يتمدَّد بين شواهد القبور، في مقبرةٍ بجوار منزل جده، فيما يُعد مجرد لهو طفولي في غمار واقع غزة المرير، هكذا وصفه ابن عمه. أخذ يجمع أكوام الرمال كما لو كان يحفر قبره، بينما كان يخبره عن أمنيته أن يُدفَن هنا.
وقالت صحيفة The New York Times الأميركية في تقرير لها، إن محمد أيوب خرج الجمعة 20 أبريل/نيسان 2018، للانضمام للمظاهرة الأسبوعية الممتدة على طول الجدار الذي يفصل غزة عن إسرائيل. ليلقى حتفه إثر إصابته برصاصةٍ في الرأس، أطلقها قناص إسرائيلي، وفقاً لوزارة الصحة في غزة، ويُدفَن في المقبرة الصغيرة ذاتها تلك الليلة.
وفاته سلَّطت ضوء العالم على تعامل إسرائيل
في بادئ الأمر، قال أقارب محمد والسلطات الصحية في غزة، إنه كان في الخامسة عشرة من عمره، لكن بطاقة هويته أظهرت أنه قد بلغ الرابعة عشرة قبل شهرين مضيا. قالت أمه إنه أراد أن يصبح شهيداً منذ كان في الروضة، قبل أن يفهم حتى ما تعنيه كلمة شهادة.
كان عالم محمد محدداً من جهة بالبحر الأبيض المتوسط، حيث كان يحب أن يسبح فجراً، وبالحدود مع إسرائيل ومصر من جهة أخرى، المغلقة بشكل كبير في وجه غالبية المليوني نسمة في الإقليم الساحلي الفلسطيني، الذي تحكمه الحركة الإسلامية حماس.
لكن وفاته كثَّفت الاهتمام الدولي والرقابة على تعامل إسرائيل مع الاحتجاجات، التي بدأت في 30 مارس/آذار الماضي، بسبب سنه الصغيرة، وكذلك تسجيل واقعة استشهاده في شريط فيديو مصور.
وحظيت الواقعة كذلك بتغطيةٍ واسعة النطاق في إسرائيل، وأثارت بعض الضيق لدى العامة، الذين كانوا داعمين إلى حدٍّ كبير أعمالَ القوات العسكرية على الحدود.
وفي انتقاده للقوات العسكرية لعدم إبدائها الأسفَ بشأن الواقعة، كتب الصحفي تل ليف رام، مراسل الشؤون العسكرية لصحيفة معاريف الإسرائيلية، في مقالٍ تعليقي نُشِرَ يوم الأحد الماضي 22 أبريل/نيسان: "إن وفاة مراهق فلسطيني، معادٍ كما يبدو، يجب ألا تتركنا غير مبالين وبلا أي استجابة. إذ تصبح اللامبالاة في هذه الحالة هي خسارتنا نحن في المقام الأول".
يخرجون بسبب الوضع المعيشي وليس التهديد
إن مدينة غزة، المعزولة والمُعدمة، والتي تعاني من انقطاع مزمنٍ في الكهرباء ومصاعب أخرى تفاقمت نتيجة الاقتتال الداخلي الفلسطيني، قد ربَّت جيلاً شاباً يحيا بلا أمل. ولَطالما اتّهم المنتقدون حركة حماس بتعزيز طائفةٍ تُقدِّس الموت، زاعمين أنها تحاول الآن صرف الغضب المتزايد لدى سكان غزة عن نفسها وتوجيهه لإسرائيل في المقابل.
وفي تعليقه على الاحتجاجات، كتب محمد شحادة، الكاتب والناشط في المجتمع المدني بقطاع غزة، في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، الشهر الجاري أبريل/نيسان، قائلاً: "لكن حماس لن تستطيع جرَّ الشباب خارج أسرَّتهم تحت تهديد السلاح، وإرسالهم إلى الحدود للرقص على أنغامها. لولا الشقاء اللاحق بالوضع الراهن في غزة، لم يكن ليظهر أحدٌ في ذلك الموعد مع الموت".
