أثار الهجوم المروع الذي تعرضت له مدينة دوماً بأسلحة قالت المعارضة السورية إنها تحمل غازات سامة، تساؤلات عن السبب الذي دفع نظام بشار الأسد لشن ذلك الهجوم، على الرغم من أنه بسط سيطرته على الغوطة الشرقية التي تقع دوما فيها، بالإضافة إلى معرفته بمخاطر استخدام الأسلحة الكيميائية.
وعرّض الهجوم الذي وقع في دوما يوم أبريل/نيسان 2018 نظام الأسد إلى خطر استهدافه عسكرياً، من قبل أميركا وفرنسا وبريطانيا (لا تزال تدرس قرارها بشأن الضربة المحتملة)، وكان من بين الإجابات على التساؤلات التي طُرحت عن دوافع النظام لاستخدام الكيماوي مجدداً، أنه يريد ترويع السوريين بشكل أكبر، ولرغبته في تحدي وإذلال الغرب العاجل عن فعل شيء في سوريا.
لكن مجلة "Theatlantic" الأميركية، قدمت إجابة مختلفة، وقالت إن أحد التفسيرات المُرجحة التي يغفل عنها كثيرون، هو الضغط الذي يتعرض له الأسد من جانب المؤيدين له من الأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد نفسه.
وكان تنفيذ الاتفاق الذي توصل إليه الروس مع "جيش الإسلام" للخروج من دوما، قد فجر غضباً بين صفوف الموالين للأسد، حيث كان يعتقد كثير من العلويين المساندين للنظام، أن "جيش الإسلام" يحتجز ما يصل إلى 7500 أسير علوي في المدينة وحولها، ومن بينهم ضباط، ومدنيون، اعتقلتهم المعارضة السورية لإجبار النظام على تقديم تنازلات، لكن عدد الذين خرجوا لم يكن كذلك.
خسائر كبيرة بين صفوف العلويين
وأشارت المجلة الأميركية، إلى أنه على الرغم من أن العلويين يمثلون نسبةً صغيرة من سكان سوريا، فإنَّهم يشغلون المناصب الرئيسية في النظام السوري، ويسيطرون على جهاز الشرطة، ويدعمون القوات الأساسية التي تدافع عن النظام منذ عام 2011.
وتفتقد الكثير من العائلات العلوية المؤيدة للنظام أحباء لا يبدو أنَّ الأسد يمكنه تحريرهم، في الوقت الذي يدعوهم فيه الأسد لتقديم عدد أكبر من أبنائهم للمشاركة في القتال.
وتُعتبر قدرة الأسد على إعادة هؤلاء الأسرى أمراً حيوياً للحفاظ على شرعيته في نظر هذه القاعدة الشعبية المهمة، وهي حقيقةٌ يدركها كذلك داعموه إيران وروسيا، حيث قال الأسد خلال اجتماعٍ مع عائلاتٍ علوية يوم الثلاثاء الفائت: "لن نتخلَّى عن أي شخص مفقود أو مُختَطَف، وسنفعل ما يتطلبه الأمر لتحريره إن كان ما زال حياً".
وبالنسبة للأسد، فإن إظهار التضامن مع طائفته التي ينتمي إليها ربما يكون أهم بكثير من أي تداعياتٍ لاستخدامه الأسلحة الكيميائية، لا سيما عندما يُنظر إلى سجل الغرب في الرد على الهجمات المماثلة السابقة الذي لا يرقى لمستوى الحدث على الإطلاق، وتصميم حلفاء الأسد على حمايته.
ويخشى نظام الأسد من ردة فعل الموالين له، وبحسب مجلة "Theatlantic" فإن الأسد يحتاج إلى إثبات أنَّه مستعدٌ لفعل أي شيءٍ لتحرير سجناء طائفته العلوية التي أرهقتها الحرب، مضيفةً: "نحن أمام ديكتاتور يُدرِك في داخله كيف من الممكن أن تنهار الأمور سريعاً إن انقلب العلويون عليه".
