مدينةٌ اسمُها يعد مرادفاً للموت، شهدت أسوأ مجزرةٍ وقعت بأوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. تتوالى فيها صفوف شواهد القبور البيضاء فوق أحد التلال التذكارية. ورغم هذا كله لا يكتفي العمدة الجديد لمدينة سربرنيتشا بإنكار وقوع مذبحة جماعية، بل يريد إقامة مُنتجعٍ صحي عالمي هناك.
ملادين غروجيتشيك، الذي يشغل منصب عمدةِ المدينةِ الأول منذ وقوع المجزرة، التي شهدت إبادة 8300 شخص من الرجال والفتيان المسلمين بالمدينة على أيدي القوات الصربية في الحرب البوسنية -أثار غضب أقارب الضحايا والناجين برفضه قبول وصف محكمة العدل الدولية في لاهاي لما حدث بالإبادة الجماعية، بحسب ما ذكرته صحيفة The Times البريطانية.
وقال غروجيتشيك مدرس الكيمياء السابق وهو يجلس في مكتبه بمجلس المدينة تحت إطارٍ لصورة الجدول الدوري للعناصر الكيميائية: "أعتبرُ ما جرى جريمةً فظيعةً، لكن ما حدث للصرب لم يكن أقل فظاعةً، غير أنَّ المسلمين حظوا بكل الانتباه".
وزعم أنَّ لديه "الكثير من الأدلة" على أنَّ الأسماء المكتوبة على النصب التذكاري ليست كلها لضحايا حقيقيين. وقال: "نعلم أنَّ بعض هذه الأسماء ما زال حياً، أو أتى من مناطق أخرى، الأمر كله مريب".
تتسبب تعليقاتٌ كهذه في إثارة غضب البوسنيين المسلمين الذين قُتلَ بعض أقاربهم وأُلقيت جثثهم في مقابر جماعية في المجزرة التي وقعت عام 1995.
ويقول سادمير نوكيتش الذي كان يبلغ من العمر 9 سنوات حين فقد أباه في المجزرة: "تعيين عمدةٍ صربي لمدينة سربرنيتشا يشبه تعيين أسامة بن لادن عمدةً لمدينة نيويورك".
عاد سادمير إلى البوسنة عام 2006، وهو واحدٌ من مسلمين قلائل فعلوا ذلك. ويقول: "سألتني أمي كيف أعود إلى مكانٍ بالكاد هربتُ منه؟ لكنَّني أرفض أن أكون جزءاً من خطتهم لتهجير المسلمين من هذه المنطقة. انتقامي الأكبر كان أن أعود إلى هنا حياً".
محاولات للتعرف على ضحايا المجازر
تُحدد المنازل المهجورة المدينة الجبلية الصغيرة والمناطقَ المحيطة بها، وتُمثل شهوداً صامتين على المجزرة المروعة. ووفقاً للعمدة، يقطن المدينة نحو 7 آلاف شخص، مقارنةً بـ37 ألفاً كانوا يقطنونها قبل الحرب. كان ثلاثة أرباعهم حينها من المسلمين، أما الآن فالغالبية من الصرب.
وفي مدينة توزلا يقع أكبر مشروع للحمض النووي في التاريخ، وهو معهد الأشخاص المفقودين، حيث أجرى مُتخصصون تحاليل دقيقة على آلاف العظام لضحايا سربرنيتشا المدفونين في أكثر من 500 موقع. تعرَّفوا حتى الآن على 6938 جثة، بعضهم لم يتجاوز عمره الثالثة عشرة.
ولا تزال المئات من البقايا البشرية تصطف على الرفوف في أكياسٍ بيضاء، تنتظر أن تُجمع، وتُفحص، وتُؤكَّد هويتها من عائلاتها. ويقول دراغانا فيوسيتتش كبير الأطباء الشرعيين الأنثروبولوجيين: "هذه العملية دقيقة مئة بالمئة".
قلةٌ من أقارب هؤلاء قد عادوا. ويقول حسن نوهانوفيتش الذي خسر والديه وشقيقه في المجزرة، ونجح في محاكمة الحكومة الهولندية لإخفاق بعثة قوات حفظ السلام التابعة لها في الأمم المتحدة في حمايتهم في مدينة سربرنيتشا: "لقد نجح التطهير العرقي".
وأضاف: "لطالما شُبِّهت البوسنة بجلد النمر لاختلاط أعراق سكانها، أما الآن فكل شيءٍ منفصل. الشيء البوسني الوحيد هو جواز السفر".
ويتسع الشقاق بين الكيانين اللذين أسسهما اتفاق دايتون، الذي أنهى الحرب بعد خمسة أشهرٍ من المجزرة: اتحاد البوسنة والهرسك، الذي صار موطناً لأغلب البوسنيين والكروات، وجمهورية صرب البوسنة حيث الغالبية من الصرب.
