في مخيم البريج بقطاع غزة، كان أفراد عائلة متكدسين في مطبخ صغير يستخدمون الهواتف والمصابيح التي تعمل بالطاقة الشمسية لإضاءة الغرفة، يعيشون حالةً من الحداد بعد مقتل ابنتهم وصال (14 عاماً)، رمياً بالرصاص، في 14 مايو/أيار 2018.
وكانت وصال من بين أكثر من 60 شخصاً ماتوا إثر إطلاق القناصة الإسرائيليين الرصاص على المتظاهرين قرب السياج الفاصل بين قطاع غزة وإسرائيل. وتركت وصال وراءها أُسرةً يعتصرها الحزن، ولكن تشعر بالعزيمة في فقدها إياها.
وحسب صحيفة The Guardian الأميركية، فإنَّ إطلاق النيران على الأطفال في غزة ليس أمراً غريباً؛ إذ قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) إنَّ أكثر من 1000 طفل أُصيبوا منذ اندلاع الاحتجاجات، ووصلت بعض الحالات منهم إلى البتر. كذلك، تقول هيئة إنقاذ الطفولة إنَّ إحدى الدراسات التي أجرتها كشفت أن 250 طفلاً أُصيبوا بالرصاص الحي.
من طفلة إلى مراهِقة تشعر بالظلم
تقول عائلة وصال الشيخ خليل إن ابنتهم المراهقة شهدت في غضون أسابيع تحولاً كاملاً من طفلة تلعب لعبة القفز داخل المربعات إلى مراهقةٍ تشعر بالحَنَق تجاه الظلم السائد في قطاع غزة.
إذ صرخت في وجه خالاتها، قائلةً: "أنتن جبانات"، حين رفضن المشاركة في الاحتجاجات الناشبة على الحدود، والتي أودت بحياة أكثر من 110 أشخاص على يد قناصة الجيش الإسرائيلي، إلى جانب إطلاق النيران على الآلاف منذ اندلاع المظاهرات في أواخر مارس/آذار 2018.
حماس تطالب بتحقيق دولي في إنشاء الاحتلال "مناطق إعدام" بغزة: جريمة حرب وحشية وانتهاك لكافة الأعراف
وأوردت الصحيفة الأميركية أن أفراد أسرتها المُقرَّبين -الذين أفقرتهم المعايير المأساوية المُطبَّقة في قطاع غزة- لم يكونوا يشتركون في السياسة. وكانت وصال وشقيقها البالغ من العمر 11 عاماً، هما الوحيدين اللذين اعتادا كل أسبوع شقَّ طريقهما صوب الحدود وسط الحشود المتدافعة والدخان الأسود المنبعث من الإطارات المحترقة. وحاول أشقاؤهما إيقافهما، لكنَّهما كانا يتسللان إلى الخارج.
الرغبة في الموت
وقالت إحدى خالاتها، واسمها أحلام وعمرها 30 عاماً: "ظلت وصال تقول لنا: (يجب أن تذهبن إلى هناك، يجب أن تذهبن). كانت أكثرنا إخلاصاً". وقالت خالة أخرى وتدعى أنوار: "لقد ماتت الآن، ولكنني مستعدة، فبعد ما فعلَته، لم نعد نشعر بالخوف".
وقال شقيق وصال إنَّها كانت تحمل مقارض الأسلاك من أجل اختراق السياج في ذلك اليوم، بينما يقول آخرون إنَّها كانت تُمرِّر زجاجات المياه والأحجار إلى المحتجين في المقدمة على بُعد أمتار من القناصة الإسرائيليين.
وفي أثناء فترة إقامة وصال بمخيم البريج للاجئين، كرَّست عائلتها وقتها للتركيز على الكفاح الدنيوي لتدبير أمورها؛ إذ كانت أمها تعيش مع أشقائها الستة في غرفةٍ واحدة، وكانوا يتنقلون كل بضعة أشهر نتيجة طردهم لتأخرهم عن سداد الإيجار.
كانت وصال تُركِّز على الأشياء التي تُرضي شغفها مثل اللعب في الشارع وتعلُّم قراءة القرآن باستخدام نسخةٍ صوتية من القرآن على هاتف والدتها. كانت القراءة عسيرة عليها، لكنها كانت تحب الرياضيات، وتريد تدريسها في المستقبل بفضل مُعلمتها المفضلة التي كانت مصدر إلهامها.
