مرَّ أكثر من أسبوع على اختفاء أو اغتيال الإعلامي السعودي البارز جمال خاشقجي منذ دخوله القنصلية السعودية في إسطنبول، في الوقت الذي تصرُّ فيه تركيا على اغتيال خاشقجي على يد فريق سعودي جاء بالتحديد، لتنفيذ هذه المهمة، ترفض الرياض هذه الرواية، وتؤكد أن خاشقجي خرج من مقر المقر الدبلوماسي بسلام.
السعودية لم تقدّم أي دليل على روايتها؛ بل العكس، التصريحات التي خرج بها مسؤولون في الرياض وخارجها تزيد الطين بلة وتورّط سلطات المملكة بالقضية، في حين قدمت أنقرة كل الأدلة المقنعة لروايتها.
الرأي العام العالمي بات يصدق الرواية التركية أكثر، لا سيما أنها مقترنة بأدلة موثَّقة بالصوت والصورة؛ ومن ثم باتت الكرة في ملعب السعودية، وعليها أن تفعل شيئاً ما قد يخفف من وطأة الغضب العالمي العارم حيال المسؤولين، وعلى رأسهم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي يراه البعض المسؤول الأول عن الجريمة.
في أول محاولة سعودية لامتصاص الغضب العالمي، عرضت المملكة على تركيا المشاركة في التحقيق بقضية خاشقجي، الأمر الذي وافقت عليه أنقرة؛ حتى لا تترك حجة أمام الرياض تمنحها التهرب من المسؤولية إذا ما أثبت القضاء التركي ضلوع مسؤولين سعوديين في الجريمة.
في هذا التقرير، سنحاول تسليط الضوء على السيناريوهات المحتملة التي قد تلجأ إليها المملكة للتعامل مع هذه الأزمة.
-
الإنكار التام
يعتمد هذا التصور على أن السعودية ستفضّل مبدأ الأنكار التام في سياستها الحالية تجاه الأزمة؛ ومن ثم ستُشكِّك في أي أدلة جديدة يقدمها الجانب التركي، ما يثبت أنَّ القتل السعودي المُتعمَّد لخاشقجي والمدعوم من الدولة، بحسب وسائل إعلام أجنبية، مُلفق.
في هذا السيناريو أيضاً، ستظل رواية السعودية تبدو "سخيفة"، لكن مع ظهور أدلة جديدة، سوف تخسر الرياض المعركة في مواجهة الرأي العام العالمي. على الرغم من ذلك، قد يُقرر الجانب السعودي اللجوء إلى الهجوم ويصبح عدوانياً، وقد يتهم تركيا بالتآمر على السعودية من خلال "تلفيق" الأدلة.
ولعل المتابع لوسائل الإعلام السعودية أو المحسوبة على الرياض قد يرى ربما رغبة الرياض في المضي بهذا السيناريو، فعلى سبيل المثال لم تشر قناة "العربية" السعودية إلى أي دلائل تبرّئ الرياض من القضية؛ بل صبّت جام غضبها على وسائل الإعلام التي تنقل الرواية التركية، التي تبدو أكثر منطقية، وكذلك بعض الصحف السعودية التي باتت تبحث عن مَخرج يلقي باللوم على تركيا ويحمّلها المسؤولية.
-
الاعتراف بالجريمة دون تحمُّل المسؤولية السياسية
قد تحاول السعودية الحدَّ من خطورة الجريمة، ووصفها بأنها مجرد عمل إجرامي، وسوف تَعمد إلى عدم تحمُّل أي مسؤولية سياسية. ولإعطاء هذا التصور بعض المصداقية، يُمكنهم حتى فتْح تحقيق خاص بهم في الملف ودعوة تركيا للمشاركة في هذا التحقيق السعودي. ويصبح الهدف من هذه اللعبة هو إزالة الصبغة السياسية عن الملف وإلقاء المسؤولية على عاتق المسؤولين الأقل شأناً، والبحث عن كبش فداء.
