في أوائل العام الماضي، تظاهر نحو 150 ألف شخص في مدينة برشلونة الإسبانية، لمطالبة الحكومة الإسبانية بالسماح لمزيد من اللاجئين بدخول البلاد. وبعد ذلك بقليل، بدأت تظهر على جدران المدينة عباراتٌ مثل: "أيها السياح عودوا إلى بلادكم، أهلاً باللاجئين". ثمّ سرعان ما اجتاحت المدينة تظاهراتٌ حملت شعارات مثل "برشلونة ليست للبيع"، و"لن نطرد".
وذكرت صحيفة The Guardian البريطانية، أنه في الصيف الماضي انتشر بعدة مدن أوروبية ما أطلقت عليه وسائل الإعلام الإسبانية "فوبيا السياحة"، إذ نُظِّمت احتجاجاتٌ واتُخذت تدابير في مُدن البندقية وروما وأمستردام وفلورنسا وبرلين ولشبونة وبالما دي مايوركا وأماكن أخرى في أوروبا، ضد غزو السُّياح.
وتضيف الصحيفة في تقرير نشرته الإثنين، 25 يونيو/حزيران 2018، أنه على النقيض من الكثيرين، وبنفس قدر رفض برشلونة السياح، انتشرت بها حملةٌ للترحيب بالمزيد من اللاجئين. فعندما وردت أخبار قبل أسبوعين بانجراف سفينة إنقاذ تحمل 629 مهاجراً في البحر المتوسط، كان عمدة المدينة أدا كولاو من أوائل الذين قدموا ملاذاً آمناً لهم.
وتتساءل الصحيفة البريطانية، هل حقاً تُفضل برشلونة استقبال آلاف المهاجرين المفلسين بدلاً من ملايين السياح، الذين أنفقوا العام الماضي حوالي 35 مليار دولار في المدينة؟ يبدو أن الإجابة المختصرة هي نعم. إذ تزداد نظرة الناس للسياحة لا الهجرة، باعتبارها تهديداً لهوية المدينة نفسها، وذلك رغم ارتفاع أعداد كليهما بشكل كبير في العقود الأخيرة.
تضاعف عدد المهاجرين في برشلونة
ففي عام 2000، مثَّل الأجانب أقل من 2% من السكان، وبعد مرور خمس سنوات فقط، ارتفعت النسبة إلى 15% (266 ألف). وفي عام 2018، أصبحت النسبة رسمياً 18%، مع أنَّ لولا لوبيز، مفوض شؤون الدمج والهجرة بالمدينة يقول إنَّ الرقم الحقيقي أقرب إلى 30%.
لقد غيّر تدفق المقيمين الجدد وجه المدينة جذرياً، لكن برشلونة لم تشهد ولو مظاهرة واحدة مناهضة للمهاجرين على أي مستوى، فضلاً عن أنَّ الهجرة ليست قضية في الانتخابات المحلية.
ووفقاً لبحث أجراه باولو جياكاريا الباحث المتخصص في علم اجتماع بجامعة تورين، فإنَّ حالة برشلونة "تشهد علاقة بين نوعين متناقضين من الحراك: السياحة الشمالية، والهجرة الجنوبية. ويخلق ذلك شعوراً مضطرباً إزاء نوع الحراك المرغوب والمرفوض".
لقد غيَّرت الهجرة وجه المدينة، لكنَّ السياحة تزعزع استقرارها، وحتى العاملون في هذا المجال يتفقون على أنَّ الوضع لا يمكن أن يستمر على هذا المنوال. ففي عام 1990، استقبلت المدينة 1.7 مليون سائح، وفي العام الماضي وصل الرقم إلى 32 مليون سائح، أي ما يقرب من 20 ضعفاً للسكان المقيمين بالمدينة. ويتسبب حجم الزوار الهائل في رفع سعر الإيجارات، ما يدفع السكان إلى الخروج من الأحياء، ويستحوذ السياح على الفضاء العام.
