وجَّه الناخبون العراقيون، السبت 12 مايو/أيار، صفعةً قويةً إلى الطبقة السياسية المهيمنة على السلطة منذ 15 عاماً، من خلال عزوف غير مسبوق عن المشاركة في الانتخابات التشريعية، بعد أن أعلنت المفوضية العليا للانتخابات أن نسبة المشاركة بلغت 44,52%، وهي الأدنى منذ بدء الانتخابات متعددة الأحزاب في العام 2005. ما يُعزّز حظوظ قوى جديدة تقول إنها خارج المنظومة المتهمة بالفساد.
وأجمع المشاركون في التصويت من جميع الطوائف ومن محافظات مختلفة على الرغبة في "التغيير" وضخ دماء جديدة، في نخبة حاكمة لم تتغير منذ 15 عاماً.
وكانت نسبة الإحجام عن الانتخابات كبيرة جداً، بغضّ النظر عن الطائفة، على عكس الانتخابات السابقة التي صوَّت فيها الشيعة بكثافة لتثبيت سلطتهم، في حين امتنع السُّنة عن المشاركة بسبب إحساسهم بالتهميش، إضافة إلى تهديدهم من قبل تنظيمات جهادية.
وأوضح المحلل السياسي أمير الساعدي، أن "العزوف بنسبة كبيرة عن المشاركة في الانتخابات مردّه أن الغالبية لم تقتنع ولم ترض بأداء الطبقة السياسية خلال الأعوام الـ15 الماضية. المقاطعة مقصودة، هناك انعدام للثقة" في النواب المنتهية ولايتهم.
وأشار الساعدي إلى أنه "غالباً ما كانت برامج الأحزاب السياسية خلال دورات ماضية وردية للمواطن، لكن عندما يأتي وقت التطبيق، نرى عملية تخلٍّ وانسحاب من الوعود التي أطلقوها".
وهذا ما أكَّده الشاب نوفل نافع (24 عاماً)، بعدما قرَّر ألا يُعطي صوته لأحد من المرشحين. وقال الشاب خريج الهندسة النفطية والعاطل عن العمل منذ ثلاث سنوات، إن "ما حصل هو سحب للثقة. غالبية المرشحين قبل الانتخابات كانوا يأتون إلينا، ما زالت الرسائل على هاتفي". وأضاف "بمجرد أن انتهى التصويت، أقفلوا هواتفهم وحجبونا، سبحان الله".
لكن صديقه وزميله في الاختصاص محمود صكبان، اعتبر أن عدم الانتخاب "خذلان". وأضاف "بكيت كثيراً. كيف أطلب التغيير، وفي هذا اليوم الوحيد الذي أملك فيه السلطة عليهم لا أستغلها؟ هم يخافون منا".
عزوف أقل لدى الأكراد
العزوف عن الانتخاب كان أقلَّ لدى الأكراد، وفي الموصل التي استعادتها القوات الأمنية من الجهاديين مؤخراً. فمشاركة الأكراد، الذين أخرجوا من المناطق المتنازع عليها مع بغداد وما زالوا يتحملون التبعات السلبية للاستفتاء حول الاستقلال، سجَّلت بين سبع إلى تسع نقاط أعلى من المشاركة الوطنية.
وفي مدينة الموصل التي دمَّرتها تسعة أشهر من الحرب الضروس ضد الجهاديين، بدا السكان أكثر عزماً لفتح صفحة جديدة والتوجه إلى صناديق الاقتراع بأعداد كبيرة من دون خوف، للمرة الأولى منذ العام 2003، بعدما كانوا عرضة لاعتداءات انتحارية وأعمال انتقامية من الجهاديين.
لكن في أماكن أخرى، وخصوصاً في بغداد حيث بلغت نسبة المشاركة 32%، بحسب مصادر في المفوضة العليا للانتخابات "شعر العراقيون بأن اللعبة انتهت، والانتخابات معدة مسبقاً"، بحسب ما قال كريم بيطار الخبير في شؤون الشرق الأوسط لدى معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس.
وحيال الامتناع الواسع للشبان الذين يشكلون 60% من نسبة السكان في العراق، أوضح بيطار أن ذلك سببه "أن النظامين الطائفي والمحسوبية أنتجا عقباتٍ أمام دخول قوى حقيقية جديدة للتغيير، ما أدى إلى إحباط لدى الناخبين".
