يتجه العراق صوب أهم انتخابات برلمانية بعد إعلانه النصر العسكري على داعش في ديسمبر/كانون الأول 2017، لكن خلافاً لتلك الحرب التي وحَّدت العراقيين بجميع مكوناتهم وألوانهم لدرء الخطر الكبير، أصبح التشظي السياسي والانتخابي سيد الموقف حتى داخل التحالفات القومية والمذهبية التي كانت "نصرة الطائفة" توحّدها رغم اختلافاتها الداخلية الكبيرة حول طُرق تقاسم النفوذ والمكاسب.
المكون الشيعي الذي يحتكر منصب رئاسة الوزراء بناءً على شرعية الأغلبية ووفق نظام المحاصصة، ينقسم في هذه الانتخابات على خمسة تحالفات رئيسية، وعدد من القوائم المحلية المتفرقة.
أبرز القوائم الوليدة المتنافسة على رئاسة الوزراء في هذا الوسط الذي يصنع الملوك منذ 2005 تتمثل بقائمة رئيس الوزراء حيدر العبادي، المدعوم أميركياً بشكل شخصي، وتحمل اسم "النصر" تيمناً بالنصر على داعش، إضافة إلى قائمة "الفتح" التي تضم أبرز فصائل الحشد الشعبي التي قاتلت داعش وساهمت في إنجاز النصر عسكرياً، والمحسوبة على النفوذ الإيراني لموالاتها طهران وسعيها لتكرار تجربتها السياسية والدينية في بلاد الرافدين.
القائمتان الفتيّتان "النصر" و"الفتح" انطلقتا بموازاة تحالفات تقليدية يقود أحدها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي "ائتلاف دولة القانون"، وآخر يدعمه الزعيم الشيعي مقتدى الصدر ويحمل اسم "سائرون للإصلاح"، إضافة إلى قائمة تيار الحكمة بقيادة عمار الحكيم حفيد زعيم الطائفة الراحل محسن الحكيم.
ورغم دخول القائمتين الوليدتين من رحم الإنجازات السياسية والعسكرية المتحققة ضد داعش، في تحالف انتخابي تحت قيادة العبادي عُد "انتصاراً كبيراً للوطن" من قِبل أنصار الجانبين، إلا أن اتحادهما الهشّ أساساً بسبب طبيعة كل منهما، لم يدُم لأكثر من يوم واحد؛ ليتعمق الانقسام الانتخابي الشيعي أكثر فأكثر على شاكلة الوسطين الكردي والسُنّي المنشطرين لتحالفات وقوائم متفرقة.
قادة القوائم الشيعية المنشقة برروا انفصالهم عن البعض بـ"الأسباب الفنية الانتخابية" وأبقوا الباب مفتوحاً أمام تحالفات مستقبلية بعد إجراء الانتخابات لتشكيل "الكتلة الأكبر" داخل قبة البرلمان، كما حصل في 2010 حرم بموجبها إياد علاوي وقائمته "العراقية" الفائزة من تشكيل الحكومة.
إلا أن المؤشرات والتسريبات تشير إلى وقوف الصراع حول منصب رئاسة الوزراء وحصصهم الوزارية خلف الانهيارات السريعة التي أثارت استغراب المراقبين، وأصابت الجماهير الشيعية بالذهول، فضلاً عن عدم الاتفاق حول أرقام وتسلسل المرشحين في الدوائر الانتخابية وفي مقدمتها العاصمة بغداد ذات الرمزية الكبيرة لكل القوى السياسية المتنافسة.
قادة في "ائتلاف دولة القانون" بقيادة المالكي عدّوا ما جرى مع تحالف خصمهم العبادي "خريفاً انتخابياً" وتعثراً من البداية بسبب تساقط الأوراق التي بحوزته واحدة تلو الأخرى، إلا أن مقربين ومستشارين من العبادي طرحوا رؤى وتفسيرات مغايرة وعزوا سبب الانشقاقات إلى متانة شروط تحالف "النصر" وصعوبتها "لدى من يريد إعادة إنتاج المحاصصة والصفقات السياسية التي حكمت الفترات السابقة من العملية السياسية العراقية".
وخارج فلك القطبين المتنافسين تشير التسريبات إلى أن شروط العبادي للعمل الانتخابي المشترك لم ترُق لحلفائه، وكذلك اشتراط الذين تقربوا منه النزول متكافئين في تحالف "النصر"؛ حيث رفض رئيس الوزراء النزول معهم كأنداد وشركاء متكافئين لقائمته الانتخابية، بل أرادهم كمرشحين وشخصيات لركوب قطار "النصر"، في ظل شعوره بأنه صاحب الحظ الأكبر لاستقطاب أصوات الناخبين، بسبب الإنجازات التي تحققت في ولايته من تحرير المدن المغتصبة من قِبَل داعش، وعبور أزمة مالية خانقة جراء انهيار أسعار النفط وتداعيات الحرب، صاحبها انفتاح العراق بوجه جيرانه العرب والخليجيين، وسيطرة بغداد على مساعي الكرد للاستقلال عن العراق في سبتمبر/أيلول 2017 عبر تنظيم استفتاء شعبي بمساندة طهران وأنقرة.
ورغم التفاؤل الذي يسود معسكر العبادي بالفوز، فإن التكهنات والشكوك تتزايد حول سهولة حصول الأخير على ولاية ثانية في ضوء المنافسات الأخيرة وتشتت القوى الشيعية إلى تحالفات شبه متساوية في القوة، يقودها زعماء يطمحون لكرسي الحكم مثل العبادي، وفي مقدمتهم نوري المالكي وهادي العامري، وسط تكهنات بتأرجح نتائج التحالفات الرئيسية الشيعية الأربعة بالحصول على أقل من 50 مقعداً برلمانياً؛ نظراً لانحصار تنافسها على 185 مقعداً مخصصة للدوائر الشيعية من أصل 328 مقعداً برلمانياً، ما ينذر بشراسة التنافس على تسلّم كرسي الحكم بشكل سريع بعد الانتخابات، والذي يتطلب الحصول على 165 صوتاً نيابياً على الأقل ومن مكونات مختلفة.
وفي ظل هذا التشرذم الشيعي الانتخابي يُتوقع أن يكون الكُرد والسُّنة هدفاً لاستقطاب التحالفات الشيعية الطامحة بالفوز من أجل تأمين الأغلبية.
ورغم تحرك العبادي على عدد من القوى الكردية التقليدية والفتية، وكذلك مده الجسور مع قوى سُنية محلية ووجوه جديدة في المحافظات المحررة لتجاوز مشاكل تشتت القوائم الشيعية، فإن المؤشرات توحي بأن المفاوضات مع الكتل أصبحت بالنسبة لمعسكره أصعب مما كانت في السابق؛ نظراً لكثرة الساعين للمنصب من الوسط الشيعي، وعدم استطاعة أي منهم اكتساح النتائج بفارق كبير مثلما حدث في الانتخابات السابقة التي اكستحتها قوائم حزب الدعوة، الذي يغيب عن هذا الاستحقاق ككيان سياسي؛ لمنع انشقاقه بسبب شراسة المعركة بين قادته، الذين توزعوا على معسكرَين انتخابيَّين متصارعَين بدل قائمة موحَّدة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.