وعلى مدار الحرب السورية المستمرة منذ 7 سنوات، يرى كثير من العلويين أنَّهم ضحوا بكل شيءٍ للحفاظ على حكم عائلة الأسد المستمر منذ نحو خمسة عقود، وانعكس ذلك في أن كل منزل في معاقل العلويين غرب سوريا تأثر بالفعل في الحرب الدائرة.
وقالت المجلة الأميركية إن "كثيراً من العلويين يرون أن الحرب تدور حول الحفاظ على وجودهم ذاته، بقدر ما تدور حول إنقاذ الأسد".
ملف المفقودين ضغط على نظام الأسد
ومع تفتُّت جيش النظام السوري بسبب الانشقاقات التي حدثت عقب اندلاع الاحتجاجات في سوريا، هرع العلويون للانضمام للميليشيات الطائفية الجديدة. لكن بدا أنَّ الأسد يهتم أكثر بقوات الميليشيات الشيعية التابعة لإيران، ومنها مقاتلو "حزب الله"، الذين غمروا ساحة المعركة أيضاً لإنقاذه.
ورأت "Theatlantic" أن الهجوم الأخير على الغوطة الشرقية، الذي تضمَّن حملة أرض محروقة تدعمها روسيا ضد المعارضة واستمرت قرابة الشهرين، بدا أنَّه يهدف لتغيير تلك المسألة، خاصةً وأنَّ إيران وميليشياتها اضطلعوا بدورٍ هامشي في الهجوم، وبدا أنَّ العلويين والكثيرين داخل النظام دعوا الأسد لإلحاق أكبر قدرٍ من الألم بالمعارضة لضمان إطلاق سراح السجناء.
وطوال شهر مارس/آذار الماضي، خرج عشرات الآلاف من مقاتلي المعارضة والمدنيين من الغوطة الشرقية، ومُنحوا ممراً آمناً إلى إدلب التي تسيطر عليها قوات المعارضة، بعد التوصل إلى اتفاق مع الجانب الروسي.
وبينما كان العلويون يشاهدونهم وهم يرحلون عن المدينة، شعروا بالقلق والغضب: إذ كان ما زال عليهم الحصول على الكثير من المعلومات عن أقاربهم الموجودين في قبضة "جيش الإسلام".
ولكن بعدها انهارت المفاوضات التي تقودها روسيا مع فصيل المعارضة، ولم تكن مسألة مصير الأسرى العلويين قد حُسِمَت بعد، بدا أنَّ الأسد قرَّر حينها أنَّ الوقت قد حان لإجراءاتٍ أكثر عنفاً، فواصَلَ النظام يوم الجمعة قصفه المكثف لمدينة دوما، ووجَّه إنذاراً نهائياً لمقاتلي المعارضة: "ما لم يُكشَف عن مصير جميع الأسرى العلويين أو يُطلَق سراحهم، ستتعرض المدينة لموتٍ ودمار غير مسبوقين"، بحسب ما نقلته المجلة الأميركية.
ثمَّ حدث يوم السبت 7 أبريل/نيسان الهجوم الكيميائي المزعوم على المدينة، الذي تضمَّن مزيجاً محتملاً من غاز الكلور وغازات الأعصاب. وسريعاً ما عاد "جيش الإسلام" إلى طاولة المفاوضات لمناقشة استسلام دوما، مع وضع مصير الأسرى العلويين والأشخاص المفقودين في أعلى أجندة المفاوضات، وهو تطورٌ وفَّر قدراً من الارتياح اللحظي لعائلات الأسرى والمفقودين.
خيبة أمل ولدت غضباً
وبعدها بفترةٍ قصيرة، هرع الرجال والأمهات والزوجات العلويون المكروبون إلى دمشق من مدنهم وقراهم في غرب سوريا، انتظاراً للم شملهم مع أحبائهم، لكن سرعان ما تبدَّل الأمل بالغضب والإحباط عندما خرج نحو 200 أسير علوي فقط من دوما مساء الإثنين.
