يجمع عمال مشرحة بغداد عظمةً بعظمة أشلاء ضحايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهي مهمةٌ بشعة استحوذت على انتباه السلطات العراقية، وأبقت أهالي المفقودين معلقين بين اليأس والرجاء، بحسب ما نقلته صحيفة Wall Street Journal الأميركية.
بعد 3 عقود من الصراع تُوِّجت بحكم تنظيم داعش في شمالي العراق، والذي بات يملك أعلى عدد من المفقودين والجثث المجهولة في العالم. وليس في أرجاء البلاد كلها من تلقَّى تدريباً على الآليات العلمية لاستخراج الجثث سوى 25 فرداً، وبدأت مشرحة بغداد المُلحقة بالمعمل الوحيد في العاصمة المجهز لإجراء فحوصات الحمض النووي تضيق ببقايا الجثث. وزادت الأزمة الاقتصادية في العراق من مشكلة شح الموارد.
ويقول علي هشام (31 عاماً)، العامل في مشرحة بغداد: "أحياناً نعجز عن استقبال مزيدٍ من الحالات بسبب عدم وجود أماكن لتخزين الجثث".
وكان مقاتلو التنظيم يختارون المعالم الطبيعية كبالوعات الصرف الصحي كمواقعَ للإعدام أو التخلص من الجثث، مما جعل من الصعب العثور على الكثير منها. ومن بين المقابر الجماعية المعروفة أيضاً أماكن في أجزاء من البلاد لا يزال تنظيم داعش يشكل تهديداً فيها، ومناطق أخرى لا تزال بحاجة إلى نزع الألغام منها، وتتضمن جثثاً مفخخة.
في هذه الأثناء، يقول أعضاء فريق استخراج الجثث إنَّهم أصيبوا بمشكلاتٍ صحية في الجلد أثناء عملهم على هذا العدد الضخم من الجثث المتحللة. ويقول ضياء عبدالأمير أحد أعضاء الفريق، إنَّ الموت بات شيئاً معتاداً بالنسبة له ولزملائه، وبعضهم تلاحقه المشاهد التي رآها، كمشهد رجلٍ من الضحايا يُطبِق على صورة طفل.
التعافي من الصدمة
ويرى خبراء أنَّه حتى في ظل وجود تحدياتٍ كهذه فإنَّ استخراج الجثث من المقابر الجماعية يُعد جزءاً لا يتجزأ من سعي الأمة العراقية إلى التعافي من صدمة "احتلال تنظيم داعش" لها، وكذلك يعد اختباراً قوياً للمؤسسات العراقية التي تحاول وضع نهاية لأجيالٍ من الصراع.
ويقول كيفن سوليفان، المتحدث الرسمي باسم اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، وهي منظمة دولية مقرها في هولندا تساعد السلطات العراقية: "لا يمكنك أن تحقق الاستقرار إن كان لديك عددٌ كبير من المفقودين". وأضاف سوليفان، أنَّ الإخفاق في التعامل مع قضية المفقودين "ضاعف صعوبة الوصول لتسوية في مرحلة ما بعد الحرب" في بلدانٍ أخرى غير العراق.
لا يملك العراق أرقاماً محددة للمفقودين، ولكن حتى قبل موجة القتل التي أعملها تنظيم داعش في العراقيين، قدَّرت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين عدد المفقودين فيه بما بين 250 ألفاً ومليون شخص، وهي تركة قاتمة لحروبٍ عديدة وعمليات قمعٍ عنيفة شهدها العراق خلال العقود الماضية.
وحتى حين غزا تنظيم داعش ما يقرب من ثلث البلاد في صيف 2014، وطبق حكمه بعنفٍ شديد، كانت السلطات العراقية لا تزال تكتشف مقابرَ جماعية تعود إلى ثمانينيات القرن العشرين، إبان الحرب مع إيران. واستخرج العراق حديثاً بقايا جثث 85 إيرانياً و10 عراقيين قُتلوا في ذاك النزاع في مقابر جماعية جنوبي البلاد.
انتهى حكم تنظيم داعش، العام الماضي، حين طردت القوات العراقية مدعومةً بالتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة المسلحين من آخر جيب وآخر مدينة تحت سيطرتهم في البلاد.
وكان للجهود المبذولة حديثاً لتحديد موقع بقايا 39 عاملاً هندياً قتلهم التنظيم واستخراجها، دور في تسليط الضوء بقدرٍ يسير على التحديات التي تواجهها السلطات العراقية.
