تجاهل مزارعو الأرز في قرية كفر زيادة بدلتا النيل في مصر، لسنواتٍ، القيود الزراعية التي تهدف إلى توفير المياه واستمروا في زراعة هذا النوع من الحبوب الذي يحظى بشعبية في العالم العربي.
لكنّ قراراً على بُعد آلاف الكيلومترات باتجاه الجنوب يوشك أن يغير هذا الوضع، في مثال آخر على ما يفرضه القلق بشأن المياه، وهي إحدى السلع الأولية الأكثر قيمةً في العالم، من تغييرات في قوانين الزراعة؛ بل وحتى الدبلوماسية الدولية.
وبعيداً في اتجاه الجنوب، بالقرب من منابع النيل، تتأهب إثيوبيا لملء الخزان القابع خلف سد النهضة المشيَّد حديثاً بقيمة 4 مليارات دولار، وقد يكون هذا خلال العام الجاري (2018).
وبدأت آثار السد المدمرة
وقد تكون لسرعة ملء الخزان آثار مدمرة على المزارعين، الذين يعتمدون منذ قديم الأزل على نهر النيل لزراعة المحاصيل المختلفة للسكان المحليين البالغ تعدادهم الآن 96 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يصلوا إلى 128 مليوناً بحلول عام 2030.
وتتصدر حماية حصة مصر في مياه النيل، والتي تعتمد عليها البلاد في الصناعة وفي توفير مياه الشرب ومياه الري أيضاً، أجندة الرئيس عبد الفتاح السيسي مع بداية فترة حكمه الثانية.
في الوقت ذاته، تعالج السلطات أخيراً مشكلة انتشار زراعة الأرز الكثيف الاستهلاك للمياه بشكل غير قانوني.
وتعني هذا الحملة أن مصر ستصبح على الأرجح بلداً مستورداً للأرز في عام 2019، بعد أن ظلت عقوداً واحدة من كبار مصدّريه حول العالم، حسبما يقول تجار.
وأصدرت القاهرة قراراً بالسماح بزراعة 724 ألف فدان من الأرز هذا العام (2018)، وهي مساحة تشير تقديرات التجار إلى أنها تقل عن النصف مقارنة مع 1.8 مليون فدان في عام 2017، والتي تزيد كثيراً على المساحة المخصصة رسمياً لهذا الغرض والبالغة 1.1 مليون فدان.
مداهمة المنازل
و الأحد 22 أبريل/ نيسان وافق مجلس النواب المصري من حيث المبدأ، على مشروع قانون مقدم من الحكومة بتعديل بعض أحكام قانون الزراعة الصادر بالقانون رقم 53 لسنة 1966، تعطي الحق لوزير الزراعة حظر زراعة محاصيل معينة في مناطق محددة، وتغليظ عقوبة مخالفة القانون.
وشهدت الجلسة انفعال عبدالعال، وهدد بإنهاء الجلسة، بسبب حديث النواب و تفاوضهم على زراعات الأرز، واستثناء بعض دوائرهم من هذا القانون، وإسقاط غرامات زراعات الأرز التي تم فرضها في الموسمين الماضيين.
وقال رئيس المجلس للنواب: "أنتم لا تعون خطورة ذلك، فهذا كلام غير مقبول سياسياً.. مصر تعاني من فقر مائي، يقتضي الترشيد في زراعة المحاصيل التي تحتاج لمياه كثيرة، ويجب إعادة النظر في مساحات زراعتها، سواء بإعادة توزيع هذه المحاصيل أو إعادة النظر في طريقة الري باستخدام طرق أكثر حداثة في الري".
وبدأت الشرطة في مداهمة منازل المزارعين واحتجازهم حتى يسددوا غرامات متأخرة تعود إلى سنوات مضت.
وقال مزارع، يدعى محمد عبد النبي أحمد عبد الخالق، في قرية كفر زيادة، الواقعة على بُعد نحو 125 كيلومتراً شمال القاهرة بمحافظة البحيرة: "آه هم كل مدى بيشدّدوا. وممنوع يعني ممنوع. ممنوع زراعة الأرز نهائي يعني ممنوع".
وأضاف: "وبعدين إحنا قريتنا بالذات قرية كبيرة. فيها 4200 فدان، وفيها استهلاك تخش على 800 ألف ولا 700 ألف نسمة، قرية كبيرة و4200 فدان حيازة القرية بحالها. ده فيها استعداد كبير، وإزاي تنحرم من الأرز السنين الطويلة كلها، وإذا زرعنا، يتأخد علينا محاضر، ونخشوا (ندخل) الحجز".