وشعر أهالي الأسرى بالغليان حين أعلن الإعلام الرسمي للنظام السوري أنَّ هذا هو العدد النهائي للأسرى الذين خرجوا أحياءَ من دوما. وقال الإعلام إنَّ رقم 7500 أسير كان "زائفاً"، نُشِرَ بهدف ابتزاز المال من العائلات اليائسة.
وفي مشهدٍ نادر لا يُصدَّق، نظَّم مئات العلويين الغاضبين احتجاجاً ارتجالياً في وسط دمشق يوم الإثنين، وخرجوا في مسيرةٍ من قاعةٍ مجاورة للسفارة الروسية كانت قد حُوِّلَت إلى منطقة انتظار للعائلات باتجاه واحدٍ من التقاطعات المرورية الأكثر ازدحاماً في العاصمة.
وطوَّقت قوات أمن النظام المتوترة المنطقة بالكامل على الفور، وأرسلت ممثلين عن إعلام النظام لمواساة العائلات، ومنحهم متنفساً لمشاعرهم. ومنعت بقية وسائل الإعلام من الدخول، وفقاً لمراسلٍ مستقل في دمشق شهد الواقعة، تحدث للمجلة الأميركية.
اهالي المختطفين يتجمعون بشارع الثورة مطالبين بحضور الاعلام الرسمي
Gepostet von سوريا فساد في زمن الاصلاح am Montag, 9. April 2018
وصاحت امرأة من المحتجات ترتدي ملابس سوداء ونظارات، بينما كانت تلوح بسروال جينز أمام الكاميرات: "أحضرتُ لابني هذا السروال ليتمكن من ارتدائه حين يُطلَق سراحه. لقد اعتدتُ الوثوق بكم [إعلام النظام]، لكن ليس بعد الآن".
وهذه السيدة ابنها جندي مفقودٌ منذ ست سنوات، ولم يكن ضمن الأسرى العائدين. وحاول مواساتها جعفر يونس المراسل في التلفزيون السوري والمنتمي للطائفة العلوية كذلك.
وقال لها: "اهدئي خالتي، من فضلك، نحنُ نتعامل مع مجموعة إرهابية مسلحة لا يمكن الوثوق بأنَّها ستفي بوعودها"، مشيراً إلى "جيش الإسلام". وأكمل: "وكلكم رأيتم الضغط الذي مارسه الجيش السوري عليها حين حاولت التراجع عن الصفقة".
وأقرَّ مراسلٌ علوي آخر بأنَّه ربما ما زال هناك آلاف المخطوفين والمفقودين من العلويين في أنحاء سوريا، لكنَّهم لم يعودوا في الغوطة. وأصر رجلٌ من المحتجين: "نريد قوائم بأسماء المُختَطَفين، أحياءَ كانوا أم أمواتاً. نريدُ لصوتنا أن يصل إلى فخامة الرئيس بشار الأسد، إليه فقط".
وبحلول مساء يوم الإثنين الماضي، اقتنعت العائلات العلوية بمغادرة الشوارع بعد أن أوقفت حركة المرور. وعادت العائلات إلى قاعة الفيحاء الرياضية وسط دمشق لكنَّ غضبها لم يهدأ.
واتضح هذا من خلال صراخ أم وهي تقول بعينين دامعتين: "ضباط [النظام] أوغاد. والإعلاميون أوغاد كذلك، ولا يقولون الحقيقة أبداً. نريد معرفة مصير أولادنا! بكم بعتموهم؟ وعلى ماذا حصلتم مقابل دماء الشهداء؟ كم؟".
