على الرغم من أنَّ الظرف ربما ظل محفوظاً في حقيبتها، فإنها كانت تتفقَّده كل دقيقة؛ لتتأكد أنَّ أثمن ما لديها ما زال بالداخل. كان شيئاً طالما تمنّته، ولم تكن قد نالته حتى ذلك الحين.
قالت لصحيفة The New York Times الأميركية، وهي تسحب بطاقة طويلة أخرجتها من جيب حقيبتها: "عاودتُ التأكد من سلامتها مراراً ومراراً ومراراً. إنَّها كالكنز بالنسبة إلي".
كانت تحمل بين يديها الصغيرتين جائزة قد ينظر إليها ملايين من عشاق الكرة على أنَّها شيء مُسلَّم به. كانت تحمل تذكرةً لإحدى المباريات. ولنكون أكثر دقةً، كانت التذكرة لمباراة إيران الأولى في كأس العالم، ضد المغرب بمدينة سان بطرسبورغ، الجمعة 15 يونيو/حزيران 2018. لأول مرة في حياتها ترى منتخب بلادها يلعب مباشرةً. وكان هذا هو السبب وراء تفقُّدها المتكرر حقيبتها؛ لتتأكد أنَّ التذكرة ما زالت هناك، وأنَّها لا تحلم.
13 سنة من النضال
سافرت إلى روسيا من بلدها إيران، حيث تُمنَع النساء من حضور مباريات الرجال. أصبحت ناشطة في حملة عمرها 13 عاماً لإقناع السلطات بإلغاء الحظر. وكانت بطبيعة الحال تستخدم اسم سارة لتخفي هويتها الحقيقية؛ خوفاً من الاعتقال.
بدأت حملة سارة في عام 2005. في البداية كانت تتظاهر سارة -المولعة بالرياضة والتي تتابع كرة السلة والكرة الطائرة أيضاً- مع عشرات من النساء أمام استاد أزادي الكبير بطهران. و"أزادي" كلمة تعني الحرية في اللغة الفارسية.
وتقول سارة: "أتذكر أنَّنا في عام 2005، أردنا مشاهدة كرة القدم، حينها لم يعترف الكثير من المتعلمين بالأمر على أنَّه قضية متعلقة بحقوق المرأة". لاقت الحملة نجاحاً في بداية الأمر بعدما سُمِح لهن بالتجمع. ولكن أعقبت ذلك حملةٌ قمعيةٌ عنيفةٌ، وأدى فشل الثورة الخضراء عام 2009 إلى فترة من القمع في ظل حكم الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، وتوقفت التظاهرات. وعوضاً عن ذلك، اتجهت سارة إلى الشبكات الاجتماعية، حيث أنشأت حساباً مجهولاً على تويتر وسمته openstadiums@.
ونشر هذا الحساب، الجمعة 15 يونيو/حزيران 2018، تغريدة قال فيها: "انتهت مباراة إيران الأولى تقريباً، ورأينا الكثير من الدعم من المشجعين للنساء الإيرانيات اللاتي يردن إلغاء حظر دخول الملاعب".
Iran's first match almost done we saw lots of support from fans toward Iranian women who wants to break the stadiums ban.#زنان_ورزشگاه #NoBan4Women pic.twitter.com/qtkxTER7Dq
— OpenStadiums (@openStadiums) June 15, 2018
وساعد حسابها على تويتر في عرض قضيتها المحلية على المسارح العالمية، وأكسبها داعمين جدداً.
تقول مويا دود، وهي مسؤولة كروية أسترالية وعضوة سابقة باللجنة التنفيذية في الفيفا: "كان التواصل الأول بيننا عبر الشبكات الاجتماعية. كانت وظيفتي هي تمثيل مَن لا صوت لهم. كان عليّ إيجاد حل لذلك".
قائد المنتخب ينقل القضية للرئيس
نجحت دود في تصعيد قضية حظر حضور المباريات بإيران مع الرئيس السابق للفيفا، سيب بلاتر، الذي بدوره صعَّد الأمر بشكل شخصي ومعلن بعد لقائه مع الرئيس الإيراني حسن روحاني عام 2015. وتحرَّكت ما كانت تُعتَبر قضية تخص أقلية لتصبح شأناً عاماً.
وتضيف دود: "نجحت سارة في جعل قضية حظر دخول المباريات رمزاً لما هو أكبر بكثير: حقوق المرأة الإيرانية في المشاركة المجتمعية الكاملة".
القضية الآن مثار جدل في إيران؛ إذ دُعي الفريق الإيراني في يوليو/تموز 2017، بعد تأهله لكأس العالم، لمقابلة روحاني. استغل قائد الفريق، مسعود شجاعي، هذه الفرصة للحديث عن حظر السيدات من حضور المباريات خلال اللقاء. وقالت سارة: "مسعود رائع! نحن فخورون جداً بأنَّ لدينا قائداً مثله للفريق".
لكن التحدث في إيران قد يكون له عواقبه؛ إذ استُبعِد شجاعي من الفريق الوطني بعدما انتقده السياسيون المحافظون والمعلِّقون بعد أن لعب مباراة مع فريقه اليوناني ضد فريق إسرائيلي، الشيء الذي يُعَد خطاً أحمر في طهران. (أدخله مدرب الفريق الوطني كارلوس كيروش إلى الفريق مرة ثانية بعدها بمدة قصيرة قبل كأس العالم).
