على مرِّ أشهر، وضع مسؤولون بريطانيون خططاً لضمان أنَّ الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أحد عاشقي المساكن المزخرفة، سيشاهد قلعةً أو اثنتين في زيارته إلى إنكلترا بعد اجتماع حلف شمال الأطلسي.
ويعرف البريطانيون كذلك أنَّه بالإضافة إلى أنَّ ترمب يحب كل الأشياء المطلية بالذهب، فإنَّه من أشد المُعجَبين بونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني في أثناء الحرب العالمية الثانية، ومنذ أن أصبح رئيساً، يحاول التشبُّه بتشرشل.
لذا فليس من قبيل الصدفة أنَّ ترمب بدأ زيارته إلى إنكلترا مساء أمس الخميس 12 يوليو/تموز بتناول العشاء في قصر بلينهايم، مسقط رأس تشرشل ومنزل أسرته الواقع في مقاطعة أوكسفوردشير الإنكليزية.
ولم تستغرق رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي سوى بضع ساعاتٍ لتحفيز ترمب للخوض في قضايا الدفاع والتجارة، وتذكيره بقيمة العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وبريطانيا، حين كان في لندن في زيارةٍ سريعة جداً قضى معظمها في الطائرة المروحية.
البريطانيون سعوا لإبهار ترمب بالذهب وتشرشل
وبالترحيب بترمب في بلينهايم، كانت ماي وغيرها من كبار المسؤولين يبذلون كلَّ ما بوسعهم لإبهار رئيسٍ يعرفون أنَّه يحب الأشياء المُبهرة. ولكن قبل أن تنتهي الأمسية، انتقد ترمب في لقاءٍ مع صحيفة The Sun البريطانية، الطريقة التي تعاملت بها ماي مع حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست).
بدأت الأمسية بحفلٍ أدَّى فيه حراسٌ إسكتلنديون وأيرلنديون وويلزيون ترنيمة Amazing Grace. وجاء عازفو الأبواق الأربعة من فرقة Household Cavalry، التي عزفت في عرس الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل. وكانوا يرتدون عباءاتٍ من الذهب الخالص لا تُرتَدى إلَّا في وجود الملكة أو رئيس إحدى الدول.
تضمَّنت قائمة العشاء سمك السلمون الإسكتلندي وشرائح من لحم حيوان هيرفورد الإنكليزي، ثم الفراولة والآيس كريم بالقشدة المُخثَّرة.
وفي مكالمةٍ هاتفية مع صحفيين قبل جولة إنكلترا المُدرَجة ضمن الزيارة، قال كيم داروتش السفير البريطاني لدى الولايات المتحدة إنَّ المسؤولين أخذوا في الاعتبار تعظيم ترمب الشديد لتشرشل في أثناء وضع ترتيبات الزيارة.
فترمب يحتفظ بتمثال لتشرشل في مكتبه ومن أشد المعجبين بفيلمه
وقال داروتش: "أردنا أن نفعل شيئاً مختلفاً للرئيس. نعرف أنَّه من عشاق ونستون تشرشل. فهو من أشدِّ المعجبين بفيلم Darkest Hour، لذا اعتقدنا أنَّ ترتيب عشاء له في قصر بلينهايم سيكون أمراً رائعاً".
منح ترمب -الذي يحب الرجال الأقوياء- تشرشل أهميةً كبرى بعد توليه الرئاسة الأميركية. ففي العام الماضي 2017، أعاد إلى المكتب البيضاوي تمثالاً لتشرشل كان قد نُقِل منه في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
فضلاً عن أنَّ التجهُّم الذي يستخدمه ترمب في بعض الصور الرسمية وعلى الساحة العالمية هو نتاج محاولاتٍ للتشبُّه بتشرشل.
وحين كان تشرشل الحقيقي يُرسَم في بعض أوقات غمِّه، كان يبدو مثل كلب بولدوغ تعيس ذي عينين نصف مغمضتين وشفة سفلية بارزة، وفق ما وصفته صحيفة The New York Times الأميركية.
وكان يود أن يشاهد "غرفة الحرب" السرية لتشرشل في الحرب العالمية
وفي الشتاء الماضي، بينما كان ترمب يتأقلم على منصب الرئاسة، استضاف في البيت الأبيض عرضاً لفيلم Darkest Hour، الذي يروِّج لمعاناة تشرشل غير العادية حين كان يشهد بريطانيا في أثناء حرب مُدمِّرة ويواجه واحداً من أكثر الوحوش تدميراً في التاريخ، ويبدو أنَّ الفيلم قد طَرَقَ وتراً حسَّاساً لدى الرئيس الأميركي. إذ قال ترمب سابقاً إنَّه عادة ما يواجه مشكلة في الجلوس أثناء الأفلام، وينهض ويتركها إذا كان غير مهتم بها.
