"مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً"، والأستاذ عبد الرحمن اليوسفي من الذين ما بدّلوا تبديلاً، فهذا الرجل بصم تاريخ المغرب كمُقاوم للاستعمار وكمُعارض وسياسي محنك، لم يتخلّ أبداً عن مبادئه.
"القائد عبد الرحمن" ورفاقه الذين وردت أسماؤهم في كتاب "أحاديث في ما جرى" قدموا الغالي والنفيس وضحّوا بأرواحهم وسُجنوا، كل هذا في سبيل أن تنعم الأجيال الحالية بالحرية في هذا الوطن، وغادروا المغرب مكرهين، حفاظاً على حياتهم، وبالرغم من كل ذلك، ظلّوا متشبثين بمبادئهم وبوطنهم وكانوا يدافعون عن المغرب من الخارج.. إنه النضال المستميت يا سادة!
وسيبقى الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي إرثاً تاريخياً كبيراً ومميزاً في تاريخ الكفاح السياسي ومقاومة الاستعمار والتسلط والاستبداد، وهو ما تبقى للمغرب من رموز النضال بشتى ألوانه وأساليبه.
– كتاب "أحاديث في ما جرى"
وأنا أقرأ الجزء الأول من كتاب "أحاديث في ما جرى"، تمنيت لو أنني عشت في زمن اليوسفي، بنبركة، بوعبيد وعمر بنجلون… فهؤلاء الشرفاء مثّلوا الوجه العميق والجميل للمغرب في عهد الاستعمار، إنهم من طينة المغاربة العظماء، ذوي المبادئ التي لم يتنازلوا عنها حتى آخر رمق، هؤلاء أحبّوا المغرب وأعطوه الكثير.
ومن خلال هذا الكتاب لاحظت أن الدور الذي كانت تقوم به الأحزاب في القرن العشرين مختلف تماماً عما تقوم به الآن؛ حيث أصبحنا اليوم أمام أحزاب وساسة، يطمحون فقط لبناء مصالحهم الخاصة، متناسين أن واحداً من أساسيات نشوء الأحزاب السعي لتحقيق مصلحة الشعب، فيما مضى كانت الأحزاب تقوم بتفعيل بناء الخيار الديمقراطي، أما الآن فلقد أصبحت تستعمل فقط مصطلح "الديمقراطية" كشعار.
الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي خلال كتاب "أحاديث في ما جرى"، تحدّث عن مجموعة من الأحداث التي عاشها هو ورفاقه، كما ذكر المغاربة بمحاولة الاغتيال التي تعرض لها المهدي بنبركة سنة 1962، بعدما دعا لمقاطعة الدستور، عندما كان يسوق سيارته متوجهاً من الرباط إلى الدار البيضاء، عند قنطرة "واد الشراط" بضواحي بوزنيقة، وهو نفس المكان الذي توفّي فيه وزير الدولة السابق "عبد الله باها" والقيادي الاتحادي أحمد الزايدي، وهنا ربما أراد د. اليوسفي أن يؤكد للمغاربة أن وفاة الزايدي وباها وفي نفس المكان لُغز محير!
– مقارنة بين حكومتي بنكيران واليوسفي
من الواضح أن بنكيران واليوسفي تواريا بعد انتهاء فترة ترؤسهما للحكومة، عن الأجواء السياسية، فاليوسفي عزل وقرر أن ينهي نشاطه كما هو معروف، وبنكيران هو الآخر ومباشرة بعدما قرر الملك محمد السادس إعفاءه من مهمة تشكيل الحكومة، ابتعد عن الحياة السياسية، ولكن إعفاء بنكيران لم يكن فقط مجرد تقدير تقني، كما وقع مع اليوسفي.
والأستاذ عبد الرحمن اليوسفي ترأس حكومة التناوب، بعد خطاب أكتوبر/تشرين الأول 1995، عندما خاطب الملك الراحل "الحسن الثاني" المغاربة من البرلمان قائلاً: "إن البلاد مهددة بالسكتة القلبية"، ومباشرة بعد تعيينه وزيراً أول باشر عبد الرحمن اليوسفي عمله وقام بإصلاحات عميقة ومستعجلة لمواجهة الأزمة الاقتصادية؛ حيث كانت نسبة النمو في تلك الفترة مهددة بعدم تجاوز 3 إلى 4 في المائة، وفي تلك المرحلة كان الاقتصاد المغربي في حاجة إلى نسبة نمو تتراوح بين 4 و5 في المائة من الناتج الداخل الوطني.
ويمكن القول إن "جيوب المقاومة" التي واجهها اليوسفي عندما كان يترأس حكومة التناوب هي نفسها "العفاريت والتماسيح" التي كان يتحدث عنها بنكيران، هذا الأخير الذي جاءت حكومته في مرحلة كان يمر فيها المغرب من وضعية صعبة، تصادفت هذه الوضعية مع أحداث "الربيع العربي"، ولكن المجال الاقتصادي والاجتماعي لم يتحسن في ظل عهد حكومة بنكيران؛ حيث ارتفعت نسبة المديونية، واستمر انخفاض معدل النمو، وارتفعت نسبة البطالة، وتزايد عدد الفقراء لارتفاع أسعار العديد من المواد الغذائية مقارنة مع ضعف القدرة الشرائية، كما يمكن وصف حكومة بنكيران بحكومة "الملاكمة" الكلامية مع المعارضة!
– يا ليت الزمان يعود إلى الوراء
نعم يا سادة.. يا ليت الزمان يعود إلى الوراء حين كانت الأحزاب السياسية مدرسة لتخريج قيادات سياسية وفكرية ومناضلين، يا ليت الزمان يعود إلى زمن عبد الرحمن اليوسفي، لكي نعيش مثل هذه الأحداث، بالرغم من أنها كانت تختزل في طياتها مرارة، إلا أنها كانت تُسهم في بناء "المغرب الحديث"، مغرب الأجيال القادمة.
وسؤالي: هل نستطيع بناء مغرب المستقبل نحن جيل اليوم؟ هذا الذي لا أستطيع الإجابة عنه في ظل أحزاب لم تستطِع أن تهيئ لنا مشروعاً مجتمعياً يواكب المرحلة بدل الأحلام في البرامج الانتخابية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.