منذ 30 مارس/آذار 2018، دأب سكان قطاع غزة على تنظيم مسيرات كل يوم جمعة في اتجاه السياج الفاصل بين القطاع وإسرائيل، وخلفت قتلى وجرحى في صفوف الفلسطينيين. إلا أن مسيرات الإثنين 14 مايو/أيار 2018، التي تزامنت مع نقل السفارة الأميركية لدى إسرائيل إلى القدس، كانت هي الأعنف.
فعلى طول هذا السياج قُتِلَ أكثر من 60 فلسطينياً وأُصيبَ المئات يوم الاثنين، عندما احتشد الآلاف للاحتجاج على ما يصفونه بخط الحدود الذي فرضه مُحتلٌّ بصورةٍ استبدادية. ووقف العالم شاهداً على "المجزرة" التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في حق الفلسطينيين.
الأحداث التي شهدتها المنطقة جعلت السياج هو الأشهرَ في العالم، مما جعل مجموعة من الأسئلة تتبادر إلى الذهن، وحاولت صحيفة The New York Times الأميركية الإجابة عنها؛ ومنها: ما هي أصول السياج والغرض من فصل غزة التي يعيش فيها نحو مليوني فلسطيني؟ هل السياج مُعتَرَفٌ به كحدودٍ دولية؟ وكيف برَّرَت إسرائيل استخدام القوة المميتة لوقف الفلسطينيين العزَّل تقريباً من الاقتراب من السياج؟
فما هو هذا السياج إذاً؟ هما سياجان في الواقع: واحد شائك وآخر "ذكي"
حاجزان موازيان شيَّدهما الإسرائيليون: الأول هو حاجز هائل من الأسلاك الشائكة في غزة، والثاني عبارة عن "حاجز ذكي" معدني طوله 10 أقدام (3.05 متر) مُزوَّد بأجهزة استشعار للمراقبة على طول خط ترسيم حدود إسرائيل، وتقبع بين الحاجزين منطقةٌ عازلة محظورة تبلغ مساحتها نحو 274 متراً. وحذَّرَت إسرائيل من أنَّ الأشخاص الذين سيوجدون في المنطقة دون تصريحٍ يخاطرون بكونهم عُرضة للقوة المميتة.
السياج ليس سياجاً فقط.. له تاريخ أيضاً
تأسَّسَت حدود غزة في اتفاق هدنة في عام 1949 بين مصر وإسرائيل، لوقف الصراع بعد إقامة كيان إسرائيل في عام 1948. وفي أثناء الحرب بين العرب وإسرائيل بتلك الحقبة، أُجبِرَ مئات الآلاف من الفلسطينيين على النزوح من منازلهم أو لاذوا بالفرار، كثيرٌ منهم إلى غزة، وصنَّفَتهم الأمم المتحدة وأحفادهم على أنَّهم لاجئون.
وظلت مصر غزة حتى حرب الأيام الستة بين العرب وإسرائيل في عام 1967، عندما استولت إسرائيل على الأرض. وأُقيمَ السياج الأول بين غزة وإسرائيل في عام 1994 باعتباره وسيلة للسيطرة على تحرُّكات الفلسطينيين بعد اتفاقية أوسلو، الاتفاقية التي تهدف إلى إنهاء الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين وإقامة دولة فلسطينية.
وانسحبت إسرائيل من غزة في عام 2005، وأخلت كل المستوطنات الإسرائيلية وسحبت جنودها، لكنَّها تُبقي سيطرتها على الحدود الشمالية والشرقية للأرض، وتسيطر مصر على المعبر الجنوبي لغزة المعروف باسم معبر رفح البري. وتسيطر إسرائيل كذلك على الطرق الجوية والبحرية. وتتدفَّق غالبية المواد الغذائية والوقود والمساعدات الأخرى المتجهة إلى غزة عبر المعابر التي تُديرها إسرائيل.