ذلك خلق تنوعاً إيجابياً "يُثري المدينة"
وقالت ناتاليا مارتينيز، عضوة أحد المجالس المحلية في حي ثيوتات فيا، الذي يُمثِّل الجزءَ القديم من برشلونة، والذي كان موقعاً مهماً للهجرة والسياحة: "نرى أن للهجرة أثراً إيجابياً، فقد اندمج الناس جيداً، ولم تشوه هوية المدينة بل أثرتها".
وقال زميلها سانتي إيبارا، إنَّ التنوع الذي تأتي به الهجرة يُثري المدينة، لكنَّ السياحة لا تسهم إسهاماً إيجابياً. وأضاف أنَّ "السياحة تأخذ شيئاً من الأحياء، وتجعلها أكثر ابتذالاً، مثلما تفعل في أي مكان آخر".
وكما هي الحال في العاصمة البريطانية لندن، فإنَّ عدد سكان برشلونة الأصليين صغيرٌ للغاية، لا سيما في أحياء الطبقة العاملة، التي اتخذها معظم المهاجرين في موجة الهجرة الأخيرة موطناً لهم. وتأتي أكبر ثلاث فئات من المهاجرين من أوروبا وأميركا اللاتينية وشمال إفريقيا، لا سيما المغرب، بالإضافة إلى أعداد من الصينيين والباكستانيين.
ورغم ذلك، يرى لوبيز أنَّ لبرشلونة هويتها الخاصة المميزة عن كاتالونيا أو إسبانيا. وقال لوبيز: "لقد وجدنا أن الأطفال المولودين هنا من أزواج مهاجرين أو مختلطين يميلون إلى تعريف أنفسهم باعتبارهم من برشلونة، وليس أي مكان آخر".
لكن اللغة تظل عقبة رئيسية أمام اندماجهم
وتظل اللغة هي العقبة الرئيسية أمام الاندماج، خاصةً أن التعليم المدرسي باللغة الكاتالونية، التي لا يتحدث بها أي من المهاجرين. وقالت ماجدة مارتي -مديرة إحدى المدارس الابتدائية في ثيوتات فيا حيث أكثر من نصف الأطفال أجانب- إنَّ الطعام بالإضافة إلى عقبة اللغة يمثل مشكلة أيضاً. إذ يطلب مجلس المدينة من المدرسة توفير وجبة حلال، إذا طلبت ذلك عائلة واحدة فقط، ويعد ذلك أمراً صعباً، ليس فقط من الناحية اللوجستية ولكن أيديولوجياً أيضاً، نظراً إلى حياد المدرسة الديني.
لكنَّها استدركت قائلةً: "بالنسبة لي، فكل الأطفال سواءٌ بغض النظر عن خلفياتهم، الشيء المهم هو استيعاب الأطفال وعائلاتهم. ويكمن التغيير الإيجابي الحقيقي في المعلمين الجدد، الذين لا يرون في الهجرة مشكلةً. فهم ينظرون إلى التنوع بإيجابية، وأنا أشاركهم وجهة النظر ذاتها أيضاً".
الحي الذي تظهر فيه الهجرة بجلاء هو "إل رافال"، الذي يقع على الجانب الآخر من شارع لارامبلا بحي ثيوتات فيلا، وقد اشتهر منذ فترة طويلة بالمخدرات والدعارة، حتى عُرف منذ وقت قريب بالحي الصيني، رغم خلوه من الصينيين، وهذا انعكاس لإيثاره الآخرين. وفي الوقت الحاضر، يُلقَّب برافالستان نظراً إلى وجود عددٍ كبير من الباكستانيين فيه.
وقد عقد أوسكار إستيبان -مدير مؤسسة Tot Raval التي تضم مجموعة واسعة من المنظمات التطوعية والقضائية في المنطقة- مقارنةً بين إل رافال وحي تاور هامليتس في شرقي لندن، فكلاهما حي مينائي من الناحية التاريخية، وكانا على مرِّ قرون بوابة دخول مدينتيهما. (وبالمثل، فإن متوسط العمر في إل رافال أقل بخمس إلى ست سنوات مما هو عليه في المناطق الأكثر صحة بالمدينة).
