فشلت الولايات المتحدة وتركيا، الجمعة 3 أغسطس/آب 2018، في حل الخلاف الدبلوماسي بينهما حول القس الأميركي الموقوف في تركيا، ما يمهد لجولة جديدة من الصراع بين أردوغان وترمب.
اجتماع بين وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ونظيره التركي مولود جاويش أوغلو، وصل إلى حائط مسدود، بشأن إطلاق تركيا سراح القس أندرو برانسون، الذي تتهمه تركيا بالقيام بنشاطات لحساب رجل الدين عبد الله غولن إثر محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016.
أوغلو رد في تصريحات متلفزة من سنغافورة، حيث يشارك مع بومبيو في قمة لرابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان)، قائلاً: "نقول منذ البداية، إن لهجة التهديد والعقوبات لن تحقق نتيجة. وكررنا ذلك اليوم".
إذ كان بومبيو أعلن قبلها، أنه تم إبلاغ "الأتراك أن الوقت نفِد، والوقت قد حان لإعادة القس برانسون، وآمل أن يدركوا أن ذلك دليل على تصميمنا الكبير".
ومضى بومبيو يقول: "يجب أن يعود برانسون إلى بلاده، والأمر نفسه بالنسبة إلى جميع الأميركيين الذين تحتجزهم الحكومة التركية"، مضيفاً: "إنهم يحتجزونهم منذ فترة طويلة، وهم أبرياء".
تصريحاتٌ جاءت بعد يومين من فرض الولايات المتحدة عقوبات على وزيري العدل عبد الحميد غول، والداخلية سليمان سويلو التركيَّين، على خلفية القضية، ما حمل أنقرة على التلويح بإجراءات مماثلة.
إذ قالت الإدارة الأميركية إن الوزيرين لعبا دوراً مهماً في توقيف القس برانسون واحتجازه.
"انقلاب" ترمب على أردوغان بعد تلك القبضة
الاجتماع الذي ينذر بتصعيد دبلوماسي، تلا مشاحنات بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب وقادة أوروبا الغربية، في رحلته إلى مقر حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الشهر الماضي (يوليو/تموز 2018)؛ إذ صوَّر الاتحاد الأوروبي كـ"خصم"، لكنَّه في الوقت نفسه أظهر الكثير من الدفء للرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
ووفق إحدى الروايات، تبادل ترمب تحية "ضربة القبضة" مع نظيره التركي حين التقيا في بروكسل، مشيداً بأردوغان، باعتباره شخصاً "يقوم بالأمور على الطريقة الصحيحة".
لكن، يبدو أنَّ ترمب وأردوغان لم يعُودا على وفاقٍ يسمح بتبادل تحية ضربة القبضة بعد الآن. ففي الأربعاء 1 أغسطس/آب 2018، أعلن البيت الأبيض تحضيره لفرض عقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيَّين؛ "لدورهما في الاحتجاز المستمر للقس أندرو برانسون"، الذي يقول المسؤولون الأميركيون إنَّه اعتُقِل في 2016 بتهم زائفة، وفق ما نشرته صحيفة The Washington Post.
والعقوبات المالية مقابل إطلاق القس رسائل إنذار لسوق الأسهم
كانت خطوة العقوبات لافتة للنظر؛ نظراً إلى طبيعة العلاقات التاريخية الأميركية-التركية. ففي نهاية المطاف، البلدان حليفان في "الناتو"، وتركيا تستضيف قوات أميركية وقاعدة جوية استراتيجية جنوب البلاد. ومع أنَّ العقوبات رمزية في معظمها -فهي تستهدف أصول مسؤولَين تركيَّين اثنين فقط في الولايات المتحدة- فإنَّها بعثت برسائل مثيرة للقلق لسوق الأسهم التركية، وتسبَّبت في تراجع الليرة التركية المُثخَنة بالفعل إلى مستويات منخفضة جديدة.
