في المنطقة "ج"، التي تشكل حوالي 61 في المائة من الضفة الغربية وتقع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة منذ اتفاق أوسلو 1993، يعيش حوالي 300 ألف فلسطيني، عالقين بين الهدم الإسرائيلي للمدارس الفلسطينية والرفض الروتيني للطلبات الفلسطينية لبناء بدائل لها، ما حَرَم ثلث السكان من المدارس ابتدائية.
وعوضاً عن ذلك، يوضح تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني، يتلقى عشرة آلاف طفل تعليمهم في المقطورات والخيام وأكواخ الصفيح. لكن حتى هذه الهياكل المؤقتة تُهدَّم بشكل متكرر. وتبرر السلطات الإسرائيلية عادةً عمليات الهدم بقولها إنَّ المدارس بُنيَت بشكلٍ غير قانوني.
هم يُهدمون والفلسطينيون مُصرون على التعلُّم
تحت شمس الصحراء الحارقة، تجلس عالية عيسى البالغة من العمر 5 سنوات في مدرسة قروية مبنية من كتل إسمنتية ومسقوفة بقماشٍ مشمع.
إنَّها خجولة للغاية، لكنَّها تريد الحديث عن مدى استمتاعها بالذهاب إلى هناك كل يوم. تقول عالية: "إنَّهم يعلموننا ويعطوننا الجوائز والمكافآت لأنَّنا أذكياء". وبالرغم من أنَّ عالية لا تزال طالبة صغيرة في مرحلة رياض الأطفال، لكنَّها رأت كيف يمكن أن تُحرَم من دراستها بكل بساطة.
فبعد مرور عشرين يوماً على بناء أهالي زنوتا، وهي قرية تقع جنوب مدينة الخليل في الضفة الغربية ، مدرستهم الأولى في مارس/آذار من كتل إسمنتية وصفيح، أزالتها القوات الإسرائيلية ليلاً بجرافات، قائلةً إنَّها شُيِّدت دون الحصول على التصاريح المطلوبة.
لكنَّ الهدم الإسرائيلي للمدارس الفلسطينية لم يفتّ في عضُد سكان القرية، فاشتروا مواد جديدة وأعادوا بناء المدرسة في شهور الصيف. لكن عندما وصلت عالية والطلاب الآخرون إلى مدرستهم في أول أيام الدراسة الأسبوع الماضي، كان في استقبالهم إخطارٌ بالهدم في غضون سبعة أيام من السلطات الإسرائيلية إذا لم يُزِل الأهالي المدرسة.
ووفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، المدرسة هي واحدة من بين 44 مدرسة أخرى في الضفة الغربية مُعرَّضة لخطر الهدم الإسرائيلي للمدارس الفلسطينية بشكل كامل أو جزئي.
وفي تصريح للهيئة المسؤولة عن تنسيق الأنشطة الحكومية في الأراضي الفلسطينية، وهي الوكالة المسؤولة عن تنفيذ السياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية، لموقع Middle East Eye البريطاني، قالت إنَّ قِلّة من السكان الفلسطينيين يقدمون طلباتٍ للبناء.
وقالت في تصريح مكتوب: "ينبغي التأكيد على أنَّ عدد الطلبات المقدمة من السكان الفلسطينيين منخفض بشكل عام. وتدرس الإدارة المدنية كل طلب تخصيص يُقدم إليها على حدة، وفقاً للمعايير المحددة في إجراءاتها وتعليمات القيادة السياسية. بالإضافة إلى ذلك، تدرس الإدارة المدنية خططاً لبناء مؤسسات تعليمية وفقاً لقوانين وإجراءات التخطيط".
والهدف "تهجيرهم" من قراهم
من ناحية أخرى، يقول المدافعون عن حقوق الإنسان إنَّ مسألة التصاريح ليست إلا مسرحية هزلية للتغطية على التمييز العنصري المتأصل وانتهاكات القانون الدولي.
فقال عمر شاكر، مدير مكتب منظمة هيومن رايتس ووتش في فلسطين/إسرائيل، إنَّ الجيش الإسرائيلي يرفض بشكل روتيني طلبات البناء التي يقدمها الفلسطينيون، ولا يترك سوى 1% من مساحة المنطقة لأعمال التنمية الفلسطينية.