-
المماطلة في العملية وكسب الوقت
قد تلجأ الرياض إلى تبني موقف غامض دون الاعتراف بالضلوع في الجريمة؛ بل قد تصدّر صورة توحي بأنَّ السعوديين مستعدون للتعاون مع السلطات التركية، في حين تحاول إطالة أمد إجراءات التحقيق، من خلال التعقيدات البيروقراطية والدبلوماسية قدر الإمكان.
وسيكون الهدف من هذه اللعبة هو إطالة أمد الإجراءات فترةً كافيةً حتى يخبت الاهتمام العام والسياسي بهذه القضية.
يُمكن أن يكون هذا السيناريو استراتيجية في حد ذاتها، ولكن يمكن أيضاً أن يكون تكتيكاً لتخفيف الضغط حتى يتسنّى لمحمد بن سلمان التوصل لاستراتيجية أخرى.
لعل ما يبرهن على ميل الرياض ربما إلى هذا التصور، طلبها من السلطات التركية المشاركة في التحقيقات، وهو الأمر الذي وافقت عليه أنقرة الخميس 11 أكتوبر/تشرين الأول 2018، وشكّل البلدان فريق تحقيق لهذه القضية.
لكن هذا التصور قد يكون لدى أنقرة طريقة في التعامل معه، لا سيما أنها تشرف على التحقيقات كلها من البداية، كما أن لديها أدلة موثقة بالصوت والصورة على ضلوع جهات رسمية سعودية في الجريمة، وقد تكشف أنقرة في أي وقت، تفاصيل الجريمة، وهو ما سيجعل هذه الاستراتيجية تبوء بالفشل.
-
كبش فداء، وهو الدولة العميقة في السعودية!
يقوم هذا التصور على ضرورة إلقاء اللوم على الدولة السعودية العميقة، أو على عناصر منشقة في الدولة؛ ومن ثم يتهرب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، من أي مسؤولية. وبدلاً من ذلك، يمكنه أن يصوِّر هذا الشأن على أنه من عمل الدولة العميقة في السعودية.
يمكنه أيضاً أن يدّعي أن هذه الدولة العميقة، أو هذه العناصر المنشقة في الدولة معارضون لمبادرات الإصلاح. لذا، نيتهم هي الإساءة إليه وعرقلة إصلاحاته، من خلال تنفيذ عملية اغتيالٍ كهذه.
وبحسب هذا التصور، قد يعمد محمد بن سلمان إلى اتهام الأنظمة السابقة بتدبير هذه المؤامرة ضده. ولكي يجعل هذا الادعاء قابلاً للتصديق، قد يلاحق شخصيات رفيعة في المؤسسة الحاكمة السابقة، ومن ضمنهم ولي العهد السابق، الأمير محمد بن نايف.
وإذا ما انتهج محمد بن سلمان هذا التصور، فقد يكسب نقطتين في ضربة واحدة؛ وهما: التخلص من ولي العهد السابق ورجاله الذين لا يزالون يمثلون له إزعاجاً رغم التزامهم الصمت، وفي الوقت نفسه تخلص من جريمة قتل الصحافي البارز جمال خاشقجي.
وقد تلتقط الرياض الخيط من الانتقاد اللاذع الذي وجَّهه السياسي التركي ياسين أقطاي للقيادة السعودية، قبل أيام، عندما حاولت قناة "العربية" السعودية تحريف كلام أقطاي بأن هناك طرفاً ثالثاً هو من قتل خاشقجي، وادَّعت القناة السعودية أن الطرف الثالث هو الدولة العميقة بتركيا، في إشارة إلى جماعة فتح الله غولن، التي دوماً ما توصف في تركيا بالدولة العميقة. لكن أقطاي ردَّ على القناة السعودية بأن تركيا لا توجد بها دولة عميقة، ولكن الدولة العميقة في السعودية.