فالقس جندي في لعبة جيوسياسية كبيرة
لكنَّها لم تكن مفاجئة تماماً. فبرانسون، الذي يعيش ويقوم بالتبشير في تركيا منذ أكثر من عقدين، بيدقٌ في لعبة جيوسياسية أوسع كثيراً، وينظر المسؤولون الأميركيون إليه باعتباره "رهينة". وكان اعتُقِل في خضم حملة التطهير الواسعة في تركيا، التي أعقبت محاولة فاشلة لإطاحة حكومة أردوغان في 2016. وتتهم السلطات التركية برانسون بالتواطؤ في الانقلاب الفاشل -مثله مثل عشرات الآلاف من الأتراك- وهو الاتهام الذي ينفيه.
وتولى نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، وهو مسيحي إنجيلي، التعامل مع قضية برانسون بشراسة، وركَّز على تديُّن القس. وهو التركيز الذي انتقده مراقبو الشأن التركي في الولايات المتحدة، الذين يريدون من البيت الأبيض إظهار مزيدٍ من الاهتمام بالسجناء السياسيين الآخرين في تركيا. لكنَّ ترمب أشاد بقبضة أردوغان الحديدية، وأشار طوال فترة توليه المنصب إلى الرئيس التركي باعتباره شخصاً قد يُنجِز الأعمال معه.
وغرَّد بنس على حسابه في "تويتر"، قائلاً: "فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية قاسية على تركيا، وستواصل ذلك إلى أن يطلق الرئيس أردوغان والحكومة التركية سراح القس برانسون، ويعيدان هذا الرجل المؤمن البريء إلى الولايات المتحدة".
The U.S. government imposed harsh economic sanctions on Turkey and will continue until President Erdogan and the Turkish government release Pastor Brunson and return this innocent man of faith to the U.S. https://t.co/2q1J9YsWfO
— Vice President Mike Pence (@VP) August 1, 2018
وتركيا تريد حلاً لمشكلة "بنك خلق"
وتشير الروايات المختلفة للجولات الدبلوماسية الأخيرة بين أنقرة وواشنطن إلى أنَّ أردوغان ومساعديه كانوا يأملون استخدام برانسون كورقة تفاوضية في معركة قانونية حول التهرُّب من العقوبات الأميركية على إيران من جانب بنك تركي تديره الحكومة، "بنك خلق".
وذكرت وكالة Bloomberg الأميركية: "حتى الأسبوع الماضي، كان الأميركيون يعتقدون أنَّ لديهم اتفاقاً من شأنه إعادة برانسون إلى الديار. فمقابل إطلاق سراح القس الإنجيلي… ستوصي الإدارة الأميركية بفرض غرامة مُترفِّقة على (بنك خلق). وعرضت الولايات المتحدة كذلك إعادة محمد هاكان عطا الله، المسؤول التنفيذي السابق بـ(بنك خلق) الذي أُدخِل السجن في الولايات المتحدة، إلى تركيا لقضاء باقي عقوبته".
أجبر البيت الأبيض أيضاً الحكومة الإسرائيلية على إطلاق سراح مواطنة تركية، إبرو أوزكان، اعتُقِلَت على خلفية اشتباه في تعاونها مع حركة حماس الإسلامية، وفق اتفاق مع الرئيس التركي يتضمَّن من جانبه إطلاق سراح برانسون.
لكن أميركا تراجعت عن كلمتها بشأن البنك
لكن وفقاً لوكالة Bloomberg، قُلب الاتفاق رأساً على عقب حين أصرَّ على "إسقاط" التحقيق المتعلِّق بـ"بنك خلق" تماماً. وأشارت صحيفة The Washington Post، في تقرير لها، إلى أنَّه "رغم إطلاق سراح إبرو وترحيلها إلى إسطنبول، وافقت المحكمة التركية التي تنظر قضية برانسون، الأسبوع الماضي، مباشرةً على السماح بمغادرته السجن إلى الإقامة الجبرية، في حين تتواصل محاكمته".