وقيَّد المصريون، على غرار الإسرائيليين، في السنوات الأخيرة، حركة الأشخاص والبضائع من غزة وإليها. وفرضت إسرائيل ومصر حصاراً على غزة بعدما سيطرت حركة "حماس" الفلسطينية، التي ترفض وجود إسرائيل على القطاع، قبل أكثر من عقدٍ من الزمان.
وتتفاقم الحالة الاقتصادية التي يعانيها القطاع باستمرار. ويعتمد غالبية المقيمين به على المساعدات التي تُقدِّمها الأمم المتحدة وجماعاتٌ أخرى في الخارج، وخلق عجزُ الأشخاص عن حرية مغادرة القطاع ما يصفه المدافعون عن حقوق الإنسان بـ"السجن المفتوح".
لاجئون فلسطينيون في غزة! كيف ذلك؟ إليك التفسير
كان القصد الذي هَدَفَ إليه من دشَّنوا احتجاجات "مسيرة العودة الكبرى"، كما يُطلق الفلسطينيون على حملة الاحتجاج التي بدأت في مارس/آذار 2018، هو نشر الوعي العالمي بأنَّ نحو ثلثي سُكَّان غزة يُعتَبَرون لاجئين فلسطينيين.
اتَّهَمَت إسرائيل حركة "حماس" باستغلال "مسيرة العودة الكبرى" لمهاجمة إسرائيل فعلياً.
وقالت لجنة الشؤون العامة الأميركية-الإسرائيلية (أيباك)، وهي مجموعة ضغط بالولايات المتحدة الأميركية، الأربعاء 16 مايو/أيار 2018، في مواجهة منتقدي الممارسات الإسرائيلية: "حماس استخدمت "الاحتجاجات السلمية" لمحاولة اجتياح حدود إسرائيل وقتل مدنييها، وحماس هي التي تتحمَّل مسؤولية إراقة الدماء الأخيرة".
غير أن المسؤولين في حركة "حماس" رفضوا الاتهامات الإسرائيلية بوجود أعضاء في الجناح العسكري للحركة بين المتظاهرين المدنيين. وقال يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحماس في قطاع غزة، في لقاء إعلامي سابق: "ماذا تتوقع؟ هل من الأفضل أن يطلقوا الصواريخ، أم أن يذهبوا في مسيرة سلمية وينتهي بهم المطاف قتلى على يد الجنود الإسرائيليين المدججين بالسلاح؟!".
وأصر السنوار على أن المتظاهرين "لا يشكلون أي خطر على حياة أي شخص، ولا حتى على حياة الجنود على الجانب الآخر". ولكنه في الوقت نفسه، شبّه سكان غزة بـ"نمر جائع جداً، ومحبوس في قفص، يتضور جوعاً، ويحاول الإسرائيليون إذلاله.
هل يُعتبر الجدار بذلك حدوداً قانونية؟
لا يُعترف بهذا الجدار كحدودٍ مثل تلك الفاصلة بين الدول ذات السيادة، فعندما أنشأت إسرائيل ما اعتبرته منطقةً عازلةً دفاعية داخل غزة لدواعٍ أمنية، لم تُغيِّر خط هدنة 1949 الأصلي الذي أعاد ترسيم الأرض.
ويرى مؤيدو حلّ الدولتين للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، أنَّ غزة ستكون جزءاً من الدولة الفلسطينية مستقبلاً. إلا أنَّ وضع غزة معقَّدٌ في الوقت الراهن.
ويقول ديفيد ماكوفسكي، وهو خبيرٌ في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: "غزة ليست دولةً فلسطينية". وأضاف أنه في الوقت الذي يمكن لمصر فيه نظرياً أن تخفف المتاعب التي تواجه سكان غزة، "ترى مصر الأمر على أنَّه مأزقٌ سياسي".
