في يناير/كانون الثاني 2018، تم تكريم صورة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة خلال لقاء وزير الداخلية برؤساء البلديات. وأثار الموقف انتقادات معارضين، اعتبروه مشهداً يلخص واقع البلاد في ظل تردي صحة الرئيس.
يترقب الجزائريون الترشح لفترة خامسة وجديدة، من جانب بوتفليقة، الذي تعرَّض في 2013 لجلطة دماغية أفقدته القدرة على الحركة ومخاطبة شعبه، بينما يظهر الارتباك على المعارضة في محاولتها لمنافسة الرئيس.
ولكن هل يستطيع هذا السياسي المحنك الذي أنقذ الجزائر من الحرب الأهلية والبالغ من العمر 81 عاماً الاستمرار في حكم البلاد رغم وضعه الصحي؟
إنها قصة لها فصول عديدة.
قصة الصعود: كيف اكتسب الرئيس المدني هذه الشعبية؟
لدى انتخابه لأول مرة عام 1999، لقي الرئيس ترحيب الكثير من الجزائريين والمجتمع الدولي؛ إذ لم يكن بوتفليقة رئيساً مدنياً وحسب، بعد سلسلة من الرؤساء العسكريين، بل كان أيضاً رئيساً منتخباً انتخاباً حراً، فاز بنسبة 73.5% من الأصوات آنذاك.
وتكمن أهم إنجازاته في أنه كان صانع السلام في أعقاب الحرب الأهلية الجزائرية في الفترة من 1991-2001. فبُعيد انتخابه، جعل بوتفليقة المصالحة في صلب برنامجه، ومنح ملايين الجزائريين الأمل في حياة أفضل بعد "العشرية السوداء"، ما أكسبه شعبية وشرعية كبيرتين، رغم العيوب التي شابت مبادراته، حسب معهد كارنيغي.
في المقابل، فإنه ينظر له على أنه الرجل الذي قام بتعديل الدستور حتى يتمكّن من الترشّح لمنصب الرئاسة، متجاوزاً الفترتين الرئاسيتين المقرّرتين. وتستّر على الفساد في المستويات العليا، وأيّد القوانين التي أضعفت المجتمع المدني. وبمزيج من القمع والهبات السخيّة بفضل ثروة النفط والغاز في الجزائر، تمكّن أيضاً من تثبيت السلم الاجتماعي، ونزع فتيل احتجاجات العام 2011، التي ردَّدت صدى الاحتجاجات في أماكن أخرى في المنطقة العربية، والحفاظ على الوضع القائم.
ومع ذلك، فإن أسعار النفط والغاز، على غرار صحة بوتفليقة، لا تشهد تحسّناً. وعليه، وعدم وجود آلية لتقاسم السلطة بين جميع الأطراف ذات الصلة (أي بين الأحزاب السياسية، والمعارضة، والمجتمع المدني، والسلطتين التشريعية والتنفيذية)، ووجود صراعات داخلية في النظام، تجعل من الصعب تصوّر إمكانية تجديد النظام السياسي في الجزائر.
كيف تحدَّت هذه المرأة بوتفليقة؟
في أوائل عام 2014، قامت معارضة سياسية في الجزائر بمبادرة غير مسبوقة. نظمت أميرة بوراوي، طبيبة نساء من الجزائر وأم لطفلين، مع مجموعة صغيرة جداً، أول اعتصام احتجاجي ضد إعلان ترشيح عبدالعزيز بوتفليقة لولاية رابعة. إذ إن الرئيس الواهن الذي لم يتحدث إلى شعبه على مدار عامين، لم يستطع حتى القيام بحملة من أجل إعادة انتخابه، حسب وصف الكاتب الجزائري عدلان مدي في مقال بموقع ميدل إيست آي البريطاني.
أصبحت بوراوي أيقونة مناهضة لبوتفليقة، والمتحدثة باسم حركة تكتسب زخماً: حركة "بركات". وبعد أسبوع، خرجت إلى الشوارع للتظاهر، وتم اصطحابها إلى جميع مراكز الشرطة في الجزائر العاصمة، بصحبة زملائها النشطاء.
كان عنف حملات التشهير، سواء على الشبكات الاجتماعية أو في الصحافة الخاصة الموالية للنظام، ضد أعضاء "بركات" في ذلك الوقت غير مسبوق. وقد فشلت الاعتقالات والمضايقات الإدارية والإهانات والتهديدات من جميع الأنواع في إبطاء زخم أولئك الذين يعارضون فترة ولاية الرئيس الرابعة. لكن في منتصف أبريل/نيسان من ذلك العام، سحق بوتفليقة خصومه في انتخابات غريبة لم يقم حتى بتنظيم حملة انتخابية لها.
وجد المناهضون لفكرة تولي الرئيس للولاية الرابعة، أي المعارضة الحزبية العلمانية والإسلامية، أنفسهم على نفس الجبهة المناهضة لبوتفليقة، متجاوزين الانقسامات الأيديولوجية التي استمرت منذ اندلاع الحرب في التسعينيات. سمح المناخ بظهور بعض الاحتمالات المستقبلية، حيث يعاد بناء السياسة على أنقاض السلطوية الضعيفة المحتضرة.
على الرغم من ثقل الماضي القريب والشخصيات المتقادمة المتشبثة بالحاضر، فإن الأمل النسبي بتجديد الخيارات السياسية للجزائر يتناقض بشكل حاد مع المشهد غير الاعتيادي، الذي يسبق الانتخابات الرئاسية 2019، حسبما يرى مدي.