على جانبٍ آخر، قال إبراهيم أيوب (40 عاماً)، والد محمد، يوم السبت الماضي، 21 أبريل/نيسان، إن ابنه بريء. وتحدث من خيمة الحداد الموجودة خارج منزل الأسرة المكون من طابقٍ واحدٍ ذي سقف معدني مموَّج، والواقع في مخيَّم جباليا للاجئين شمالي غزة، قائلاً: "حتى لو كان قد لمس الجدار، فقد كان مسالماً"، مضيفاً أن ابنه لم يكن يرشق الحجارة أو يحمل سلاحاً.
وذَكَرَ باسل أيوب (18 عاماً)، ابن عم محمد الذي كان معه في المقبرة، وروى لنا المشهد الذي حدث بها، أنه قد رآه مرة أخرى في موقع الاحتجاج في الوقت الذي قُتِل فيه. وقال كلٌّ من باسل وابن عم آخر كان هناك، يدعى محمد حمودة أيوب (29 عاماً)، إن محمد كان يجلس على الأرض مع صبية آخرين، ثم نهض وركض من سُحب الغاز المسيل للدموع عندما أُرديَ قتيلاً.
حصيلة تتصاعد كل يوم
خلال الأربعة أسابيع الماضية، قُتِلَ ما لا يقل عن ثلاثين فلسطينياً بنيران إسرائيلية على طول الحدود مع غزة أثناء احتجاجاتهم، التي أحياناً ما تكون عنيفة، ضد الحصار الذي دام فرضه 11 عاماً على المنطقة. كما يضغط المحتجون من أجل عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم التي باتت تُعرَف الآن بإسرائيل.
وسجَّلَت وزارة الصحة في قطاع غزة وجود ثلاث قُصَّر آخرين من بين القتلى. أحدهم كان في السابعة عشرة، والآخر في الخامسة عشرة، أما الثالث فكان يفصله عن يوم مولده الرابع عشر أياماً قليلة. كما أصيب مئات آخرون من الناس في الاحتجاجات.
وخلال عطلة نهاية الأسبوع، عدَّل الجيش تقديراته الأولية حول عدد المشاركين في احتجاج يوم الجمعة 20 أبريل/نيسان، وارتفع العدد من 3000 إلى حوالي 10 آلاف بحلول نهاية اليوم. ولا تزال تلك المشاركة أقل بدرجة كبيرة عن المظاهرات التي احتشدت في 5 مواقع يوم 30 مارس/آذار عندما بدأت الحملة، وكان عددها يتراوح بين 30 ألفاً إلى 40 ألف متظاهر.
مع احتفال إسرائيل بالذكرى الـ70 على تأسيسها، تطرَّقت حملة الاحتجاج إلى أحد أعصاب البلاد الأكثر حساسية. أطلق على الحملة اسم "مسيرة العودة الكبرى"، ومن المتوقع أن تبلغ ذروتها في 15 مايو/آذار، تزامناً مع ما يطلق عليه الفلسطينيون النكبة أو الفاجعة لتأسيس إسرائيل والحرب التي اندلعت عام 1948 لإنشائها، والتي فرَّ خلالها مئات الآلاف من الفلسطينيين أو طُرِدوا من منازلهم.
نشأ محمد كواحدٍ من ستة أشقاء تتراوح أعمارهم من 3 إلى 17 عاماً في أزقة مخيم اللاجئين جباليا، وسط اللاجئين وأحفادهم من قرية الفلوجة، وهي قرية فلسطينية سابقة تبعد عن شمال شرقي غزة بمسافة أقل من 20 ميلاً (32 كم)، وعاصر محمد وأشقاؤه بالفعل ثلاث حروب.
في الفيديو الذي يوثق مصرعه تُسمع أصوات مذعورة، تصرخ بأنه أصيب برصاصةٍ في رأسه. وعلى الفور يعلن آخرون بأنه "شهيد". وبعد ساعات قليلة كان محمد مدفوناً في قبره.