وأنقرة فقدت ثقتها بواشنطن
لدى البيت الأبيض حق للشعور بالغبن، لكن هكذا الحال بالنسبة للأتراك أيضاً، الذين يعتبرون أنَّه جرت التضحية بهم مرةً أخرى من جانب شريك لا يُعوَّل عليه في واشنطن. وكان الخطاب المناوئ سمةً لسنوات رئاسة أردوغان الأخيرة، وهو الخطاب الذي يُحفِّزه دعم الولايات المتحدة للفصائل الكردية في سوريا وتوفيرها مأوى لفتح الله غولن، رجل الدين المُسِنّ الذي يعيش بولاية بنسلفانيا الأميركية والذي تقول أنقرة إنَّه خلف محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016.
وظهرت مطالب باستبدال برانسون مقابل غولن ومصادرة مجمع ترمب
وانتقدت صحافة البلاد الموالية لأردوغان العقوبات الأميركية. وأعلن حليفٌ قوميّ للرئيس التركي أنَّ برانسون يجب أن يُبادل مع غولن نفسه، وهي العملية التي قد ترفضها واشنطن.
بل وصل الأمر إلى حد اقتراح حزب قومي مُعارِض أن تنتقم الحكومة بمصادرة مجمع برج ترمب في إسطنبول. من جانبها، توعَّدت وزارة الخارجية التركية الخميس 2 أغسطس/آب 2018، بـ"ردٍّ مماثل" للعقوبات، ولو أنَّه لم يتضح على الفور ما قد يترتب على ذلك.
كان هناك تفاؤل بأن يساعد صعود ترمب للرئاسة في إعادة إحياء العلاقات مع تركيا، لكنَّ المشرعِين ونخبة السياسة الخارجية في واشنطن فقدت قبولها لأردوغان على نحوٍ لا رجعة فيه.
وكتبت أسلي آيدنتاشباش، الباحثة بمجلس العلاقات الخارجية الأوروبي: "كانت أنقرة تجد في ترمب سابقاً أذناً صاغية متعاطفة مع مظالمها؛ إذ بدا الرئيس الأميركي من البداية متحمساً لإقامة علاقة جيدة مع رئيس تركيا القوي. وجاء ذلك متوافقاً مع الرؤية السائدة لمؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن، والتي تستمر في اعتقادها أنَّه من المهم إبقاء تركيا مرتبطةً بالغرب. لكنَّ خطاب أردوغان المناوئ للغرب، وسِجلّ حقوق الإنسان السيئ، وقرار شراء منظومات صواريخ S-400 المضادة للطائرات، كل ذلك جعل مهمة أصدقاء تركيا الأميركيِّين في الدفاع عن تحسين العلاقات أصعب".
ويبدو أن أميركا تخطط لضرب اقتصاد تركيا المتعثر
وكتبت أماندا سلوت، الباحثة بمعهد بروكينغز، أنَّه الآن "نفِد الصبر الاستراتيجي لإدارة ترمب والكونغرس؛ وهما مستعدان الآن لتغيير نهجيهما واتخاذ خطوات تهدف إلى إلحاق ألمٍ اقتصادي بحليفٍ بالناتو منذ 66 عاماً. ولا يزال هناك وقت لحلٍ دبلوماسي إذا عاد كلا الطرفين للمباحثات الهادئة بدلاً من الخطاب الغاضب".
وهذه المباحثات الهادئة قد تأتي عاجلاً وليس آجلاً، وذلك بالنظر إلى عملة تركيا المتعثرة؛ إذ قال وولفانغو بيتشولي، من شركة Teneo Intelligence الاستشارية، لصحيفة The Financial Times: "لا يمكن لأردوغان تحمُّل أزمة شاملة مع الولايات المتحدة بالنظر إلى هشاشة الاقتصاد التركي. يمكن استخدام العقوبات الأميركية في المدى القصير لحشد الدعم للرئيس. لكن أثر الواقع الاقتصادي سيبدأ في الظهور، ويجبر أردوغان على إعادة التفكير في موقفه المتحدي".