لا يوجد في تركيا دولة عميقة، إنما تركيا دولة واحدة، ونوصي السعودية التخلص من الدولة العميقة فيها التي يشتبه أنها تقف وراء هذا العمل، وهذا كان قصدي من الكلام، وهذا واضح في إجابتي التي لا لبس فيها pic.twitter.com/PeQELpZAcb
— Yasin Aktay (@yaktay) October 9, 2018
هذا التصور لا يمكن استبعاده، لا سيما أن السعودية بالفعل باتت في ورطة وعليها أن تبحث عن حل، في ظل التصديق الكبير للرواية التركية لطريقة تنفيذ الجريمة بسبب أدلتها القوية، في الوقت الذي لم تقدم فيه الرياض أي دليل قوي يُذكر.
-
لفت الانتباه بتغيّثرات جذرية في سياسة محمد بن سلمان
يستند هذا التصور إلى تحويل تركيز الرأي العام العالمي من خلال القيام بتغييرات غير متوقَّعة في سياسة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لتحويل التركيز عن قضية جمال خاشقجي.
وقد يكون ذلك عن طريق اتخاذ قراراتٍ سياسية كبرى وغير متوقعة؛ مثل إنهاء حرب اليمن، أو رفع الحظر عن قطر، أو التقدم في اكتتاب "أرامكو".
لكن، يتوقف نجاح هذا السيناريو -إذا ما أقدمت عليه السلطات السعودية- على أن يكون القرار المتخَذ كبيراً بما يكفي لمفاجأة الجميع، وينطوي أيضاً على تنازلٍ للغرب مقابل الضجة الإعلامية الكبيرة الحادثة الآن.
-
تطبيق نموذج حزب الله
قد يحاول محمد بن سلمان اللجوء إلى نموذج حزب الله في التعامل مع قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، قبل 13 عاماً.
فعقب الحديث عن تورُّط حزب الله في مقتل الحريري بسبب موقفه من إيران ودعمه التيار السُّني، تخلصت قيادة الحزب من كل من شارك في عملية اغتيال الحريري.
وهذا يعني أن السلطات السعودية ربما تلجأ إلى التخلص من كل العناصر التي شاركت في عملية اغتيال جمال خاشقجي، خاصة بعد فشلهم الذريع في إخفاء هويتهم في أثناء دخولهم تركيا لتنفيذ الجريمة، أو على الأقل اغتيال العناصر الأساسية في فريق القتل، والذين يمكن أن يربطوا قرار الاغتيال بولي العهد السعودي شخصياً.
وبعد أيام فقط من وقوع الجريمة، كشف الأمن التركي هوية 15 عميلاً سعودياً، بينهم مسؤولون، دخلوا البلاد في اليوم الذي اغتيل فيه خاشقجي وغادروا أيضاً في اليوم نفسه.
-
الإطاحة بولي العهد
جراء حالة الغضب الكبير من الرياض وسياستها عقب اندلاع أزمة خاشقجي فيما تشير أصابع الاتهام بالكامل إلى ضلوع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في الواقعة، قد يكون ثمن بقاء حكم الملك سلمان هو الإطاحة بولي العهد، الأمير محمد بن سلمان.
ويستند هذا التصور إلى تدخُّل الملك سلمان شخصياً، واستبدال ولي العهد نتيجةً للضغط الدولي، بالتدريج، بشخص آخر؛ لإنقاذ سمعة الرياض، التي ظلت فترة طويلة هادئة وغير مرتبطة بأحداث توصف بالقذرة، لكن تغيَّرت هذه السياسة عقب صعود نجم ولي العهد، ودخول الرياض في ملفات معقدة بعدة بلدان، من أهمها الحرب الدائرة الآن باليمن.
لكن، قد يكون هذا السيناريو ضعيف التحقق، لا سيما أن الأمير محمد بن سلمان يتحكم في مقاليد السلطة بشكل قوي، يصعب معه انتزاعها منه.