غير أنَّ اتفاق دايتون لم يُقدم شيئاً لحل أسباب الخلاف، وإن كان قد أوقف الحرب. فلكل طائفةٍ روايتها ومراكزها لتوثيق الحرب. ينادي الكروات بتحريضٍ من سياسيين في زغرب وبلغراد بحقهم في كيانٍ مستقل داخل البوسنة، فيما يُطالب الصرب بتشجيعٍ من حلفائهم القدامى في موسكو بالاستفتاء على الاستقلال.
الدور الروسي في البلقان
وزارت عصابة راكبي الدراجات القوميين المتعصبين الروس المُسماة "الذئاب الليلية" جمهورية صرب البوسنة الأسبوع الماضي. ويذكر أنَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان قد منح قائدهم ميداليةً قبل 4 سنوات لدورهم في الاجتياح السري لضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا.
وحذر الجنرال كورتيس سكاباروتي رئيس القوات الأميركية في أوروبا من تزايد الضغط السري والعلني لروسيا في البلقان، وقال إنَّ على واشنطن وحلف شمال الأطلسي أن يتحركا.
وقال الشهر الماضي في مجلس الشيوخ: "تعمل روسيا في منطقة البلقان، بينما غضضنا نحن الطرف عنها". وأضاف أنَّ موسكو تدخلت بوضوح في الشؤون السياسية البوسنية الداخلية عام 2016، حين أبلى القوميون بلاءً حسناً في الانتخابات، وأطاح غروجيتشيك بعمدة سربرنيتشا البوسني السابق.
لورد أشدون العمدة السابق، الذي كان الممثل السامي للبوسنة والهرسك منذ عام 2002 إلى عام 2006، يلقي باللوم على الاتحاد الأوروبي لعدم استخدام نفوذه القوي من خلال المساعدات المالية الكبيرة التي يقدمها وتطلعات البوسنة للانضمام للاتحاد من أجل الضغط على السلطات للتركيز على الحكم السليم والمُصالحة.
وقال: "الأمر مفجع. أعتقد أنَّ بروكسل قد تصرفت بلا مسؤولية على نحوٍ مذهل. لقد ضاع كل تقدمٍ أحرزناه، وتركنا تلك الدولة في قلب أوروبا لتتحول إلى ملعبٍ لروسيا والتطرف الإسلامي".
حتى رئيس جمهورية صرب البوسنة ميلوراد دوديك الذي لطالما كان مقرباً من الغرب صار اليوم قومياً يريد الاستفتاء على الانفصال.
حظر دوديك تدريس الإبادة الجماعية في سربرنيتشا أو حصار سراييفو، والتقى بوتين مراراً، وأرسل عناصر من شرطته لتلقّي التدريب على أيدي الروس، وقام مؤخراً بشراء 4 آلاف قطعة سلاح أوتوماتيكي من موسكو.
وقال سيد نومانوفيتش المحرر السابق لصحيفة آفاز أكبر صحف البوسنة والذي حارب في الماضي ضد الصرب إنَّ العديد من أصدقائه قلقون للغاية، ويسألونه عما إذا كانت حربٌ وشيكة.
وأضاف: "أنا لا أريد الحرب، لكنَّنا في وضعٍ أسوأ منها، إنَّنا في تدهورٌ مُخطَّط له. لا أرى مخرجاً للبوسنة في هذا الوضع، الأمر خارج السيطرة".
ويرى نومانوفيتش أنَّ الوضع في سربرنيتشا دليلٌ على ذلك التدهور. ويقول: "تخيل أنَّ عمدة أوشفيتز (معسكر اعتقال نازي في بولندا شهد إباداتٍ جماعية) أنكر الجرائم التي وقعت هناك؟ الأمر لا يُصدَّق، لكنَّه جزءٌ من نمطٍ جماعي".
المكان الوحيد الذي يزوره السياح بالمدينة
ويقول غروجيتشيك إنَّ خوفاً كهذا لا أساس له من الصحة، وإنَّه يريد لمدينته أن تصبح عاصمة للثقافة الأوروبية.
وبناءً عليه، فإنَّه يخطط لتطوير منتجع غوبر، الذي وضع المدينة على الخريطة للمرة الأولى منذ العصر الروماني. ويقول عن ذلك: "مياه المدينة صحيةٌ جداً، حتى إنَّها كانت تباع في الصيدليات لعلاج الأنيميا".
وينفي أن يكون التاريخ المظلم للمكان عامل طردٍ للسياح، قائلاً: "يأتي الزوار من الآن بالفعل، لكنَّنا لا نملك الكثير لنقدمه".
بالتأكيد السبب الرئيسي الذي يدفع هؤلاء لزيارة المدينة هو المركز التذكاري لضحايا المذبحة، وهو المكان الذي لم يزره غروجيتشيك يوماً. وبرر ذلك مستهجناً: "لا أريد أن أذهب إلى مكانٍ لا يرغب الناس بوجودي فيه. والمسلمون لا يذهبون إلى المراكز التذكارية الخاصة بالصرب".