عندما سلَّم السعوديون إلى أميركا، الخميس 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، تقريرهم عن مقتل جمال خاشقجي، قابل الرئيس الأميركي ذلك بالصمت.
كان دونالد ترامب قد توعد الأسبوع الماضي، بأنَّه سيكوِّن رأياً "صارماً للغاية" بشأن كيفية تعامُل الولايات المتحدة مع الجريمة الوحشية، بعد أن قدَّمت السعودية نتائج تحقيقاتها الخاصة.
لكنه بقي صامتاً، واكتفت إدارته -كما كان متوقعاً- بفرض عقوبات على 17 سعودياً متهمين بالتورط في جريمة القتل.
أُعلنت العقوبات بعد ساعاتٍ من إعلان النائب العام السعودي أنَّه سيطالب بعقوبة الإعدام لـ5 أشخاصٍ؛ قال إنَّهم اشتركوا في قتل خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018.
فهل انتهى الأمر عند هذا الحد؟
البعض يستبعد تحركات إضافية، وآخرون ينتظرون متورطين آخرين
مسؤولٌ بارز بالإدارة الأميركية قال إنَّه من المستبعد أن تتَّخذ الولايات المتحدة أي خطواتٍ غير ذلك ضد القيادة السعودية، مشيراً إلى أنَّ كلا الطرفين يأمل أن يتجاوز تلك الحادثة.
ومع ذلك، قال مسؤولٌ أميركي آخر، غير مصرح له بالتحدُّث عن القضية، لصحيفة The Washington Post، على شرط الإبقاء على هويته مجهولة، إنَّ المتَّهمين الـ17 ليسوا سوى "دفعة أولية" من الأفراد المُساءلين عن مقتل خاشقجي، وإنَّ التحقيق الأميركي ما زال "قيد البحث".
بولتون أكد عدم تورط محمد بن سلمان، وترامب أدان التستر
وفي وقتٍ سابق من الأسبوع الجاري، قال مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، إنَّ تسجيلاً لواقعة مقتل خاشقجي لم يشي بتورُّط الحاكم الفعلي للسعودية، ولي العهد، محمد بن سلمان.
وأصر ترامب على رفضه اتهام الأمير محمد، وهو حليفٌ مقرَّب لصهره ومستشاره الأبرز، غاريد كوشنر، الذي هو أيضاً محورٌ أساسي في سياسة الإدارة الأميركية للشرق الأوسط.
هذا برغم أنَّه أدان كيفية تعامل السعودية مع مقتل خاشقجي، معتبراً ما حدث "أسوأ عملية تستُّر على الإطلاق".
التقرير السعودي يخالف بيانات البيت الأبيض
كذلك، خالف التقرير السعودي المذكور بياناتٍ سابقة أصدرها البيت الأبيض والمسؤولون السعوديون بشأن الأحداث التي أدَّت إلى موت خاشقجي.
وفي حين لم يكن لدى ترامب أي تعليقٍ على هذه التناقضات، لمَّح وزير الخزانة الأميركية، ستيفن منوشين، في أثناء إعلانه العقوبات الأميركية، إلى أنَّه ما زالت توجد تفاصيل تستدعي الكشف عنها في حادثة القتل.
وقال منوتشين: "تستمر الولايات المتحدة في العمل بجدٍ للتحقُّق من كل الوقائع، وسوف تُحاسِب كل من تجده مسؤولاً، حتى تتحقَّق العدالة لخطيبة خاشقجي، وأولاده، والعائلة التي تركها من بعده".
ونائب ديمقراطي يعلن: "هذه ليست نهاية القصة
لم تُخفِّف العقوبات المُعلَنة من الانفعال المحتدم داخل الكونغرس الأميركي، حيث طالب الديمقراطيون والجمهوريون البيت الأبيض باتخاذ إجراءاتٍ أكثر صرامة بحق السعودية.
ومن بين هذه العقوبات المطالَب بها، إيقاف صفقات الأسلحة بين الدولتين، وإجبار المملكة على إنهاء الحرب الأهلية المدمِّرة في اليمن المجاور.
وقال آدم شيف، النائب الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا والرئيس المقبل للجنة الاستخبارات بمجلس النواب الأميركي: "هذه ليست نهاية القصة. لا يمكن أن تنتهي هكذا!".
ويؤكد: لن يكمل الحل إلا بإشراك محمد بن سلمان
وقال شيف إنَّ بمقدور السعوديين أن يتَّخذوا خطواتٍ لاستيعاب الأزمة التي أشعلوها بمقتل خاشقجي.
