نحن الآن في 12 يوليو/تموز 1995، ببلدية "كلادان" التابعة لمنطقة "رافني" في البوسنة، على بُعد 10 كيلومترات من سربرنيتسا، وتحديداً في وادي نهر "دريناتشا" بالطريق بين "كلادان" و"فلاسينيتسا".
"البوسنة والهرسك" دولة صغيرة ربما لم يسمع بها أحد قبل عام 1993، وبفضل الحرب صار الجميع يعرف أن هناك أناساً يتعرضون لحصار خانق لم يترك لهم كسرة خبز، عمليات قتل معدة مسبقاً، وإبادات جماعية متتالية ولا أحد يتحرك.
القناصة منتشرون على قمم التلال الخضراء الجميلة، قصفٌ مدفعيٌّ عنيفٌ لا يُبقي ولا يذر، يستهدف العاصمة "سراييفو"، ولا مفر للمدنيين.
"سربرنيتسا" أو "أرض الفضة"، لم تكن الإبادةَ الجماعية الوحيدة التي تعرض لها مسلمو البوسنة، سبقها الكثير على مدار 3 سنوات ونصف السنة هي مدة الحرب الدامية، لكنها حظيت بالقدر الأكبر من الشهرة.
توثق الصور آلام النزوح في زمن الحرب قبل 25 عاماً، إذ قرر نشرها صحافيٌّ بوسني ومصور حروب، والذي كان يعمل في الجيش البوسني الذي تشكَّل في أعقاب اعتداء قوات صرب البوسنة والقوات الصربية على دولة البوسنة والهرسك حديثة الاستقلال حينها.
"التُقطت هذه الصور خلال الفترة من 12 حتى 17 من يوليو/تموز 1995 بعد سقوط سربرنيتسا مباشرة"، يقول دراكوفيتش.
شمس الدين دراكوفيتش كان في لواء يدعى "بودرينا" الأول الإسلامي لحظة وصول هؤلاء النازحين إلى الأراضي المحررة البوسنية، لديه الكثير من القصص يرويها عن "سربرنيتسا"، لكن اللغة لم تسعفه فهو لا يتحدث سوى لغته الأم البوسنية.
فقد المصور البوسني عدداً كبيراً من أصدقائه ومعارفه وجيرانه، وبعد مرور كل هذه السنوات طلب نشر الصور، ويقول: "من دون نشر الصور وتوثيقها ستكون كأنها لم تكن".
لم يفكر المصور البوسني في أن ينشر الصور بأي وسيلة إعلامية، ويعلق على هذا الأمر قائلاً: "لا أعرف السبب!".
قوات صرب البوسنة، المدعومة من القوات الصربية، فرضت حصاراً خانقاً على المناطق الموجود بها البوشناق، الجوع طال كل إنسان خلال فترة الحرب، سواء كان مدنياً أو عسكرياً.
يقول "دراكوفيتش" إن لواء "بودرينا" الأول الإسلامي لم يكن لديه إمكانات لإطعام الجيش بشكل جيد، فما بالك بشراء معدات تصوير نعمل بها!
ويتابع: "كنا نتصرف بما هو متوافر وبكل شيء متاح، وكانت الأولوية في ذلك الوقت لتصوير وعمل الأفلام".
سألناه كيف احتفظ بالصور طوال هذه السنوات؟
أجاب: "لحسن الحظ كان لي أخ يعمل في ألمانيا، وبعد الحرب فتحت محلاً للتصوير بمدينة كلادن؛ من أجل لقمة العيش. وعندما بدأت تقنية حفظ الصور بطريقة الديجيتال منذ سنوات، قمت بحفظ الصور في اللحظة الأخيرة قبل أن أنساها، وبذلت جهداً كبيراً في ترميم هذه الصور والحفاظ عليها؛ لأنها كانت بدأت تتلف بفعل عوامل الزمن.
وحتى اليوم لم أفكر في نشر هذه الصور".
يقول "دراكوفيتش": "لقد كنت منتسباً إلى جيش البوسنة والهرسك وحاربت من أجل وطني كجندي، ولكني لم أكن في منطقة سربرنيتسا في أثناء الحرب التي بدأت عام 93."
واستدرك: "لكنني قضيت وقتاً لا بأس به أثناء الحرب في عملي كصحفي ومصور في اللواء "بودرينا" الأول الإسلامي لذلك سنحت لي الفرصة أن أصور وأسجل اللاجئين من سربرنيتسا الذين خرجوا إلى "كلادان" القريبة من مدينة توزلا.
وفيما يتعلق بهوية الضحايا، وما إذا كان يعرف اسم أحدهم أو قصته أو أي معلومات تتعلق بهؤلاء النازحين، أجاب "دراكوفيتش": "لم يكن عندي أي تواصل بالمعنى مع اللاجئين؛ لذلك ليس عندي أية تفاصيل شخصية عنهم ولا عن أسمائهم ولا عن حياتهم أو أقدراهم أو مصائرهم التي آلوا إليها".
أما عن عمله الحالي، فيقول "دراكوفيتش": "ما زلت مصوراً في الأماكن العامة وبالأعراس وحفلات عيد الميلاد وأعيش في فوغوشتشا بالقرب من سراييفو".
ما عمّق من الفاجعة كان وقوع سربرنيتسا في نطاق قوات حفظ السلام، ففي أبريل/نيسان 1993، أي قبل أكثر من عامين من المذبحة، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قراره رقم 819 والذي يطالب "كل الأطراف المعنية بالتعامل مع منطقة سربرنيتسا وما حولها على أنها منطقة آمنة يجب أن تبقى بعيدة عن أي هجمات مسلحة أو أي عمل عدائي آخر".
