بات السعوديون يخشون أن تصبح بلادهم منبوذة بعد أن كانت المملكة الغنية بالنفط دوماً حليفاً موثقاً به لدى الغرب وواحة للاستقرار في الشرق الأوسط.
فعلى لوحات الإعلانات في الرياض تظهر صور الملك سلمان وابنه، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، مطبوع عليها هاشتاغ #صوت_واحد_للأمة.
لكنَّ مصداقية هذا الصوت تقوضت، حتى داخل المملكة العربية السعودية، بسبب قتل جمال خاشقجي ورد فعل المملكة الأخرق إزاء الغضب الناجم عن ذلك، حسب وصف تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية.
ليست المملكة التي نعرفها.. السعوديون يخشون أن تصبح بلادهم منبوذة كليبيا والعراق
قال أحد الاستشاريين السعوديين: "هذه ليست المملكة التي نعرفها. زملائي كانت تدمع أعينهم، هذا الحدث مزَّق البلاد".
ويخشى السعوديون أن تصبح بلادهم منبوذة بعد أن كانت حصناً للاستقرار في أعين الغرب.
إذ يتخوف الكثير منهم من تحول المملكة إلى بلدٍ إقليمي منبوذ شبيه بالأنظمة السابقة التي حكمت في ليبيا في عهد معمر القذافي والعراق في زمن صدام حسين.
فقضية خاشقجي أضعفت ثقة الشعب في إصلاحات الأمير محمد بن سلمان
وبالنسبة إلى الأمير محمد، تحول مقتل خاشقجي إلى أخطر تهديد لثقة الشعب في إصلاحاته حتى الآن.
منذ أن أصبح الحاكم اليومي للمملكة في عام 2017، أقصى محمد بن سلمان المنافسين السياسيين، وتَحَكَّم في صنع القرار من خلال مجموعةٍ صغيرة من الاستشاريين وسيطرته المحكمة على المؤسسات العسكرية والأمنية.
وكان تبسيط وتسريع الإجراءات الحكومية يُعتبر في يومٍ من الأيام وسيلة لتجاوز البيروقراطية غير الفعالة، مثلما كان يتوقع السعوديون من إصلاحات الأمير محمد بن سلمان.
لكن بعض السعوديين يشككون الآن في أنَّ استيلاء الأمير محمد على السلطة خلق الظروف المواتية لحادث إسطنبول المأساوي.
وقال أحد الاستشاريين: "يدرك الناس أنَّه قد استولى على الدولة لنفسه. هذه حكومة موازية، مع عدم وجود مؤسسات، كل الوزراء ينتظرون فقط الديوان الملكي".
وقال عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي، في مقابلةٍ يوم الأحد 21 أكتوبر/تشرين الأول 2018، إنَّ الأمير محمد لم يكن على علم بعملية خاشقجي.
ولكن هل يؤدي مقتل خاشقجي إلى نقلة نوعية في السعودية؟
يقول أحد المسؤولين إنَّ مقتل الكاتب الصحافي يمكن أن يؤدي إلى نقلةٍ نوعية في المملكة العربية السعودية، شبيهة بالتغييرات التي جاءت بعد الكشف عن انخراط 15 سعودياً في هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
وبعد ذلك الهجوم الشهير، وبينما كانت المملكة تتهاوى تحت الإدانة الدولية، عملت الرياض على الحد من تمويل الإرهاب، وشرعت في إصلاحاتٍ ديمقراطية محدودة من خلال الانتخابات البلدية في عام 2005.
والآن، كما يضيف المسؤول، ستكون هناك حاجة إلى ترتيبات أخرى للاستجابة لرد الفعل العالمي إزاء الكشف عن تورط فريقٍ من السعوديين، في قتل خاشقجي، سواءٌ كان هذا الفريق مارقاً أم لا.
الشباب يؤيد إصلاحاته الاجتماعية، ولكن لا صديق له في القطاعات الرئيسية
كان القادة الغربيون ورجال الأعمال قد احتفوا بمحمد بن سلمان، لإطلاقه أجندة إصلاح داخلية تمتد من تنويع مصادر الاقتصاد إلى إضعاف سلطة الشرطة الدينية (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، والسماح للنساء بقيادة السيارات.
وفي الجامعات وأماكن العمل في جميع أنحاء الرياض، يقول الشباب إنَّهم ما زالوا يدعمون خطط التحرر الاجتماعي للأمير البالغ من العمر 33 عاماً. لكنَّ السؤال الذي يطرحه بعض السعوديين هو ما إذا كانت قبضة الأمير الحديدية ستكون مُكلِّفة للغاية.
يتوقع قليلون أن يشارك الأمير السلطة على نطاقٍ أوسع، لكن أي دليلٍ على تورطه في جريمة قتل خاشقجي قد يضعف موقفه. وقال الاستشاري: "ليس لديه أصدقاء في العائلة، وفي القطاع الخاص، والحكومة خائفة منه".
والبعض يتحدث عن المؤامرة الخارجية ولكن آخرين يفضلون إخفاء شكوكهم
بعد اختفاء خاشقجي في 2 أكتوبر/تشرين الأول، غُمِرَت الشبكات الاجتماعية السعودية بالحديث عن نظريات المؤامرة، بقيادة قطر، الخصم الإقليمي لتشويه صورة الرياض العالمية.
ويستمر البعض في الاعتقاد بمثل هذه الأفكار. إذ غرَّد أحد الأشخاص يوم الإثنين على موقع تويتر قائلاً: "لم يريدوا لنا النجاح، فقط بيع النفط وهذا كل شيء!".
لكن بالنسبة للآخرين، فإنَّ الرواية الرسمية المتغيرة أثارت شكوكاً صامتة.