لكنها تعرضت للاعتقال
وفي مارس/آذار 2018، اعتُقِلَت سارة مع 30 مشجعةً لكرة القدم، وظللن قيد الاعتقال ساعات بعد محاولتهن دخول ملعب أزادي -بعضهن تخفَّى في زي الرجال- لمشاهدة أكبر مباراة محلية بإيران ضمَّت فريق استقلال طهران ضد فريق برسبوليس. حضر المباراة نحو 100 ألف رجل. تمكَّنت سارة من الهروب بهذا اليوم، في ظل حضور رئيس الفيفا، جياني إنفانتينو، بالاستاد لمشاهدة المباراة مع المسؤولين الإيرانيين.
لم يثر إنفانتينو قضية منع النساء من حضور المبارايات إعلامياً في أثناء وجوده بإيران، لكنَّه صرَّح بعد ذلك بأنَّه ناقش الأمر مع الرئيس روحاني سراً، وأنَّ الرئيس روحاني طمأنه بأنَّ هناك خططاً لإنهاء هذا الوضع.
تقول سارة، واصفةً ما عانته لإنهاء الحظر باعتبارها مواطنة ذات درجة متدنية: "الأمر موترٌ بحق. يصعب العيش في مثل هذه الظروف. قبل أن تأخذ أي خطوة عليك أن تفكر ما إذا كان سيعرِّضُك هذا وأسرتك للخطر. تشعر بالإرهاب".
لكن قبل ساعات قليلة فقط من بداية المباراة يوم الجمعة 15 يونيو/حزيران 2018 في سان بطرسبورغ، كانت سارة مُشتتة. فمن ناحية، كانت تريد أن تستمتع بالمباراة دون أية ضغوطات كأي امرأة في العالم. ولكنَّها كانت تعي جيداً أنَّ كأس العالم منصة جديدة تخاطب من خلالها جمهوراً أكبر عن قضيتها في إيران.
وأضافت متحدثةً عن المرأة الإيرانية: "من حقهن حضور المباريات. كرة القدم ليست حكراً على الرجال وحدهم".
لافتات في ملاعب مونديال روسيا
ولحقت نساء إيرانيات كثيرات بركب المشجعين إلى ملعب سان بطرسبورغ، بعضهن أتى من إيران وبعضهن من الجاليات الإيرانية حول العالم. قابلت سارة ناشطةً إيرانيةً أخرى تعيش بالولايات المتحدة، ورَفَعَتا لافتتين كُتِب على إحداهما -التي كانت تحملها سارة- "ادعموا نساء إيران لحضور المباريات في الاستاد #لا لحظر النساء". وأخذتا تتجولان بين المشجعين الإيرانيين، وتطوفان بحماسة ما قبل المباراة، والذين بدورهم يعلنون دعمهم أو يتوقفون لالتقاط الصور مع اللافتات.
وقبيل بداية المباراة، تفرَّق الجمع وتوجَّه الجميع لمقاعدهم. وجدت سارة بوابة مدرجها، وأخذت مكاناً في الصف. ومنذ نزولها من الحافلة التي أوصلتها قرب الاستاد، لم تفارق الابتسامة وجه سارة.
وقالت سارة عن محاولاتها السابقة لشراء تذكرة بإيران: "في كل مرة كنا نتظاهر فيها، لم نصل قَط لما أردناه. الآن، ستتحول كرة القدم من صورة ثنائية الأبعاد إلى مشهد ثلاثي الأبعاد".
كانت تعلم أن هذه المرة ستكون مختلفة. هذه المرة، وللمرة الأولى، تذكرتها مجازة ومقبولة. هذه المرة مرحَّب بها داخل الملعب. وقبل أن تختفي في الزحام بعد نقطة التفتيش، قالت: "تمنَّ لي حظاً سعيداً".
"شيء لم أجرِّبه من قبلُ"
شاهد المباراة أكثر من 60 ألف مشجعٍ، مقسَّمين بالتساوي تقريباً بين البلدين. بدا الفريق المغربي أكثر مهارة خلال المباراة، وامتلأ الاستاد بطنين أبواق الفوفوزيلا دون توقُّف. كان لكلا الفريقين فرص جيدة، لكنَّها ضاعت. وهاج الملعب صياحاً عندما خرج شجاعي في منتصف الشوط الثاني.
بدا الأمر كأن المباراة ستنتهي بالتعادل السلبي، حين غيَّر اللاعب المغربي عزيز بوهدوز في الدقائق الأخيرة، وبرأسية غير مقصودة، مسار الكرة لتهز شباك فريقه.
تدفَّق اللاعبون الإيرانيون من مقاعد الاحتياط إلى وسط الملعب للاحتفال، ثُمَّ عادوا مجبَرين ليعدّوا الثواني الأخيرة قبل أول انتصار لهم في كأس العالم منذ 20 عاماً. وكان الانتصار الأخير في عام 1998 بمباراتهم الشهيرة ضد الولايات المتحدة، والتي انتهت بهدفين مقابل هدف لصالح المنتخب الإيراني.
وبعد انطلاق صافرة النهاية، طاف اللاعبون 3 مرات حول الملعب تكريماً للجمهور؛ إذ بدا الجمهور الإيراني عازفاً عن مغادرة الملعب. وأخيراً، تدفق المشجعون إلى الساحات والباحات خارج الاستاد. بدت على سارة ملامح الذهول والفرحة بعد أن شقت طريقها من وسط زحام الجمهور للخروج.
قالت سارة، واصفةً شعورها بعد المباراة: "لا أعرف كيف أحتفل. أنا مصدومة!". لكن الصدمة لم تدُم طويلاً. فقبيل أن تتركنا لتشارك الجمع في الاحتفال، قالت: "هذا شيء لم أجربه من قبلُ. أريد الذهاب لمبارياتٍ أكثر".