وبعد ذلك وصلت مجموعات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وتم التوصل في مايو من نفس العام بإخلاء سربرنيتسا من الأسلحة، وهو ما وافق عليه سفر خليلوفيتش، الجنرال البوسني، وراتكو ملاديتش، القائد في الجيش الصربي، والذي عُرف لاحقًا في الإعلام الغربي باسم جزار البوسنة.
بمقتضى هذا الاتفاق كان على المسلحين البوشناق (شعب البوسنة) أن يسلموا أسلحتهم لقوات الأمم المتحدة، وأن ينسحب الصرب من هذه المناطق بقيت عدة كتائب من الجيش البوسني غير مسلحة وغير منظمة في المنطقة، فيما رفضت القوات الصربية إخلاء المناطق المحيطة من الأسلحة أو تسليم معداتها.
بدأ الوضع في الاختلاف في أوائل العام 1995، فقد أصبح وصول قوافل الإمداد والمساعدة أكثر صعوبة من ذي قبل، وهو ما أدى لحالة من التدهور بشكل عام، ظهرت في انتشار الجريمة وانعدام القانون وزيادة العنف، أما جنود الكتيبة الهولندية التي كانت مسئولة عن حماية المنطقة فقد تم تقليص عددهم عبر عدم السماح لمن حصلوا على أجازات بالعودة مرة أخرى، وانخفض عددهم من 600 إلى 400 جندي، كما أنهم أُجبروا على القيام بدورياتهم في المنطقة سيرًا على الأقدام، بسبب انخفاض حصصهم من الطعام والوقود والذخيرة، وفي مارس وأبريل من نفس العام، تزايدت أعداد الجنود الصرب بالقرب من حدود المنطقة.
في مارس 1995 أصدر رئيس جمهورية صربيا "رادوفان كارادزيتش" توجيهاته باعتماد استراتيجية طويلة الأمد لجيش صرب البوسنة، الأوامر التي عرفت باسم "التوجيه 7" تنص أن على جيش الصرب أن "يستكمل الفصل الكامل لسربرنيتسا، وأن يمنع التواصل بين الأفراد بين سربرنيتسا وخارجها، وأن يخلق وضعًا لا يُحتمل من انعدام الأمن بشكل كامل وتهديد حياة سكان سربرنيتسا وزرع اليأس في نفوسهم من البقاء على قيد الحياة بالأساس".
وبحلول منتصف 1995 كان الوضع الإنساني للمدنيين والعسكريين من مسلمي البوسنة قد وصل إلى حد كارثي، وصدرت مناشدات بإعادة فتح ممر إنساني للقطاع المحاصر، وعندما فشل ذلك، بدأ المسلمون في البوسنة في الموت جوعًا!
يوم الجمعة، السابع من يوليو 1995، ذكر رئيس بلدية سربرنيتسا أن 8 من السكان قد ماتوا جوعًا.
في 9 يوليو، وبدافع من نجاحاتهم المستمرة، ومع اختفاء رد الفعل الدولي، أصدر رئيس جمهورية الصرب أوامره لـ 1500 جندي صربي بالاستيلاء على سربرنيتسا.
في صباح 10 يوليو، كان الوضع شديد التوتر في سربرنيتسا، السكان يزدحمون في الشوارع، وقوات الحماية الهولندية لم تفعل شيئًا سوى إطلاق طلقات تحذيرية فوق رؤوس الصرب المهاجمين، ولم تطلق أي قذيفة أو طلقة مباشرة تجاه أي من الوحدات الصربية.
قوات الناتو أوقفت عمليات قصفها الجوي بسبب تهديدات الصرب بقتل القوات الهولندية والرهائن الفرنسيين، وقد كان الصرب قد اختطفوا طيارين فرنسيين، وهو ما كان يتفاوض عليه ملاديتش مع جانفيير سابقًا.
أغلب الصور لنساء وأطفال وكبار السن، تظهر على وجوههم علامات الخوف والقلق من مصير مجهول لزوجٍ وأخ وابن وأب.
النساء يحملن على ظهورهن الصغارَ والقليل من متاعهن، وما قد يُبقيهن على قيد الحياة.
وجوه متعبة.. وعيون زائغة.. ونفوس مضطربة.. وكل ما يهم هو لقاء "الحبيب" الذي أُبعد عن أهله ونُقل إلى مناطق بعيدة، قالوا حينها إنهم سيذهبون لمهام قتالية، والحقيقة هي أنهم ذاهبون لأماكن الإعدامات.
كانت "هولوكوست" بحقِّ رجال وفتيان البوسنة بكل ما للكلمة من معنى، لكنها بحق المسلمين هذه المرة.
صرب البوسنة قرروا ألا يبقى في سربرنيتسا أحد من البوشناق وضمها إلى مناطق نفوذهم.
أكثر من 8000 رجل قُتلوا خلال 3 أيام، وهم معصوبو الأعين ومكتوفو الأيدي، بعد أن نزعوا عنهم أوراقهم الرسمية وأمتعتهم وأي شيء يدل على هويتهم.
ودفن الصرب الضحايا في مقابر جماعية بعد أن مزقوا الجثامين وحوَّلوهم إلى أشلاء، فبات التعرف عليهم من المستحيلات.
بفضل تحليل DNA، تم التعرف على هوية أكثر من 6 آلاف ضحية، والباقي في عداد المفقودين.
في 11 يوليو/تموز من كل عام، يتم دفن رفات كل من تم التعرف عليهم في النصب التذكاري لضحايا الإبادة الجماعية الذين قضوا في سربرنيتسا في مشهد مهيب، والقصة لم تنتهِ بعد.