ويقول الكثير من العراقيين، إنهم لا يؤمنون بالنسبية المعقَّدة التي توصّل إلى الحكومة تحالفاً متنوعاً، وتوزع المناصب العليا في الدولة بين مختلف الطوائف.
ويعبرون عن الاعتقاد أن البلد الذي يتبنَّى نظاماً سياسياً هدفه منع هيمنة الحزب الواحد على السلطة، ليس صاحب الكلمة الفصل، بل إن القرار يعود إلى الخارج، وخصوصاً واشنطن وطهران.
وهناك توتر حالياً بين إيران والولايات المتحدة، على خلفية انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي الإيراني.
ولاءات أجنبية تُقلق العراقيين
ويؤكد الكاتب ديفيد هيرست، مدير تحرير موقع Middle East Eye البريطاني، أنَّ الانتخابات العراقية ساحة معركة لعددٍ من القوى الإقليمية المتنافسة، تشارك السعودية وإيران وتركيا بقوةٍ في تقرير نتيجتها.
وخلال ذلك التنافس انقسمت السياسة في العراق، في سباقٍ مجنون لشراء النفوذ. وأصبحت العراق هي الساحة الأخيرة للمعركة الكبرى للفوز بالنفوذ الإقليمي. ويقسم هيرست أوجه الصراع بين القوى الكبرى التي تسعى لكسب المزيد من النفوذ في العراق، إلى صراع بين أميركا وإيران، اللتين وجدا نفسيهما عام 2010 على نفس الجانب.
إضافة إلى التنافس السعودي الإيراني، إذ تحاول إيران التواصل مع قوائم الأحزاب السنية والشيعية في سعيها لتعزيز نفوذها في المناطق التي تمكنت قوات الحشد الشعبي فيها من ترسيخ وجودها بانهيار داعش، وتراجع نفوذ حكومة إقليم كردستان منذ استفتاء الاستقلال العام الماضي.
وحسب مدير موقع Middle East Eye فإن إيران بدأت في الدخول إلى مناطق السُّنة. حتى إنَّها دخلت مناطق كان يوجد بها تنظيم داعش، ولم يكن لإيران نفوذٌ بها، مثل محافظة الأنبار.
وبدأ الحشد الشعبي كذلك في زيادة نفوذه في مناطق كردية لم يكن موجوداً بها من قبل، مثل أربيل. وأضاف: "بدأ السُّنَّة في دعم الموقف الإيراني، لهذا بدأ الإيرانيون في الضغط على القادة السنة عبر الحشد الشعبي. ولهذا تداعياته".
هذا التنافس بين السعودية وإيران أدى بالفعل إلى انقساماتٍ داخل حزبين يهيمن عليهما الشيعة، حزب الدعوة الحاكم، والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي.
وهناك ائتلافٌ ثالث، وهو الفتح، يمثل قوات الحشد الشعبي، ويرأسه هادي العميري قائد ميليشيات بدر، الذي يُعد موالياً مخلصاً لإيران. بينما هناك ائتلاف رابع وهو سائرون، يترأسه الزعيم الديني النافذ مقتدى الصدر، الذي كان يعد في الماضي أحد رموز المقاومة الشيعية للاحتلال الأميركي، ويميل الآن تجاه المملكة العربية السعودية.
ويُعتَبَر الحزبان العلمانيان والأحزاب الإسلامية داخل القائمة أقرب إلى إيران، في حين يُنظَر إلى علاوي باعتباره ميَّالاً باتجاه الإمارات. ويُنظَر إلى قائمةٍ ثالثة، وهي قائمة "الحل" التي يترأسها جمال الكربولي، باعتبارها أقرب إلى السعودية.
وبالانتقال شمالاً، تبدو الصورة هي نفسها. فإحدى القوائم التي تُدعى "كردستاني" تتشكَّل من الحزبين الحاكمين في إقليم كردستان، الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، والأول موال لإيران في حين الأخير مُقرَّبٌ من تركيا.
وتتكون القائمة الثانية من إسلاميين كرديين اتحدوا مع مجموعة من معسكر طالباني، تُسمَّى حركة تغيير "غوران". ويقود الثالثة برهم صالح، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس وزراء العراق.
وربما تجد تركيا نفسها عاملاً حاسماً فيما يتعلق بميل العراق إلى الشرق ناحية إيران، أو إلى جنوب الغرب ناحية السعودية والإمارات. والحجة المضادة لهذه الحسابات هي أنَّ العراقيين أياً كانت طائفتهم لا يمكن أن يُعاملوا كوكلاء إقليميين.