دروس من الثورات العربية

كان الحديث عن الثورات العربية التي قاومت الاحتلال الأوروبي لبلدانها في الجزائر وليبيا وسوريا وجنوب اليمن يعكس حكاية أسطورية مثالية في القدوة ومقدمة بشكل بسيط يجعلنا نرى الخير والشر والأبيض والأسود والأبطال والغزاة بوضوح، كما أنه جعل الحكاية بسيطة أيضاً، فقد كنا نحن وكانوا هم، وهم الذين جاءوا لاحتلال البلدان العربية والتحكم بمصيرها ومصادرة خيراتها.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/20 الساعة 02:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/20 الساعة 02:27 بتوقيت غرينتش

وُلدت في 1971 وعشتُ سنواتي الأولى في اليمن أتعلم عن الوطن والوطنية والثورات العربية الأبيَّة.

كان الحديث عن الثورات العربية التي قاومت الاحتلال الأوروبي لبلدانها في الجزائر وليبيا وسوريا وجنوب اليمن يعكس حكاية أسطورية مثالية في القدوة ومقدمة بشكل بسيط يجعلنا نرى الخير والشر والأبيض والأسود والأبطال والغزاة بوضوح، كما أنه جعل الحكاية بسيطة أيضاً، فقد كنا نحن وكانوا هم، وهم الذين جاءوا لاحتلال البلدان العربية والتحكم بمصيرها ومصادرة خيراتها.

مع هذا السرد، لا تملك إلا أن تقف باعتزاز واحترام أمام كل هذه الثورات التي لا شك أنها تستحق ذلك، ثم تأتي أسماء الأبطال والشهداء فتحاول أن تحفظ أسماءهم فهم الذين قدموا أرواحهم فداءً لأوطانهم فبعضهم استشهد وبعضهم بقي ليحمل راية ثورته ويقود وطنه.

بالنسبة لي رسمت صوراً خيالية عنهم وعن الثورات وكان بالنسبة لي هناك فريقان؛ الثوار في صف، والملكية الرجعية كالتي كانت في اليمن، أو الغزاة والاحتلال في الدول الأخرى في الصف الآخر، ثم كبرت لأكتشف أن المشهد كان أكثر تعقيداً مما ظننتُ ومما علموني في كتب التاريخ والوطنية.

كل ما نعرفه عن الثورات والثوار عبر التاريخ أتى من خلال كتب قدمت لنا بشكل مبسط، غُيب فيه الكثير من الحقائق لتوجيه المجتمع لتعظيم طرف على حساب طرف آخر، حتى جاءت "ثورات الربيع العربي"؛ لتسمح لنا بمشاهدة الأحداث و"الأبطال"، وكيف يتم حَبْك الأمور وتسييرها.

كبرت لأرى أن الثوار الذين قادوا الثورات للحرية والديمقراطية استبدلوها ليقودوا حكومات تسلّط ديكتاتورية، واكتشفت أن الثوار أنفسهم كانوا جماعات يتآمر بعضها على بعض وينتصر فيها الأقوى ومن يضرب الضربة الأسرع أو مَن يتحالف مع دولة خارجية أقوى أو أكثر نفوذاً من الدولة التي تؤيد الجماعة الثورية الأخرى.

هذا المشهد، والواقع بعيدٌ جداً عن المثالية، يعكس واقع العربي المزري، ويعكس الأطماع والمخاوف البشرية والبحث عن المصالح الشخصية.

ذهب بريق الثورات من عيني مع أنني ما زلت أؤمن بأهمية ما حدث، فثورة اليمن كان لا بد منها، وثورة الجزائر كان لا بد منها، وثورة ليبيا كان لا بد منها، وثورة مصر كان لا بد منها؛ لتعطي الشعوب فرصة أفضل للحياة، ومع الألم الحاصل فاليمن اليوم حاله أفضل بكثير مما لو استمر الإمام أحمد برجعيته وتخلفه ومحدودية رؤيته في حكمه، والجزائريون استرجعوا كرامتهم واستقلالهم وكذلك الليبيون وغيرهم.

ومع ذلك ظل كل ما نعرفه عن الثورات من خلال ما نقرأ ونسمع من أبواق الإعلام الموجه ومن صفحات المناهج المعتمدة، ثم جاءت "ثورات الربيع العربي"؛ لتُلقننا درساً واقعياً في "الثورة" وأبعادها، ولنرى مشاهدها وتداعياتها تتعاقب أمام أعيننا.

لم تكن "الثورة" التي شهدتها نظيفة كما كنت أتوقع، انطلق الشباب الحالم الطامح إلى مستقبل أفضل؛ ليعلن ثورته ضد التوريث وضد الامتهان وضد الفساد وضد التسلط ومصادرة الحريات، وتحمسّت كثيراً بأمل للتغيير فالشعوب العربية والشباب العربي الذي يمثل الفصيل الأكبر في المجتمع يستحق أن يعيش وأن يكون أكثر إنتاجاً بعيداً عن بيئة الإحباط والفشل والإدارة العقيمة التي تسيطر على الكثير من مجتمعاته.

بدأت ملامح الثورة بسيطة في البلدان التي انطلقت منها، شباب متحمسٌ، حالمٌ، وطامحٌ لمستقبل أفضل، ثم بدأ المشهد يتغير بدخول الأحزاب والجماعات المختلفة والشخصيات المختلفة؛ لتشكل أقطاباً للثورة وتتنازع قيادتها والسيطرة حتى على مكبرات الصوت ومنصات الإلقاء وساحات الإسعاف.