ويقول الفلسطينيون ومسؤولو حقوق الإنسان في الأمم المتحدة إنَّ إسرائيل ما زالت قوة احتلال في غزة، ما يفرض عليها التزاماتٍ معينة بشأن حماية المدنيين تحت مظلة القانون الدولي؛ لأنَّ إسرائيل تمارس سيطرةً فعلية على أرض غزة وحدودها البحرية ومجالها الجوي. ورفضت إسرائيل ذلك، بدعوى أنَّها غادرت غزة طوعاً قبل 13 عاماً.
وقالت تمارا كوفمان ويتس، الزميلة بمركز سياسة الشرق الأوسط التابع لمعهد بروكينغز: "وجهة النظر السياسية هي أنَّه لدى كِلا جانبي هذا الصراع روايته الخاصة بشأن الوضع بقطاع غزة ودور إسرائيل. الجدل ليس بشأن ما إذا كان السياج حدوداً أم لا؛ بل الجدل بشأن ما إذا كانت إسرائيل تحتل غزة".
هل تنتهك الاحتجاجات الحدودية سيادة إسرائيل؟
تعتبر إسرائيل محاولات المحتجين الفلسطينيين الاقتراب من السياج الحدودي تهديداً لسيادتها، وصورت إسرائيل ردَّها على الاحتجاجات على أنَّه حقها القانوني في الدفاع عن الحدود الإسرائيلية.
ويقول باحثون مختصون بالشرق الأوسط إنَّ السؤال عمَّا إذا كان المحتجون يهددون السيادة الإسرائيلية يعدُّ جزءاً من النزاع الأكبر. وجادلت نادية أبو الحاج، المديرة المشاركة لمركز دراسات فلسطين بجامعة كولومبيا، بأنَّ تصرفات إسرائيل عبر السياج بيّنت أنَّه لا يعد حدوداً.
وقالت نادية أبو الحاج: "مفهوم الحدود يعني مكاناً تنتهي عنده سلطة دولة وتبدأ سلطة دولةٍ أخرى. ولم تعتبر إسرائيل السياج قط على أنَّه تحديدٌ لسلطتها. فعبر غاراتها العسكرية وحصار القطاع، تحافظ إسرائيل على سلطتها السيادية على الأرض".
جريمة حرب أم دفاع عن النفس؟
بينما تبرر السلطات الإسرائيلية استخدام الجيش القوة المميتة، أدانت ذلك عدة مجموعات مراقبة دولية، كان منها "هيومان رايتس ووتش" ومنظمة العفو الدولية. وطالب عددٌ من الدول في الأمم المتحدة بتحقيقٍ مستقلٍ في الوفيات.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنَّ الدفاع عن السياج الحدودي بالقوة الغاشمة كان أمراً ضرورياً.
وقدم مسؤولون أميركيون الدعم لممارسات إسرائيل. وقالت هيذر نويرت، المتحدثة باسم الخارجية الأميركية: "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها"، بينما قالت نيكي هالي، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، إنَّ إسرائيل قد ردَّت ملتزمةً بـ"ضبط النفس".
واعترض مسؤولو حقوق الإنسان بالأمم المتحدة على هذا الرأي؛ إذ قال مايكل لينك، المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إنَّ عمليات القتل التي حدثت يوم الإثنين 14 مايو/أيار 2018، تضمنت "استخداماً صارخاً للقوة بواسطة إسرائيل"، وأنَّ ردود فعلها فاقت بكثير أفعال المتظاهرين.
وقال لينك إنَّ المحتجين بدا أنَّهم لا يشكلون تهديداً حقيقياً للقوات العسكرية الإسرائيلية على الجانب الإسرائيلي. وقال إنَّه وفقاً للقانون الإنساني، فإن قتل المتظاهرين غير المسلحين قد يرقى إلى جريمة حرب، وأضاف أنَّ "الإفلات من عقوبة هذه الأفعال ليس خياراً متاحاً".