وتابع: "أنا لا أنا مجرم ولا أنا عامل حاجة ولا أنا رجل عفش (سيئ). أنا رجل فلاح، مزارع، تأخدني المباحث بالليل الساعة ثلاثة، ونخش (ندخل) في وسط المجرمين والحرامية نقعد معاهم، ليه؟! مش عارف. عشان أنا زارع أرز!".
وتحدث 3 من الفلاحين الآخرين عن تعرُّضهم للموقف ذاته، وقالوا إنهم لن يزرعوا أرزاً.
وقال رضا عبد العزيز، (50 عاماً)، إن أهالي القرية أصبحوا يخافون أن يغادروها.
وأضاف: "يعني مفيش الميه (المياه) زي ما بيقولوا. موال الميه مفيش. زي ما بيقولوا بيأخد الميه بيأخد الميه. لا أي زرع بتأخد الميه، البرسيم بيأخد الميه، الغلة (القمح) بتأخد الميه، كل حاجة بتأخد الميه، والأرز بيأخد الميه زي أي زرع، يعني كلها أسبوع وبتخلص على طول".
وتابع عبد العزيز: "دول كانوا بييجوا يأخدوا بالليل، حوالي عربيتين ثلاثة، يعني ثلاثين، أربعين واحد كل ليلة، يروحوا يخبطوا عليهم (يطرقوا أبوابهم)ويمسكوهم".
وكان عبد الخالق قد أعلن عبر مكبر الصوت، الموجود بمسجد القرية، الشهر الماضي (أبريل/نيسان 2018)، أن الحكومة ستزيد الغرامة إلى مثليها على زراعة الأرز غير المصرح بها، لتصل إلى 7 آلاف و600 جنيه للفدان.
تهديد أجوف
وظلت مصر على مدى زمن تعتبر النيل هبة خالصة لها على الرغم من أن النهر بروافده يمر خلال 10 دول. وكانت من مقولات الرئيس المصري الراحل أنور السادات الشهيرة، ما صرح به عام 1979 من أنه مستعد للدخول في حرب من أجل النيل إذا تهدَّد سريانه.
لكن أي تهديد من إثيوبيا في الماضي، وإلى الآن، لم يكن يعدو كونه تهديداً أجوف. أما السد الجديد، الذي يقطع رافد النيل الأزرق قبل أن ينحدر باتجاه جنوب شرقي السودان، سيمنح أديس أبابا نفوذاً سياسياً كبيراً على جيرانها في دول المصب.
والسودان ومصر هما أكبر المستفيدين من مياه نهر النيل في الزراعة وفي السدود. وتريد مصر أن تتأكد من أن السد لن يؤثر على سريان نهر النيل وتدفقات المياه التي تقدَّر بنحو 84 مليار متر مكعب في المتوسط سنوياً.
وتسعى إثيوبيا إلى الاستفادة من السد لكي تصبح أكبر دولة تولِّد الكهرباء وتصدِّرها في إفريقيا، ولكي توصل الكهرباء لعشرات الملايين للمرة الأولى في تاريخها.
ولم يتمكن البلدان من الاتفاق على ترتيب شامل لتقاسم المياه على الرغم من التفاوض على هذا الأمر لسنوات.
وما من شك في أن سريان النيل سيتأثر خلال تلك السنوات، لكن الأمر الذي لم يُعرف بعدُ هو حجم الأثر. ولا يتوافر سوى القليل من البيانات للإجابة عن هذا السؤال.
وبحسب تقديرات مصادر في وزارة الري المصرية، فإن خسارة مليار متر مكعب من المياه ستؤثر على مليون شخص، وتؤدي إلى خسارة 200 ألف فدان من الأراضي الزراعية.
وقالت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التابعة للأمم المتحدة إن مصر تحتاج إلى استجابة "سريعة وكبيرة" من أجل ضمان الأمن الغذائي خلال السنوات القادمة، لعدد من الأسباب، من بينها الندرة المائية والتطور الحضري وآثار التغير المناخي.
ويقول مزارعو الأرز، الذين اعتادوا البدء في زراعته بنهاية أبريل/نيسان 2018، إنهم قد يتركون أراضيهم بوراً في ظل صعوبة التحول السريع إلى محاصيل زراعية أخرى مثل القطن والذرة، والتي تحتاج إلى تقنيات وآلات مختلفة.