وقال إستيبان: "إل رافال له هويته الخاصة وطريقته الخاصة في التعامل مع الأمور. كل شيء يبدأ هنا، العديد من الظواهر الاجتماعية تظهر هنا أولاً ثم تنتشر، نحن مختبر اجتماعي. ثمة مستوى هائل للهجرة هنا، لكن على مستوى الحياة اليومية لا يوجد صراع، ولا حتى بعد الهجوم الإرهابي الذي وقع في الصيف الماضي".
ورغم الحادث الإرهابي فإن الناس اتحدوا فيما بينهم
يُذكَر أنَّ 13 شخصاً لقوا مصرعهم وأصيب أكثر من 130 آخرين، في الهجوم الذي وقع في شارع لارامبلا، في أغسطس/آب من العام الماضي 2017. وقال محمد حلحول عضو المجلس الإسلامي بكاتالونيا، إنَّ الناس "صُدموا بعد الحادث واجتاحهم الغضب، لكنَّهم اتحدوا لإدانة ذلك الفعل".
وأرجع حلحول -الذي أتى إلى برشلونة قادماً من المغرب في عام 1990- عدم وجود رد فعل عنيف ضد الجالية المسلمة، إلى وجود توافق سياسي واسع إزاء الهجرة، وشبكة قوية من الجمعيات المجتمعية في المدينة. وقال: "هناك حالات فردية، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعنصرية أو الإسلاموفوبيا، فليست لدينا مشكلة من هذا النوع، ولا نقلق من مثل هذه الأمور".
بالطبع توجد عنصرية في برشلونة بقدر ما يوجد في أي مدينة أخرى، ولكن لم يُسمح لها بالتفاقم. فمنذ عام 2010، اتبع المجلس سياسة تضم العديد من الثقافات (على عكس الاستيعاب) للاعتراف بالاختلافات الثقافية والدينية التي حظيت بتأييد واسع النطاق، ولم يصبح المهاجرون كبش فداء رغم سنوات المعاناة الاقتصادية.
لكن تعاملهم مع السياح كان مخالفاً
ورغم نجاة المهاجرين من أي رد فعل عنيف، فشل السياح في ذلك، مع أنَّ السياحة تمثل نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي لبرشلونة، وتعتمد وظائف العديد من المواطنين عليها.
وقال إستيبان: "لا شك أن الكثير من الناس يعتمدون على السياحة لكسب رزقهم، ولكن لا يمكن أن تجري كل الأمور على هذا النحو، يجب وضع حدود واضحة. نحن نفقد الكثير من هوية مركز المدينة والميناء والتقاليد نفسها التي تجذب الزوار".
وحسب صحيفة The Guardian البريطانية، فبعد مرور 20 عاماً عذَّبت فيها سلطات المدينة برشلونة إرضاءً للسياح، تحرك المجلس المنتخب في عام 2015 ليضع احتياجات المواطنين فوق احتياجات السياح، وفَرَض حظراً على بناء فنادق جديدة، وبذل جهوداً لاحتواء انتشار الشقق السياحية، ووضع خطة حضرية لثيوتات فيا، تعطي التجارة المحلية أولويةً على الشركات التي تستهدف السياح.
وقال ألبرت ريشيو، المتحدث باسم اتحاد جمعيات سكان برشلونة، الذي يمثل نحو 100 هيئة، إنَّ الارتفاع الضخم في أسعار العطلات السياحية القصيرة في المدينة كان له تأثير كبير على الإسكان، إذ يختار الملاك التأجير للسياح لجني أرباح بسهولة، بدلاً من التأجير للسكان المحليين، ما أدى إلى زيادة الإيجارات.
وتشهد الخدمات العامة ضغطاً كذلك. وقال ريشيو: "لا يستطيع الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من المنطقة السياحية الشهيرة في بارك غويل ركوب الحافلة لأنها تمتلئ بالسياح. وقد قُضِي على العديد من المشروعات التقليدية التي ظلَّت موجودة على مرِّ أكثر من 100 عام".