حتى الهنود لم يسلموا من داعش
اشترك السيد عبدالأمير في حفر موقع المقبرة الجماعية التي تضم هؤلاء العمال غربي الموصل، الذي تعرف عليه راعٍ عراقي. وفي مقبرتهم الجماعية رقد العمال الهنود جنباً إلى جنب حين قتلهم تنظيم داعش مباشرةً، بعد استيلائه على المدينة عام 2014.
أُرسِلَت بقايا 38 رجلاً منهم إلى الهند، يوم الإثنين، وسُلِّمَت إلى ذويهم. أما الجثة التاسعة والثلاثون فلا تزال في العراق، وذلك بسبب عدم اكتمال فحوصات الحمض النووي عليها.
وقال وزير الدولة الهندي للشؤون الخارجية فيجاي كومار سينغ، في حديثٍ له مع وسائل الإعلام المحلية، يوم الإثنين، في مدينة أمريستار ببونجاب، وهي مسقط رأس معظم العمال القتلى، إنَّ فحوصات الطب الشرعي أظهرت أنَّ بعض الرجال أُعدموا رمياً بالرصاص، دون التوصل إلى سبب إعدامهم.
ورداً على الانتقادات الموجَّهة إلى الحكومة لاستغراقها وقتاً طويلاً لتحديد مكان الجثث، قال سينغ إنَّ البحث لم يكن ليبدأ إلا بعد تحرير الموصل الصيف الماضي. وقال: "لم تترك الحكومة الهندية حجراً إلا وبحثت أسفله".
وبالنسبة لأقارب الضحايا، فإنَّ إعادة الجثث تمثل نهاية انتظارٍ مضنٍ. وتقول أنيتا راني، الزوجة الشابة لجورديب سينغ، الذي ذهب إلى العراق عام 2013 من قرية في بنجاب ليعمل ميكانيكياً في شركة إنشاءات: "لقد أعطتنا الحكومة أملاً كاذباً. كنتُ أعيش على هذا الأمل الكاذب بأنَّه سيعود لي حياً".
تعرف العراق حتى الآن على نحو 300 مقبرةٍ جماعية على أرضه، بما في ذلك مقابر موجودة من قبل غزو تنظيم داعش. وحتى الآن فُتِحَ ما يقرب من ثلثي تلك المقابر، وقُدِّر وجود بقايا ما يقرب من 5 آلاف شخصٍ فيها، وفقاً لناجحة الشمري رئيس مؤسسة الشهداء، وهي هيئة حكومية مسؤولة عن التعامل مع المقابر الجماعية وتعويض أسر الضحايا.
وقالت: "نتوقع العثور على المزيد".
مهمة قد تستغرق سنواتٍ
وفي حين تعد إعادة تجميع هيكلٍ عظمي والتعرف عليه من بقايا منفصلة عن الآخرين أمراً سهلاً، فإنَّ اختلاط عظام العديد من الضحايا في مقبرةٍ جماعية يمثل مهمةً أكثر صعوبة.
ويمكن أن يستغرق الأمر شهوراً قبل تصنيفها، وإعادة الجثث بعد التعرف عليها إلى أقارب الضحايا. ولذلك السبب، فإنَّ بعض الخبراء يحذرون من أنَّ الأمر ربما يستغرق سنوات أخرى عديدة لإكمال العملية.
ويقول زيد اليوسفي، مدير مشرحة بغداد: "نتحدث عن عددٍ ضخم. ومواردنا محدودة لدرجة لا تسمح لنا بالتعامل مع كل هذه الحالات في آنٍ واحد".
ومن بين تلك المقابر الجماعية التي لم تُستخرج منها الجثث بعد بالوعة صرف طبيعية جنوبي الموصل، يُعتقد أنَّها الأكبر على الإطلاق، تخلص فيها المسلحون من المئات -إن لم يكن الآلاف- من ضحاياهم.
ولكن قبل أن يبدأ العمل في المواقع المتبقية، لا بد أن تضع الحكومة العراقية قاعدة بيانات للتعرف على الأشلاء التي ستستخرجها. ويشمل ذلك عيناتٍ من الحمض النووي من مئات الآلاف من الأشخاص ذوي الأقارب المفقودين، الذين فرَّقت الحرب معظمهم.
ويقول ضياء كريم، الذي يُشرف على عملية استخراج الجثث من المقابر الجماعية: "الوقت ليس في صالحنا، كلما مرَّ الوقت زادت صعوبة العملية".