لكنَّ فيلم Darkest Hour ظلَّ محفوراً في ذهن ترمب وهو يُخطَّط لزيارة بريطانيا. وقال مسؤولٌ بريطاني يوم أمس إنَّ ترمب قال لماي في مكالمةٍ هاتفية جمعتهما في الشتاء الماضي إنَّها يمكن أن تكون تشرشل هذا الجيل. وجاء كلام المسؤول -الذي رفض الكشف عن هويته لأنَّه لا يملك تصريحاً للتحدُّث عن المكالمة- تأكيداً لتفصيلةٍ ذُكِرت للمرة الأولى في صحيفة The Telegraph البريطانية.
وقال مسؤولٌ شارك في التخطيط للزيارة إنَّ الترتيبات شهدت نقاشاً حول إمكانية اصطحاب ترمب في زيارةٍ إلى القبو السري المدفون تحت الأرض في لندن الذي استخدمه تشرشل كغرفة حرب في أثناء الحرب العالمية الثانية. ولكن في نهاية المطاف لم تُدرج هذه المخططات ضمن جدول الزيارة النهائي.
والإعجاب به يُجمع عليه جمهوريو أميركا وليس فقط ترمب
جديرٌ بالذكر أنَّ ترمب ليس الجمهوري الوحيد الذي يُعجَب بتشرشل؛ إذ نظَّم رئيس مجلس النواب السابق جون بينر، وخليفته الحالي بول رايان بتنظيم حفلات تكريمٍ لتشرشل في مبنى الكابيتول. وهناك أشخاصٌ مُحافظون آخرون مثل جيري فالويل جونيور ومايكل سافاغ ومايك هاكابي شبَّهوا ترمب وتشرشل.
لكن سياسة ترمب الانفصالية تتعارض مع نهج مثله الأعلى
ولكن عندما يتعلق الأمر بالمُرشَّحين للحصول على لقب تشرشل الجيل الحالي، يقول مؤرخون إنَّ ترمب ليس في القائمة، لا سيما بعد أدائه المثير للانقسام في اجتماع حلف شمال الأطلسي الذي شهده الأسبوع الجاري.
فبالإضافة إلى أنَّ ترمب قضى يومين في ذمِّ حلفائه، ألقى الضوء على اجتماعه المُقرَّر إجراؤه في فنلندا يوم الإثنين المقبل 16 يوليو/تموز مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، الذي قال ترمب إنَّه لا يعتبره عدواً بل منافساً.
وقال ماثيو داليك، الأستاذ المساعد في كلية الإدارة السياسية بجامعة جورج واشنطن الذي يدرس التاريخ السياسي، في لقاءٍ صحفي: "على عكس ترمب، كان تشرشل يُدرك أنَّ القيادة السياسية في أوقات الأزمات تتطلَّب درجةً من الوحدة الوطنية وبناء التحالفات، وهذا ما يُسمَّى بفكرة الأمن المشترك".
وأضاف: "بل يبدو ترمب عازماً بشدة على فعل كل ما بوسعه لإلغاء إرث تشرشل".
والعيون تنصب على لقائه بالملكة التي كان تشرشل نفسه تحت أمرتها
جديرٌ بالذكر أنَّ ترمب سيلتقي ماي اليوم الجمعة 13 يوليو/تموز خارج لندن، ثم يذهب بالطائرة إلى قلعة وندسور لاحتساء الشاي مع الملكة إليزابيث الثانية للمرة الأولى منذ انتخابه.
لكن هذه الزيارة تتضمن العديد من قواعد الإتيكيت التي تفرض على ترمب مثلاً انتظار الملكة كي تمد يدها للسلام وليس العكس، على أن يكون سلاماً هادئاً وليس كسلامه القوي، وبأنه يتوجب عليه وزوجته ميلانيا انتظارها أن تجلس قبل أن يجلسا.
ويشير خبير الإتيكيت البريطاني وليام هانسون أنه يُعرف عن الملكة حبها تقديم الشاي لنفسها ولضيوفها، لذا على ترمب وزوجته انتظار أن تصب الملكة فنجان الشاي متى تشاء لا أن يبادرا إلى ذلك.
وأوضح هانسون أن قواعد الإتيكيت تفرض على ترمب أن يناديها للمرة الأولى بـ"جلالة الملكة" ثم يمكن أن ينتقل إلى استخدام كلمة سيدتي أو "Maam". أما الانحناءة فغير إلزامية لأنه ليس مواطناً من رعيتها.
وبعد انتهاء زيارة الملكة، سيقضي ترمب، الذي لا يحظى بشعبيةٍ كبيرة في لندن، بعض الوقت على الأرض علماً أنه كثير الانتقاد لمحافظ المدينة صديق خان، قبل أن يسافر بالطائرة إلى إحدى ممتلكاته الفخمة الأخرى: ملعب الغولف الخاص به في إسكتلندا.