وكانت تمارس هواية الرسم كذلك، وتحتفظ والدتها بصورةٍ رسمتها ابنتها لها منذ 3 أسابيع في كشكول المدرسة. وكانت الصورة تحتوي على قلوبٍ وإهداءٍ إلى أمها كتبت فيه: "حبيبة روحي". وقالت ريم إنَّ ابنتها كانت تلزم المنزل في الآونة الأخيرة. وأضافت: "عاشت وصال حياةً صعبة؛ بسبب غياب أبيها ونومنا جميعاً في غرفة واحدة".
وقالت ريم: "لم تكن وصال تملك شيئاً، عكس أصحابها. كانت حذِرة، ومكتئبة للغاية. حيناً ترقص وحيناً غاضبة. وقالت ذات مرةٍ إنَّها ترغب في تمزيق شخص ما إرباً". وحين حاولت والدتها تهدئتها، قالت وصال إنَّها لن ترتاح إلا عندما تذهب "إلى الله".
وضع اجتماعي صعب
انهار اقتصاد غزة في ظل عقدٍ من الحصارين الإسرائيلي والمصري. وتُسفر انقساماتٌ داخلية بين "حماس" والسلطة الفلسطينية، التي يقع مقرها في الضفة الغربية، عن قطع التيار الكهربائي والرواتب في بعض الأحيان عن القطاع.
وتقدَّر نسبة البطالة في القطاع بنحو 40%، بينما تتفشى مشكلة الديون. ولا تسمح المعابر الحدودية إلَّا بمرور عددٍ قليل جداً من الأشخاص حين تكون مفتوحة. ولم يسبق للكثيرين أن غادروا القطاع الذي يساوي حجمه حجم مدينةٍ كبيرة.
وتقول إسرائيل إنَّها اضطُّرت إلى تضييق الخناق على القطاع لأسباب أمنية، مع أنَّ الأمم المتحدة تعتبر الحصار عقاباً جماعياً. وتُطالب المظاهرات الحاشدة برفع ذلك الحصار والسماح للسكان بالعودة إلى بيوت أجدادهم القائمة فيما يُعرف الآن بإسرائيل.
حماس تطالب بتحقيق دولي في إنشاء الاحتلال "مناطق إعدام" بغزة: جريمة حرب وحشية وانتهاك لكافة الأعراف
وقالت والدة وصال، ريم أبو إرمانة، إنَّ زوجها الذي انفصلت عنه كان مصاباً بمرضٍ نفسي، وكان يخلط الحشيش المُخدِّر مع أدوية تسكين الألم مثل الترامادول؛ إذ كانت تعمل خادمةً في المنازل، وكانت تكسب 50 شيكلاً (13 دولاراً) يومياً، لكنَّ زوجها كان يستولي على معظم أجرها.
وتروي الصحيفة الأميركية أن وصال كانت متقلِّبة المزاج بين التفاؤل والحماسة والحنق والاستسلام للقدر. بدأت وصال تتوق إلى الموت، وقالت لوالدتها إنَّها لو ماتت، فستوفر مكاناً أوسع لأشقائها ولن يضطروا إلى العيش متكدسين "كالسمك في شبكة الصيد".
وتتذكر أنوار، قلقها من أن تتبع بناتها -اللاتي تُقارب أعمارهن عُمر وصال- ابنة أختها إلى الحدود؛ إذ قالت: "تشاجرتُ معها بهذا الشأن". لكنَّ أنوار نفسها انضمت إلى وصال في مظاهرات أحد أيام الجمعة.
وقالت أنوار: "وصلت ورأيت الجنود على الجانب الآخر". وأضاف أنَّها عادت بالذاكرة إلى الماضي حين داهمت القوات الإسرائيلية منزلها منذ 15 عاماً، وتوفي أخوها الذي كان مقاتلاً ضمن تنظيم حركة الجهاد الإسلامي المُسلَّح إثر تبادل إطلاق النيران في تلك الليلة. اجتاحتها المشاعر وتذكرت وصال وهي تسألها: "ما رأيك الآن؟".