكرٍ من ديسمبر/كانون الأول الجاري، حتى عندما كان يحاول شراء صمتهم.
يظل الربيع العربي مصدر إلهامٍ دائماً في تونس، ومحركاً قوياً لمزيدٍ من المعارضة مع أنَّ الوضع أفضل بكثيرٍ مما كان عليه إبان حكم بن علي، سياسياً على الأقل.
وفي سوريا تستمر معارضة الأسد، وبعكس الصورة التي يروجها الإعلام، فهي ليست مقتصرةً على "الجهاد" المسلح بأي حالٍ من الأحوال. ورغم عدم توحُّد أحزاب المعارضة، فإنَّها تواصل انتهاج معارضة سلمية ضد النظام. ومعظم معارضي الأسد ليسوا جهاديين ولا إسلاميين، ويظل ملايين السوريين ملتزمين بمستقبلٍ مدنيٍ ديمقراطيٍ لبلادهم يشمل الجميع.
شهدت الأردن نفسها موجاتٍ من الاحتجاجات الجماعية مدفوعةً بنفس المطالب والغضب والاحتياجات والروح التي حركت الربيع العربي. وكما يقول ديفيد هيرست: "إنَّ ذلك هو ما يحدث للشعب الذي فاض به الكيل من ارتفاع الأسعار، والاقتصاد المتداعي، وحكومة المحسوبية، والانتخابات الزائفة، والأحزاب الكرتونية، ومجموعة الأمراض الكاملة التي تعانيها الدول العربية المعاصرة".
أبعد ما يكون عن الانتهاء
وبحسب المقال يمكن أن يستمر المرء في الكتابة على هذا المنوال لصفحاتٍ وصفحاتٍ. لكنَّ تلك الأمثلة القليلة كافيةٌ لإظهار أن الربيع العربي أبعد ما يكون عن الانتهاء، وأنَّ تحت مظهر "الشتاء العربي" الخادع، ما زال الرماد مشتعلاً حرفياً في كل بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وكما كتبت ميريسا خورما بخصوص الديناميات الجارية في الأردن، في تعليقٍ ينطبق على المنطقة بأسرها: "ربما انتهى الربيع العربي كما نعرفه، لكنَّ النشاط السياسي والاجتماعي لم ينتهِ. بعبارةٍ أخرى، الإعياء يقع في عين الناظر.. فالربيع العربي البعيد كل البعد عن الاختفاء فجَّر موجةً من المساعي اللاحقة نحو الإصلاح".
وإن بدت تلك الحركات "فئويةً" أو إصلاحيةً أكثر منها ثوريةً، فإنها تظل رغم ذلك ضمن لغة "ثورتنا" الملتهبة، في ظل استحضار الربيع العربي و"شهدائه الأوائل" بصفتهما نموذجاً ومرجعاً واضحاً يمكن من خلاله صياغة المطالب بإجراء تغييراتٍ نوعيةٍ وجذريةٍ على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والحكومي، سواءٌ في تونس أو المغرب أو العراق، بحسب المقال.
وربما يتظاهر الناس مطالبين بمياه شربٍ نظيفةٍ كما يحدث في البصرة، لكنَّك تحتاج فقط إلى النبش تحت السطح لترى وتسمع استمرارهم في الاحتجاج والمخاطرة بأرواحهم من أجل المطالبة بعدالةٍ أكبر تشمل الجميع.
وبأخذ كل ذلك في عين الاعتبار، فإن تلك المواطنة وحركات المعارضة المتماسكة الملتحمة رغم مظهرها اليائس تُمثِّل الجولة الثانية من الربيع العربي، أو بكلمةٍ أبسط، استمراره.
وختم الكاتب مقاله لا يمكن أن يكون الربيع العربي قد انتهى، لأنَّ الظروف التي خلقت الثورات وتسببت في انتفاضة 2011 -مثل الأنظمة الاستبدادية والقمعية الإقصائية والمصاعب الاقتصادية وغياب العدالة والفساد وغير ذلك- مازالت موجودةً وبكثرةٍ في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل وأحياناً بشكلٍ أسوأ مما مضى كما في مصر وسوريا.
ولو أن تلك الأنظمة الفظيعة تمكنت منذ عام 2011 من الحفاظ على مراكزها، أو توطيد وجودها، فإن ذلك لم يحدث إلَّا عن طريق وحشيةٍ متزايدةٍ، وقمعٍ للمعارضة، وإرهاب دولةٍ، ودعمٍ من الغرب ومن دولٍ أخرى (كدعم روسيا للأسد). بيد أنَّ هذا الوضع الراهن ليس مستقراً بالمرة كما هو واضحٌ، ولهذا السبب فإن الربيع العربي، أو أياً كان ما سنسميه، مقدرٌ له أن يستمر.
قد لا يأخذ الشكل البراق الجماعي المفاجئ للانتفاضة الشعبية التي فاجأت العالم عام 2011 بما في ذلك المتظاهرين أنفسهم. قد يكون أكثر ميلاً نحو الإصلاح، وربما يكون تدريجياً وتصاعدياً ودورياً ومتقطعاً ومحلياً، لكنه سيستمر، وهو مستمرٌ الآن في الواقع.