وقال: "إنَّ الهدم الإسرائيلي للمدارس الفلسطينية جزءٌ من سياسة تنفذها الحكومة الإسرائيلية لجعل بعض المناطق غير صالحة للعيش بالنسبة للفلسطينيين وتهيئة الظروف التي تؤدي إلى التهجير القسري، وللأسف، الأطفال هم من يدفعون الثمن".
ما يجعلهم في مواجهة بعد المسافة وطرق الفصل العنصري
تقع قرية زنوتا على تلة تطل على الطريق السريع رقم 60، وهو طريق استيطاني يتيح للإسرائيليين الانتقال من الضفة الغربية إلى بئر السبع، المدينة الإسرائيلية الرئيسية في صحراء النقب.
تبدو زنوتا وكأنها قرية بدوية، فهي مبنية بشكل أساسي من الخيام القماشية والأبنية المؤقتة، لكنَّها قرية زراعية فلسطينية، يعمل سكانها بشكل رئيسي في الأراضي الزراعية وتربية الماعز.
خليل الِتل، أحد سكان زنوتا البالغ من العمر 36 عاماً، قال للموقع إنَّهم بنوا المدرسة هذا الربيع حتى يتمكَّن أطفالهم من تلقي التعليم.
قبل بناء تلك المدرسة، التي توفر مكاناً لأربعين طفلاً، من ضمنهم أطفال من قرية فلسطينية أخرى قريبة، كان على أي طفل يريد أن يتعلم أن يتنقَّل لمسافات طويلة.
وقال التل وهو يشير إلى قرية أخرى في الأفق خلف الجبل: "أقرب مدرسة لنا تقع في مدينة الظاهريّة، التي تبعد مسافة سبعة كيلومترات سيراً على الأقدام، هل يمكنك السير يومياً لمدة ساعة ونصف في الصباح وبعد الظهر وأنت شخص بالغ"؟
وأردف: "بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ هذا طريق فصل عنصري"، مشيراً إلى طريقٍ للإسرائيليين فقط يتعين على الأطفال عبوره للوصول إلى الظاهرية. وأضاف: "لا يمكن لأحد أن يضمن سلامتهم. حتى إذا كنت تريد عبور هذا الطريق هنا، فعليك أن تفكر مائة مرة قبل أن تفعل".
ورغم ذلك، يستمر الهدم الإسرائيلي للمدارس الفلسطينية
افتُتحت المدرسة في 26 مارس/آذار، وهدمتها القوات الإسرائيلية في 10 أبريل/نيسان. وقال التل: "سرقوا أيضاً جميع المواد والأدوات الخاصة بالمدرسة".
وتتذكر عالية الصغيرة هذا اليوم جيداً، فتقول: "شعرنا بحزنٍ عميق، وصرخنا في وجوههم".
استمرت الصفوف الدراسية على أنقاض البناء المتهدم. ثُمَّ أعيد بناء المدرسة هذا الصيف بأموالٍ جُمِعت من المناطق المحيطة وهيئة مقاومة الجدار والاستيطان، وهي جزء من منظمة التحرير الفلسطينية.
ولا تعتبر المدرسة بناءً مؤقتاً لأنَّها بُنيَت من كتل خرسانية، لذلك، وبموجب القانون، تُلزَم السلطات الإسرائيلية بتقديم إخطار قبل هدمها.
قال التل: "إنَّهم (القوات الإسرائيلية) يطلقون الطائرات بدون طيار في المنطقة، وهي التي مكَّنتهم من رؤية بناء المدرسة. وفي اليوم التالي، جاؤوا وأصدروا إخطاراً بالهد، ليتواصل الهدم الإسرائيلي للمدارس الفلسطينية ".
لكنهم لن يفقدوا الأمل في مواصلة دراستهم
وتستقبل قرية خلة الضبع، التي تقع على مسافة ساعة بالسيارة على الأقل إلى الغرب من زنوتا على طول طريق صخري يخترق الجبال، ثلاثة عشر طالباً في القرية، من الصف الأول وحتى الصف الرابع.