قصة التراجع: من يستطيع منافسة الرئيس؟
في 12 مارس/آذار 2018، بعد 4 سنوات من النشاط المكثف على الأرض، وعبر الشبكات الاجتماعية، قالت بوراوي إنها تريد أن ترفع الراية البيضاء، لتواجه حتمية ولاية خامسة لبوتفليقة.
وقالت "كافحت ضد اغتصاب الدستور في عام 2008، وكافحت ضد فترة ولاية رابعة في عام 2014، وسأكافح ضد الفترة الخامسة عام 2019… ومع ذلك، إذا كانت هناك ولاية خامسة على الرغم من كل شيء، فسوف أغادر الجزائر، أعتقد أنه إذا قبل شعب مثل هذا الاحتقار، فأنت بحاجة إلى شعب جديد، بلد جديد. حين تشعر بالغربة بين أهلك، عليك أن ترحل إلى مكان جديد. لا أحب الانقياد الأعمى. لن أتكلم مرة أخرى عن الجزائر. هذا وعد".
في دوائر المعارضة بالجزائر العاصمة، انفجر هذا الخطاب وكأنه قنبلة. انتقد بعض المراقبين بوراوي لما قالته عن الشعب الجزائري، دون فهم أن هذا الوضع يتعلق بخيبة الأمل التي يعاني منها الجزائريون، أكثر من مما يرتبط بكونه خضوعاً لنظام يرفض التغيير.
لكن موقف بوراوي في جوهره ليس تعبيراً عن الإرهاق الفردي أو الإحباط المنعزل: إن الإحساس بأن الرئاسة مدى الحياة لبوتفليقة أمر لا مفر منه يُظهر أن السياسة ماتت في الجزائر.
وينظر لمحاولات المعارضة للاتفاق على تقديم منافس لبوتفليقة على أنها ستؤول للفشل، بينما يرى البعض أن رئيس الوزراء السابق أحمد أويحيى هو مرشح النظام البديل لبوتفليقة في حال عدم ترشح الأخير.
صناع القرار: هل هناك معارضون داخل النظام؟
يقول مدي إنه في الأشهر التي سبقت انتخابات عام 2014، ما آمن الكثيرون بقوة، بأن القوى المضادة داخل النظام لم تكن لتدع انتخاب بوتفليقة يحدث أبداً.
فماذا كانت النتيجة؟
لنأخذ على سبيل المثال مدير الخدمات الأمنية السابق في دائرة الاستعلام والأمن محمد مدين، الملقب بالجنرال توفيق، الذي كان أقوى شخصية في النظام بين أولئك الذين يعارضون فترة ولاية رابعة: أحاله بوتفليقة للتقاعد خلال عمليات تطهير واسعة النطاق لأجهزة الأمن.
حتى وسائل الإعلام الأكثر مقاومة، التي برزت كجهات فاعلة رئيسة على مدى أكثر من 20 عاماً، كان عليها أن تخفف من حدة نبرتها، بعد أبريل/نيسان 2014، حيث عمل النظام على تضخيم عواقب تجفيف إيرادات الإعلانات، في أعقاب انهيار أسعار الطاقة التي يعتمد عليها الاقتصاد.
وضمن هيكل السلطة هذا، قام صناع القرار الآخرون -موظفو الجيش، والخدمات الخاصة، والإدارة المركزية- بالمصادقة على ولاية بوتفليقة مدى الحياة بشكل إجباري، لكن أغلبية الأطراف الفاعلة في المعارضة امتثلت أيضاً لهذا، دون قول ذلك صراحة.
وقصة المستقبل: من يمسك بالسلطة فعلياً؟
تقليدياً كان الجيش يوصف بأنه الحاكم الفعلي في الجزائر، ولكن في عهد بوتفليقة تغيَّر الوضع بعد أن قلَّل من هيمنة العسكريين وزاد الأمر تعقيداً وغموضاً، بعد تدهور صحته، حيث يعتقد أن هناك طبقة حاكمة مركبة تضم العسكريين ورجال الأعمال، يحتل فيها شقيق بوتفليقة السعيد مكانة مهمة، ووفقاً للخبير الجزائري محمد الأمين بومدين "دخلت البلاد في مرحلة بالونات المال، فيما يشبه فترة الحزب الوطني في مصر".
إن حالة فقدان القدرة على الكلام التي تُميز المشهد السياسي الجزائري -باستثناء عدد قليل من الغرباء الذين لا يتمتعون بالمرونة- هي نتيجة لهذا الاعتقاد العميق الذي لا يريد أحد أن يعبر عنه علانية، والمتمثل في أن اختفاء رئيس الدولة فقط، قبل أو بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، هو ما سيغير الوضع.
إنه الرأي المحظور الذي يشترك فيه الجميع، سواء من المعارضة أو النظام، دون أن يجرؤ أحد على التصريح به، حسب مدي.
ويرى أن هذا يفسر جزئياً أيضاً الإيمان بحتمية الوضع القائم، واعتباره جزءاً من الإيمان بالقضاء والقدر، الذي تبنّته قطاعات واسعة من المجتمع الجزائري، مقتنعةً أنه لا جدوى من النضال ضد المراحل البيولوجية المتتابعة، أو إرادة الله، الذي يملك أمر الأرواح في يديه.