لكنَّه أضاف: "بيد أن أياً من تلك الحلول لن يكون كاملاً إذا ما أشارت الأدلة في نهاية المطاف، إلى ولي العهد السعودي".
نائب جمهوري: كيف يفرضون عقوبات على مسجونين أصلاً؟
وقال السيناتور راند بول، وهو ممثلٌ جمهوري عن ولاية كنتاكي لطالما انتقد حملة السعودية في اليمن، متحدثاً لشبكة CNN الأميركية: "إنَّ فرض عقوباتٍ على أفرادٍ مسجونين بالفعل لهو أمرٌ أشبه بالتظاهر باتخاذ فعلٍ ما، لأنَّك إن كنت فرضت عليهم عقوبات، فإنَّهم في السجن بالفعل! خمسة منهم مقدَّمون لعقوبة الإعدام. هل تظن أنَّه يهمهم حقاً أنهم كونهم قد وُقِّعَت عليهم عقوبات؟!".
وقال بول إنَّه يرجِّح أنَّ الأمير محمد بن سلمان هوَ من أمر بقتل خاشقجي، وهو اتهامٌ ردَّده السيناتور كريستوفر مورفي، الممثِّل الديمقراطي عن ولاية كونيتيكت. وقال مورفي: "لا يمكننا التسليم الأعمى بنتائج التحقيق الذي تديره السعودية لبيان مَن تجب مساءلته".
وسيناتور جمهوري يطالب وزراء ترامب بمزيد من المعلومات
كذلك، قال السيناتور بوب كوركر، وهو الممثِّل الجمهوري عن ولاية تينيسي، ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، إنَّ العقوبات "مهمة"، لكنَّه يأمل اتخاذ إجراءاتٍ أبعَد من ذلك.
وقال كوركر إنَّه طلب أن يلتقي، في "اجتماعٍ عالي المستوى"، وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، ووزير الخارجية مايك بومبيو، ومديرة وكالة الاستخبارات الأميركية جينا هاسبل، كي "يُطلعونا على ما يحدث تحديداً في أمر الرد الأميركي على السعودية" بقضيتي خاشقجي واليمن.
وقال كوركر في بيانٍ له: "إنَّه أمرٌ شديد الأهمية، أن يتقدَّموا بصراحةٍ تامة؛ نظراً إلى مستوى القلق المتصاعد والمطالبة المحتدمة باتخاذ إجراءٍ بشأن ما يحدث هنا في مجلس الشيوخ".
قائمة العقوبات شملت القحطاني وأغفلت عسيري.. لماذا؟!
وتضمَّنت قائمة السعوديين الموقَّعة عليهم عقوبات بموجب قانون ماغنيتسكي العالمي، اسماً بارزاً، لكنها أغفلت آخر.
أوردت وزارة الخزانة الأميركية على قائمتها اسم سعود القحطاني، وهو مسؤولٌ سعودي بارز ومقرَّب من الأمير محمد بن سلمان، قائلةً إنَّه كان "جزءاً من عملية التخطيط والتنفيذ للعملية التي أدَّت إلى مقتل خاشقجي".
كان القحطاني مشرفاً على الشؤون الإعلامية بالديوان الملكي، وكان العقل الاستراتيجي للحملة الإلكترونية التي تستهدف مضايقة مُنتقدي المملكة، ومن بينهم خاشقجي، وهذا وفقاً لمسؤولين أميركيين وسعوديين.
لكنَّ القائمة لم تشمل اسم أحمد عسيري، وهو النائب السابق لرئيس الاستخبارات العامة السعودية.
ويُعتقَد أنَّ عسيري، وهو مؤتمَن مقرَّب من الأمير محمد بن سلمان، كان العقل المدبِّر للعملية المُخطَّط لها، لمواجهة خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول.
فعسيري مقرب من مسؤولين أميركيين
أُقِيل عسيري من منصبه، واعتُبِر كبشَ الفداء الأبرز في تبعات العملية.
لكن، لعسيري صِلاته الشخصية بإدارة ترامب. ففي شهر سبتمبر/أيلول 2018، التقى عسيري مسؤولين أميركيين بارزين، من بينهم وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في نيويورك، على هامش مؤتمر نظَّمته مجموعة "United Against Nuclear Iran-متحدون ضد إيران نووية".
كذلك، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوباتٍ على ماهر المطرب، وهو تابعٌ يعمل تحت إمرة القحطاني، الذي قالت الوزارة إنَّه نسَّق ونفَّذ جريمة القتل.
وقد التُقِطت صورٌ لـ "المطرب"، وهو معاونٌ آخَر مقرَّب من الأمير محمد بن سلمان، مع الأمير في رحلاتٍ خارجية.