برشلونة ليست وحدها من تعاني من السياحة
وليست برشلونة بمفردها في معركتها لحماية هويتها، فالعديد من المدن الأوروبية تجتاحها معدلات السياحة القافزة بشدة، التي تغذيها الرحلات الجوية الرخيصة وشركات مثل Airbnb. ووفقاً لاتحاد وكلاء السفر البريطانيين، فإن نسبة العطلات السياحية القصيرة في المدن بلغت 53% من إجمالي العطلات البريطانية في عام 2017، في حين أنَّ نسبة العطلات الشاطئية بلغت 41% فقط.
وقد وصل النفور إلى ذروته في مدينة البندقية الإيطالية، التي أقامت في الشهر الماضي مايو/أيار، حواجز؛ سعياً للسيطرة على الحشود السياحية. وقالت باتريزيا ريغانتي، التي تُدرس الهندسة المعمارية في جامعة نوتنغهام ترينت، وقد أجرت بحثاً على إثر الهجرة والسياحة في مدينتي أمستردام والبندقية: "يكره سكان البندقية السياح، وخاصة الجولات البحرية، فهي أسوأ أنواع السياحة. إنَّهم يلوثون المدينة ويستهلكونها كما لو كانوا يأكلون شطيرة، وهو ما نُطلق عليه بالإيطالية ما معناه (خُذ قضمة واهرب)".
وقالت باتريزيا: "كما هي الحال في برشلونة، فإن وجود السياح في البندقية والمنافسة على الخدمات يفوق بكثير أي مشكلات محتملة تتعلق بالمهاجرين الذين لا يستطيعون تحمُّل نفقات العيش هناك بسبب السياحة جزئياً".
وفي العاصمة البرتغالية لشبونة، يشعر الناس أيضاً بالتأثير السلبي للسياحة الجماعية. وتخشى فاطمة بيرناردو، الأستاذة المساعدة في العلوم الاجتماعية بجامعة إيفورا في البرتغال، من أن يواجه حي الفاما في لشبونة مصيراً مماثلاً لحي ثيوتات فيا، باعتباره حياً آخر يتمتع بروابط مجتمعية قوية وشعورٍ بالهوية.
وقالت فاطمة: "ما يعجب السياح في حي الفاما هو أصالته، ولكنَّه الآن مُكلِّف للغاية ولا يستطيع الشباب أن يعيشوا هناك، فقط كبار السن الذين لديهم تأمينات على الإيجار، لذا فحي الفاما يموت الآن. لقد تغيَّرت الديناميكية الاجتماعية للحي".
وأضافت: "الناس في لشبونة قلقون للغاية من احتمال أن تصبح مدينتنا وهويتنا مثل برشلونة، مجرَّد محاكاة مثيرة للسخرية ومتنزه ترفيهي".
إحساس بوضع الاحتلال
بالنسبة للصحيفة البريطانية، فإن القضية الحقيقية هي الضغط على الفضاء العام الذي لم يُصمم للتعامل مع هذا الحجم من الزوار. فالسياح يشغلون الحانات والمطاعم التي كانت ذات يوم مشهورة بين السكان المحليين، ويملأون وسائل النقل العام والأرصفة، ويستخدمون موارد كالماء أكثر بكثير من السكان المحليين.
ويقول بعض السكان إنَّ إحساسهم أشبه بوضع الاحتلال. وهو ما يُسبب لسكان برشلونة شعوراً بالعزلة، فمدينتهم وهويتهم يُسرقان منهم، ما يجعلهم أشبه قليلاً بمجموعةٍ من الكومبارس في مدينتهم الأصلية، بل أكثر من ذلك، وهو إحساسٌ لم تُسببه حتى معدلات الهجرة الهائلة.
وفي برشلونة على وجه الخصوص، يُنظر إلى المهاجرين على أنَّهم جزءٌ من النسيج الاجتماعي، فهُم يعملون ويبنون مجتمعات ويساهمون عموماً في المدينة، بينما السياح يستهلكون فحسب.
وقال لوبيز عن السهولة التي يندمج بها المهاجرون الجدد في برشلونة: "إنَّ صورة المدينة التي توقَّعها الناس أنفسهم هي أنَّها مدينةٌ مُرحِّبة". ولكن -على الأقل في المستقبل المنظور- يُمكن للسياح أن يتوقعوا استقبالاً مختلفاً.