وقد هُدِمَت مدرستهم القديمة، التي كانت تتألف من مباني مؤقتة ومقطورات، خلال فصل الصيف، لذلك يدرس الأطفال الآن في منزل خاص.
جابر علي دبابشة (31 سنة) هو شقيق الشخص الذي يخصص منزله للطلاب. يقول دبابشة للموقع: "كان الأطفال محبطين للغاية. جاء الجنود بينما كان الأطفال هناك، وعندما أزالوا المدرسة، بدأ الأطفال في الصراخ والصياح والبكاء. بالنسبة لي، هذه مدينة ويجب أن تتوفر فيها جميع الخدمات من الألف إلى الياء، بما في ذلك المدارس، والعيادات الطبية، والبنية التحتية، والمياه، وما إلى ذلك. ومن حق أطفالنا أن يتعلموا، هذا شيء مهم لمستقبلهم، كي يؤسسوا حياةً خاصة بهم".
شيَّدت القرية مؤخراً مبنى مدرسي جديد، في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر/أيلول، بأموال جُمِعت من القرى المجاورة. وينتظر السكان افتتاح وزير التعليم الفلسطيني للمدرسة قبل البدء في ارتيادها. لكنَّه لم يحدد موعداً لافتتاحها بعد.
والسكان في الضفة الغربية يخشون أن يكون الأمر مجرد مسألة وقت
وبما أنَّ السلطات الإسرائيلية نادراً ما تمنح الفلسطينيين تصاريح، فإن القرى مثل خلة الضبع غالباً ما تلجأ إلى البناء أولاً، ثم تقديم الطلبات بعد ذلك، وخوض المعارك القضائية حولها.
قال يونس عرار، رئيس مكتب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان جنوب الضفة الغربية، والذي ساهم في بناء المدرسة: "نحن ننفذ أولاً، ثم نمضي في الإجراءات بعد ذلك. الأمر يستغرق وقتاً طويلاً، لذلك نحن نوفر الوقت، فالأمر قد يستغرق الأمر. وإذا صدر أمر هدم خلال هذا الوقت، يرفض السكان الاستسلام". قال دبابشة إنَّه إذا حدث هذا، "سنطعن في القرار، وسنتخذ كافة الإجراءات، ابتداءً من المحكمة الابتدائية وانتهاءً بالمحكمة العليا".
ولم تدلِ هيئة تنسيق الأنشطة الحكومية بتعليق محدد حول مستقبل مدرستيّ خلة الضبع وزنوتا، لكنَّها قالت بشكل عام إنَّه إذا جرى البناء "دون تصريح أو تخطيط، فإنَّ الإدارة المدنية ستعمل تبعاً للهيئة وتنفذ حكم القانون في ما يتعلق بجميع الإنشاءات غير القانونية".
وقال دبابشة إنَّ الأطفال بدون المدرسة سيضطرون للسير إلى مدرسة أخرى قريبة، وهو أمر لا يستيطع تخيله نظراً للمخاطر التي ينطوي عليها.
وقال: "في حال لم توجد مدرسة هنا، فلن نرسلهم إلى أي مكان، سنبقيهم هكذا دون تعليم لأنَّ الطريق إلى أقرب مدرسة مليء بالمستعمرين والجنود. إنَّه ليس آمناً على الإطلاق. كما أنَّه طريق وعر يبلغ طوله ثلاثة كيلومترات".
ولو تطلب الأمر قطع 10 كيلومترات يومياً
ووفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش، يسير حوالي 1700 طفل بصورة دورية مسافة خمسة كيلومترات أو أكثر في طريق الذهاب فقط للوصول إلى المدرسة بسبب حواجز الطرق أو نقص وسائل النقل في الضفة الغربية.
ووفقاً لتصريحات عمر شاكر الذي يعمل بهيومن رايتس ووتش، فإنَّ الأطفال الفلسطينيين، وخاصة في المنطقة "ج" والمناطق التي تحيط بها المستعمرات، كثيراً ما يتعرضون للمضايقات اللفظية والبدنية من المستعمرين الإسرائيليين.
وقال شاكر: "(السفر) تلك المسافات الطويلة أو المضايقات من المستعمرين دفعا العديد من الآباء إلى إخراج أطفالهم من المدارس، وهو الأمر الذي يؤثر بشكل خاص على الفتيات الصغيرات".