ونشرت صفحات موالية للنظام مقطع فيديو للغاضبين داخل قاعة الفيحاء، حيث ظهر أحدهم وشن هجوماً لاذعاً على وزير المصالحة الوطنية في الحكومة السورية، علي حيدر، قائلاً إنه لم يحقق شيئاً طيلة فترة عمله بالوزارة.
Gepostet von سوريا فساد في زمن الاصلاح am Montag, 9. April 2018
ونقلت المجلة الأميركية تصريحات لعلويين أدلوا بها منذ العام 2014، وقالت إن زوجات ونساء كن يبكين، وأنهن يعلمن أن أحباءهن محتجزون لدى المعارضة في دوما، ويردن من الأسد أن يبذل جهداً أكبر لإطلاق سراحهم.
وبالنسبة لهن، بدا الأسد متكاسلاً للغاية، ومنشغلاً أكثر بصورته كرئيسٍ لكل السوريين وليس بكونه زعيماً للعلويين.
خشية من غضب العلويين
وذكرت المجلة تصريحاً قاله في عام 2013 محمد جابر، وهو زعيم ميليشيا مقرب من ماهر الأسد الأخ الغامض لبشار الأسد، وقال فيه إن الأسد ليس حاسماً كأبيه الراحل حافظ، الذي حكم سوريا لثلاثة عقود وواجه تمرداً مشابهاً في الثمانينيات.
ورأى جابر أن على الأسد أنَّ "يُبيد" المعارضة وعائلاتها، خاصةً المحيطين بدمشق، في مناطق مثل الغوطة الشرقية، وكان هذا التصريح قبل أشهرٍ من الهجوم الكيميائي الكبير الأول على الغوطة في صيف عام 2013، الذي راح ضحيته 1400 شخصٍ تقريباً، وألقت الولايات المتحدة وحلفاؤها باللوم فيه على النظام السوري.
ورغم أنَّ الأسد استعاد السيطرة على معظم الأراضي التي خسرتها قوات النظام لمصلحة المعارضة، فإنَّ الحرب بالكاد اقتربت من نهايتها.
ومع الوقت، مكَّنت الحرب الكثيرين من قادة الميليشيات والقادة العسكريين العلويين، الذين يريدون من الأسد أن يكون أكثر صرامة. وهو يحتاج إليهم حاليّاً على الأقل، ويعلم أنَّ أي صدع داخل طائفته العلوية ربما يكلفه السلطة في الأجزاء التي يسيطر عليها بالفعل في سوريا، حتى مع الدعم الكامل الذي يحظى به من جانب روسيا وإيران.
ومع ذلك، فالأسد مهووسٌ بتصوير نفسه كزعيمٍ غير طائفي لكل السوريين، يرى الصورة الكاملة والتداعيات الأوسع للحرب. وهو ما يحاول إظهاره من حديثه مع الجنود وأفراد الميليشيات خلال زيارته للخطوط الأمامية في الغوطة الشرقية الشهر الماضي للتباهي بالنصر، إذ وقف وهو يرتدي بذلةً رسمية وقال: "المعركة أكبر من سوريا، أنتم الآن تحاربون معركة العالم، الصراع العالمي، وبكل رصاصة تطلقونها على إرهابي تغيرون توازن القوى في العالم، وكل متر يتقدمه سائق دبابة يغير الخريطة الجيوسياسية في العالم".
وتساءلت المجلة الأميركية: "لكن ماذا يعني توازن القوى بالنسبة للعائلات العلوية التي ضحت بأطفالها لإبقاء الأسد في السلطة؟ وماذا تعني لها الخرائط الجيوسياسية؟ من سخرية القدر أنَّه بعد حربٍ مستمرة لسبعة أعوام قتلت أكثر من نصف مليون شخص، وهجَّرت الملايين، وشهدت صعود وسقوط تنظيم داعش، ومشاركة قوى إقليمية وعالمية، ربما يأتي الخطر الأكبر على سلطة الأسد من داخل طائفته العلوية".