أما إدراج أميركا اسمَ القنصل فيعني حصولها على معلومات إضافية
أوردت الولايات المتحدة أسماء 14 مسؤولاً آخرين، قالت إنَّهم اشتركوا في تنفيذ العملية، بالإضافة إلى محمد العتيبي، القنصل العام في إسطنبول، وقت حدوث عملية القتل.
لم تقل السعودية إنَّ العتيبي كان متورِّطاً في الجريمة، وقال خبراء إنَّ إدراجه على القائمة يشير إذن إلى أنَّ مسؤولي الاستخبارات الأميركيين ربما يكونون قد تلقُّوا معلوماتٍ إضافية عن دوره فيما جرى.
ستجمِّد العقوبات المفروضة الأصول المالية للمُستهدَفين بها، إذا ما كانت ضمن نطاق صلاحية الولايات المتحدة، وتمنع المعاملات معهم.
وكذلك، تمنع السعوديين من السفر إلى الولايات المتحدة، وهو أمرٌ يقول الخبراء إنَّه مستبعد الحدوث على أية حال.
وهم محتارون حول تفسير الرواية السعودية
كان المسؤولون الأميركيون في حيرةٍ من أمرهم حول كيفية تفسير الرواية السعودية المتبدِّلة بشأن وقائع الهجوم على الصحافي السعودي.
ومنذ أسبوعين، قال بومبيو إنَّ "السعوديِّين أقرُّوا بأنَّ ما حدث كان هجوماً مخطَّطاً له". لكنَّ آخر تفسيرٍ سعودي وصف الجريمة بأنَّها كانت عملية تسليمٍ جرت على نحوٍ سيئ، راجعةً بذلك لأحد التفسيرات المبكرة لما حدث يومها.
وعندما سُئِل ما إذا كان بومبيو وغيره من المسؤولين يعتقدون أنَّ الهجوم كان عن سبق إصرار، أجابت هيذر نويرت، المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، بقولها: "أظن أنَّ الوقت ما زال مبكراً حتى يتسنَّى لنا الإجابة عن هذا السؤال".
وصحيفة Washington Post ترفض العقوبات الأميركية
رفضت صحيفة Washington Post، التي عمل لديها خاشقجي، التفسير السعودي الأخير.
كما رفضت العقوبات التي فرضتها الإدارة الأميركية، معتبرةً كلا الأمرين جزءاً من عملية التستُّر على دور محمد بن سلمان في مقتل الصحفي.
وقال فريد ريان، ناشر الصحيفة: "منذ البداية كان (التحقيق) السعودي مجرد جهدٍ لحماية هؤلاء المسؤولين حقاً عن الجريمة البشعة المُرتكبة، إذ يوجَد كل سببٍ ممكن لاعتقاد أنَّ هذه عمليةٌ صُرِّح بتنفيذها من قِبل أعلى مستويات الحكومة السعودية".
قد لا يتنحّى محمد بن سلمان، لكن قد تتوقف حرب اليمن
وفيما يُستبعَد أن يُحمِّل ترمب الأمير محمد بن سلمان مسؤولية الحادث، فقد قال بعض المشرِّعين والخبراء إنَّ الولايات المتحدة عازمة على استغلال الاحتجاج على حادث مقتل خاشقجي ليكون ورقة مساومة، لإجبار الأمير على إنهاء حرب اليمن بسرعة.
وكان البيت الأبيض قد أوقف بالفعل العمليات الأميركية لتزويد الطائرات السعودية بالوقود في الجو.
والتقى بولتون مؤخراً، ولي العهد الإماراتي، محمد بن زايد، في أبوظبي.
وقال محللون إنَّهم يعتقدون أنَّ بولتون حثَّ الأمير، وهو شخصيةٌ بارزة تحظى بالاحترام في المنطقة، على ممارسة نفوذه على محمد بن سلمان، لإنهاء حرب اليمن.
وقال بروس ريدل، وهو زميلٌ بارز بمعهد بروكينغز: "إنَّ هذه فرصةٌ أكثر رمزية ودرامية ممَّا شهدناه قبلاً، ويبدو أنَّها ذات تأثيرٍ فعلي".
وأضاف ريدل: "لا يمكننا إجبار السعوديين على تنحية محمد بن سلمان من تسلسل الحُكم. لكن يمكننا استخدام قضية خاشقجي كوسيلةٍ تخدم غاية إيقاف حرب اليمن. إنَّه أمرٌ في مصلحتنا ومصلحة السعوديين على حدٍّ سواء".