وإسرائيل لن توقف ضغوطها
في ظل كل هذا الغموض المحيط بالطلاب الفلسطينيين في الضفة الغربية، وخاصةً المنطقة "ج"، ينتاب الآباء وقيادات المنطقة شعوراً بالقلق من أن يتخلف أطفالهم عن الركب.
يقول التل: "بالطبع نحن قلقون. نريدهم أن يتلقوا تعليماً. نحاول أن نجعلهم يعتادون على الوضع هنا (في زنوتا)، ونعرف أنَّهم بمرور الوقت سينجحون في اللحاق بأقرانهم من طلاب وطالبات المدارس الفلسطينيين".
اتصلنا بوزير التربية والتعليم في السلطة الفلسطينية عدة مرات للتعليق على التحديات التي يواجهها أطفال المدارس الفلسطينية في المنطقة ج، لكنَّه لم يكن متاحاً لإجراء مقابلة معه.
يرى عرار، الذي يعمل في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، أنَّ توسُّع إسرائيل في البناء الاستيطاني غير القانوني هو السبب وراء الضغط الذي تمارسه إسرائيل على القرى الفلسطينية في الضفة الغربية من خلال عمليات هدم المدارس.
وأخذ عرار، وهو يقف في وسط قرية زنوتا، يشرح قائلاً: "الخطة هنا واضحة المعالم، يقع الخط الأخضر خلفنا بمسافة ستة كيلومترات، وهناك يظهر الخط الأخضر مرة أخرى، وهنا توجد منطقة صناعية (إسرائيلية) بينما تقع مستعمرة شيما هناك. هم يحاولون ربط كل هذه الأراضي بالأراضي التي احتلوها عام 1948. إنَّهم يريدون استئصال القرى (الفلسطينية) من هنا".
وشدَّد شاكر، الذي يعمل بهيومن رايتس ووتش، على أنَّ الهدم الإسرائيلي للمدارس الفلسطينية في الضفة الغربية تشكل انتهاكاً صارخاً للقوانين الدولية، وتحديداً لاتفاقية جنيف ونظام روما الأساسي، اللذين يحظران "التهجير القسري المتعمد للمدنيين في الأراضي المحتلة أو تهجير الناس بالإكراه".
يقول شاكر: "يوجد أيضاً نَص واضح في القانون الدولي يحظر التدخل في العملية التعليمية أو تدمير الممتلكات. والتبرير الذي تستخدمه إسرائيل لا يتعلق حتى بالأمن، كل ما يقولونه إنَّ هناك بعض التصاريح الناقصة".
وحتى الدول الأوروبية وقفت عاجزة أمام انتهاكات الاحتلال
وتُعَد الجهود الدولية لوقف هذه الانتهاكات عملية بطيئة، ولو أنَّ شاكر يرى أنَّ هناك بعض التقدم في قضية الهدم الإسرائيلي للمدارس الفلسطينية في السنوات الأخيرة.
وقال: "الدول الأوروبية التي تمول المباني في المنطقة ج تجاوزت مرحلة الشجب التقليدية وتطالب الآن بالتعويض عن أموالها التي أنفقتها على المنشآت التي دمرتها إسرائيل.. وهي خطوة إلى الأمام".
وقد بدأت المعركة القانونية لزنوتا: ففي الأسبوع الماضي، تقدَّمت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان بطلبٍ إلى محكمةٍ إسرائيلية لترخيص المدرسة، وهو ما من شأنه أن يجعلها معترفاً بها قانونياً بموجب القانون الإسرائيلي. لكنَّ عرار أقرَّ بأنَّ فرص النجاح في ذلك ضئيلة.
وقال بلهجة مَن لا يفاجئه الأمر: "نحن نعرف من واقع خبرتنا أنَّ.. (نسبة النجاح) معدومة".
في هذه الأثناء، تحت ظلال أنقاض الهدم الإسرائيلي للمدارس الفلسطينية وقماش المشمع الذي يغطي سقف المدرسة المبنية من كتل أسمنتية فوق التلة، تستمر الصفوف الدراسية في زنوتا، ويستعد السكان لإعادة بنائها مرة أخرى.