والأسوأ أن السعوديين يخشون أن تصبح بلادهم منبوذة، أو على الأقل جزء ليس يسيراً منهم لديه هذه المخاوف.
أما العائلة المالكة فقد عقدت اجتماعاً لاستعادة التوازن.. وهذا ما يفكرون فيه
والعائلة المالكة، ما زالت تترنح من احتجاز المئات من أفرادها في فندق ريتز كارلتون العام الماضي إثر عملية تطهير قام بها الأمير محمد لمحاربة الفساد،
ولكنها عقدت اجتماعاً مساء الأحد 21 أكتوبر/تشرين الأول، على حد قول أشخاص مطلعين على الاجتماع، وسط تكهناتٍ بأنَّ الجيل الأكبر سناً قد يتولى مناصب قيادية جديدة لاستعادة التوازن في صنع القرار.
وقال شخص مُقَّرَب من الديوان الملكي إنَّ منصب الأمير محمد كان آمناً، لكن من الممكن توسيع قاعدة استشارييه لتشمل استشاريين أكبر سناً وأكثر حكمة.
واستُدعى خالد بن سلمان، سفير السعودية في الولايات المتحدة، من واشنطن، وأوفد الملك الأمير خالد الفيصل الموثوق به إلى تركيا للتعامل مع أزمة خاشقجي.
وتقول شخصيات معارضة إنَّ الضغوط الدولية يمكن أن تكون محوريةً في مصير الأمير محمد، حتى لو تمت محاكمة وسجن أشخاص آخرين كأكباش فداء في مقتل خاشقجي.
والأزمة انعكست بالفعل على الاقتصاد وتهدد بتقويض أبرز خطط ولي العهد
أصبح استياء رجال الأعمال الغربيين واضحاً بالفعل، إذ امتنعوا عن حضور مؤتمر الاستثمار السعودي "دافوس الصحراء" الذي افتُتح أمس الثلاثاء 23 أكتوبر/تشرين الأول 2018.
ويمتد هذا التهديد الذي يواجهه الأمير محمد وإصلاحاته الوليدة إلى الأسواق المالية، في وقت تناضل المملكة من أجل إخراج نفسها من حالة الركود الاقتصادي.
وقد تكون مخاوف المستثمرين من تأثير الأزمة على اقتصاد المملكة صحيحة، لأنَّ الإصلاحات التي يخطط لها الأمير محمد تعتمد في جزءٍ كبير منها على رأس المال الأجنبي.
وفي الأسبوع الماضي، باع الأجانب 1.1 مليار دولار من الأسهم في البورصة السعودية (تداول) في الرياض، وهي واحدة من أضخم التدفقات الأسبوعية الخارجة من البورصة منذ فتحت الأسواق أبوابها أمام الأجانب عام 2015.
واستُخدمت صناديق الاستثمار الحكومية وصناديق معاشات التقاعد لشراء الأسهم والحد من الأضرار، وفقاً لما ذكره أشخاص على علم بالأمر.
وفيما أصبح السعوديون يخشون أن تصبح بلادهم منبوذة، فإن حركة الاستثمارات تظهر أن مخاوفهم ليست مبالغاً فيها، أو على الأقل الأمر لم يعد كما كان في السابق.
ومما يثير القلق أن مأساة خاشقجي جاءت عقب سلسلة من التصرفات الطائشة
وأشارت الصحيفة البريطانية إلى أنه مما يثير قلق المعنيين أن قضية خاشقجي لم تكن مجرد حادثة معزولة.
فمقتل خاشقجي جاء في أعقاب التحركات الإقليمية الطائشة للأمير محمد، مثل حصار قطر وتورطه في حربٍ دموية في اليمن، حسب وصف الصحيفة.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يكشف في مقابلة مع BFM TV أن سعد الحريري كان محتجزا في #الرياض لعدة أسابيع،. ويضيف ماكرون انه زار الرياض وأنقذ الحريري من خلال دعوته له بزيارة فرنسا."هكذا انقذنا #لبنان من أزمة سياسية حادة، لو لم نفعل ذلك لكان لبنان ربما الان في حالة حرب pic.twitter.com/IXFtQUMwWU
— خديجة بن قنة (@Benguennak) May 28, 2018
كما احتجز الأمير محمد بن سلمان رئيس وزراء لبنان سعد الحريري، قبل أن يطلقه بعد تدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وجهود دولية أخرى.
وقال الرئيس الفرنسي في معرض إشارته إلى نجاح دبلوماسية بلاده: "أذكر.. رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري تم التحفظ عليه في السعودية لأسابيع عدة".
وبعد الإعلان عن مقتل خاشقجي، قدمت الإعلامية والنائبة اللبنانية بولا يعقوبيان رواية جديدة حول احتجاز الحريري في السعودية، وقالت إنه تعرَّض لإهانات وضغوط، وقرأ بيان استقالته حينها مكرهاً، وإن كل شيء كان مرتباً من قِبل السياسيين بالرياض.
وبهذه الرواية تكون يعقوبيان قد تراجعت عن معلوماتها السابقة، التي أدلت بها بعد عودتها من السعودية، عقب إجراء حوار حصري مع الحريري لقناة المستقبل، أثناء إقامته الجبرية بالرياض. وقالت يعقوبيان حينها إن الحريري كان حراً عندما قابلته.
ومع تتابع هذه الأحداث الملتهبة في المملكة التي كانت من قبل تفضل سياسة هادئة، قال أحد المصرفيين الإقليميين في مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار: "تخيل صعوبة الترويج للسعودية في الوقت الحالي".
وقال مصرفي آخر: "كل شهر هناك حالة من عدم الاستقرار".