بعدها أصبح واضحاً أن الثورات ليست دائماً بريئة، وليست دائماً طاهرة، فهناك مَن يضحي ويستشهد مؤمناً بالأهداف الأسمى للثورة، وهنالك من يبيع ويشتري بتضحياته، وبينما هنالك مَن يفاوض على المصلحة الكبرى، هنالك آخرون وهم الأكثر يفاوضون على مصالح حزبية أو شخصية تمكّنهم من السلطة.

رأيت أيضاً كيف يستخدم الكذب بمنهجية لتشكيل وعي الناس وتأجيج عواطفهم ودفعهم نحو الميادين، كما رأيت أيضاً اصطفاف القنوات الإعلامية والإعلاميين الرخيص مع الأطراف المختلفة وانتقائية الطرح والتغطيات، بل وانحطاط اللغة الإعلامية إلى أدنى درجاتها.

لم تكن ثورات الربيع العربي نظيفة أو مثالية كما توقعتها، وهذا هو الدرس الذي تعلمته ليشكل إطاراً هو الآن المرجعية التي أستخدمها في محاولة فهم الثورات التي سبقت أو بالخروج بأي استنتاجات عنها.

هل يمكن لنا بالفعل قياس الثورات الماضية بمرجعية ثورات الربيع العربي؟ هذا سؤال سيجيب عنه المؤرخون والمختصون، سأكتفي بالقول بأن ما حدث خلال الثورات العربية وما شاهدناه كان تطبيقاً فاضحاً لها كشف لنا الكثير عما يجري في دهاليز السياسة والمؤامرات في زمن كانت فيه الإنترنت والتواصل والقنوات الإعلامية والتغطية الشعبية الذاتية للأحداث تفضح أغلب ما يجري خلف الكواليس وما يحاول الكثير إخفاءه.

أتخيل أن الكثير من أحداث وأسرار ومؤامرات الثورات في الماضي دارت وغُيبت في زمن اللانشر واللاوعي حين كان التعتيم فيه يسيراً، وإلا لكنا اكتشفنا حقيقتها بسهولة.

في ثورات الربيع العربي شاهدنا طموح الشباب ومصداقية أحلامهم واندفاعهم وثورتهم الحقيقية ضد الامتهان ومصادرة الحريات والفساد تصطدم مع مصالح الأحزاب والجماعات، ولأن الأخيرة كانت الأقوى والأكثر تنظيماً فسرعان ما استولت على نظم وأطر الثورة، وبدأت توجيهها لتوسيع نفوذها والوصول إلى السلطة التي حلمت بها لسنوات طوال. ثم تعقّد المشهد أكثر بدخول الفئات والأشخاص المدعومين من دول خارجية لتنفيذ أجندات خاصة بها تخدم سياسات خارج إطار الاحتياج المحلي والأهداف الأصيلة والحقيقية لثورة الشباب.

في المشهد الإعلامي عمل على تغطية هذه الثورات قنوات تلفزيونية محلية وخارجية بأجندات واضحة لتوجيه الشعوب للدفاع عن وجهات نظرها، أو لتأييد الاتجاه الذي تدعمه أو تشجعه القناة، والذي أيضاً يعكس سياسة الدولة المالكة للقناة داخلية كانت أو خارجية.

إذاً اتضح لنا أن الثورات لا تتحرك بسهولة ولا تنتصر بسهولة، فبالإضافة إلى التحديات الداخلية، يجد الثوار الحقيقيون أنفسهم محاطين بالانتهازيين من الأشخاص والأحزاب والمدسوسين؛ ليواجهوا سلطة حاكمة قمعية يؤيدها إعلام يستخدم الكذب والخداع للتلاعب بعواطف وعقول الناس، بل إنه ينحدر بخطابه إلى الانحطاط أحياناً في مقابل مواجهة "الثورة".

يبحث الثوار الحقيقيون والمزيفون الانتهازيون عن دعم خارجي فيجدونه في دول تهرول لنجدتهم ودعمهم، وتجد السلطة نفسها هي أيضاً تبحث عن دول أخرى تؤيد بقاءها والقضاء على الثوار وبوادر التغيير في نظامها، وهكذا تتكاثر الأطراف وتتعقّد وتلتقي مصالح وتتعارض أخرى؛ ليصبح المشهد ضبابياً مربكاً تضيع فيه المبادئ والقيم التي تحدَّث عنها الثوار الحقيقيون والصادقون، ويبقى منها التنازلات والبيع والشراء والتآمر بأحلامهم.

تنتهي الثورة ويستشهد لأجلها أشخاص بعضهم آمَن بمبادئها وبعضهم آمَن بدعوة انتهازي أو حزب ركب موجتها، ثم يستمر الانتهازيون الذين بقوا بالمؤخرة يزايدون على الآخرين بوطنيتهم، ويخوّنون مَن يشاءون ويعاهدون أنفسهم بأن دماء الشهداء لن تذهب سُدى حتى يحققوا كل أهدافهم الشخصية.

وبينما تبقى عظام الشهداء والضحايا في القبور يسكن قادة الثوار الانتهازيون القصور، وتمر مشاهد ثورة أخرى؛ لتكشف كما كان خادعاً ذلك السرد الوطني والثوري البسيط للثورات التي سبقت، وكم سيكون غبياً ومخادعاً ذلك السرد الذي سيتحدث عن ثورات الربيع العربي، سواء من هذا الطرف أو ذاك، وهو لا ينصفها بإيجابياتها وسلبياتها، بتحدياتها وانتصاراتها، بشهدائها ولصوصها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد