عايش التونسيون منذ اندلاع ثورة الحرية والكرامة نسقاً متسارعاً من الأحداث والمواقف جعل من تجربة السنوات السبع بعد الثورة أكثر زخماً وحركيةً من الفترة الفاصلة من الاستقلال إلى اندلاعها.
وخلال هذه الفترة كانت البلاد مخبراً كبيراً مفتوحاً للأفكار والتجارب والصراعات الأيديولوجية والهوية المزيفة، ومسرحاً لمعارك النفوذ والمصالح، والفاعلون الأساسيون في هذا كله هم الطبقة السياسية برمّتها إضافة لمنظمة الأعراف والاتحاد العام التونسي للشغل، دون السهو عن التدخل الأجنبي المباشر أو عبر الوكلاء المحليين أيضاً.
واليوم وكنتيجة لما حصل منذ اندلاع الثورة يجد التونسيون أنفسهم أمام وضع اقتصادي واجتماعي متردّ ينذر بالكارثة الكبرى.
فهل السبع سنوات منذ اندلاع ثورة الحرية والكرامة في تونس لم تكن كافية لتتضح الرؤية والسبيل الواجب على التونسيين السير فيه لبلوغ الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المنشود، أم أن الأمر يتعلق بعقم منظومة الحكم والمعارضة ما بعد الثورة عن صياغة رؤية جديدة لمشروع وطني خارج إطار إعادة إنتاج الصيغ القديمة المفرغة من المحتوى؟
ألا تتم بلورة رؤية متكاملة وألا يتم الالتفاف حول مشترك جماعي يكون قاعدة للعمل على إيقاف تدحرج البلاد الكارثي نحو الهاوية يمكن أن يكون مقبولاً في وضع محلي وإقليمي صعب ومتغير، وسط رغبة الجميع في الوصول للسلطة (المنظومة الجديدة ممثلة فيما اصطلح عليه بالأحزاب الثورية) أو استرجاعها (المنظومة القديمة) أو المحافظة عليها (حزب النهضة) والتأسيس لنظام ديمقراطي. لكن بعد انتخابات 2014 التشريعية والرئاسية، ورغم تحفظاتنا والبعض على سيرها ونزاهتها، فإنه كان من المنتظر أن تتخلص الساحة السياسية التونسية من معارك طواحين الهواء وتقيّم الأحزاب تجربتها، وتنتقل إلى التنافس على قاعدة تقديم الحل الأمثل للوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي باستمرار والقابل للانفجار في كل لحظة، وأن يتم ضبط مربع الصراع في البرامج والحلول، وهذا ما لم يحصل.
ثلاث سنوات مرّت منذ انتخابات 2014 وها نحن على مشارف الانتخابات البلدية نعيش وضعية اقتصادية واجتماعية كارثية لم تشهد لها البلاد مثيلاً منذ عقود، ولم تتغير الطبقة السياسية لا على مستوى الخطاب ولا على مستوى الممارسة، واقتصرت حيويتها فقط على الشكل والظاهر فتغير انتظامها وتشظّى بعضها وتأسست منه أحزاب جديدة وغيّرت أحزاب أخرى لافتاتها الحزبية.
استمر "القديم" المتمكن من استعادة الحكم في إعادة صياغة نفس سياسات ما قبل الثورة، لكن بشروط جديدة محددها الدستور، وإن ظل يحاول طمسه وتجاوزه ومحاولة العودة لما قبله.
أما "الجديد" المتمثل في طيف الأحزاب المنتسب للثورة فقد استكان لدور المعارضة، لم يتمكن من بناء حاضنة شعبية، وظل حبيس البرلمان والمنابر التلفزية وانحصرت مهمته في لعب دور الحارس للمسار الديمقراطي والمؤسسات الدستورية المنبثقة عنه، والدفع نحو استكمال مسار الحكم المحلي دون أن يكون له تأثير يُذكّر.
تميز الخطاب السياسي وما زال لحد الآن والمتوقع أن يظل لغاية الانتخابات البلدية إذ لا شيء ينبئ بعكس ذلك، بكونه مشبعاً بقدر كبير من العدائية تترجم على مستوى المنطوق بالتشنج في الخطاب والرد والتعليق، وعلى مستوى المضمون بالميل إلى التشدد في المواقف والتوصيف المبالغ فيه والانطباعية واستسهال الاتهامات والتزييف ومهاجمة الأشخاص أو الأحزاب، عوض نقاش الأفكار للحد الذي يتحول معه الخطاب أحياناً إلى خطاب تحريضي.. هذا كله يضاف إليه المضمون الإقصائي المقسم والمحطم لجسور لا بد أن تدعم لرأب صدع انقسامات مختلفة اجتماعية واقتصادية وجغرافية خلفتها سياسات عقود من التهميش والإقصاء.
يبدو أن أحزاب الحكم كما أحزاب المعارضة لم تعِ بعد فداحة الوضع الحالي للبلاد، أو أنها منشغلة عنه بحرب التموقع وتقديم المصلحة الحزبية على المصلحة الجماعية على عكس ما تدعي كلما أُتيحت لها الفرصة.
و الحال أننا بلغنا مستويات غير مسبوقة من الاستهتار بمستقبل البلاد بسبب انعدام كفاءة من يحكم وفشل من يعارض، فالبلاد مفتوحة على كل الاحتمالات حيث بلغت نسبة التضخم لشهر يناير/كانون الثاني من سنة 2018 حدود 6,9% وبلغ العجز في الميزان التجاري بنفس الشهر 2111,7 مليون دينار، وبلغت نسبة بطالة الـ15,5% للثلاثي الرابع من سنة 2017، هذا مع تواصل انخفاض قيمة الدينار أمام اليورو والدولار وانخفاض مستوى الاحتياطي من العملة الصعبة؛ ليصل لحدود 80 يوماً بقيمة 11332 مليون دينار بتاريخ 1 مارس/آذار من سنة 2018.
أزمة القديم تتمثل بالأساس في كونه قديماً فهو يوظف كل قواه لبلوغ غاية تسكن الماضي، يرى فيها الوضع الأمثل والأكثر ملاءمة له وللبلاد فهو رجعي يؤمن بمستقبل يحمل ملامح الماضي.
فلا هو قادر على إدارة البلاد ولا على تقديم حلول مبتكرة تخرج البلاد من الأزمة التي تفاقمت منذ 2014 بسبب انعدام الكفاءة والأخطاء الفادحة التي اقترفها أثناء حكمه بمبادئ وطريقة تفكير لا تتماشى، وما طرأ على الوضع المحلي والإقليمي من تغيير.
أما أزمة الجديد فهي عدم قدرته على الفعل والتأثير من جهة رغم تَوقِه للتجديد واستكمال التأسيس وتثبيته فهو منعزل شعبياً ولا قوة ضغط له في الشارع.
ومن جهة أخرى، ظل أسير نفس الأخطاء في الخطاب والتصورات فلم يواكب الانتقال الذي وقع بعد انتخابات 2014 من وضع التأسيس (الدستور والمسار الديمقراطي) إلى وضع تثبيته عبر مؤسساته الدستورية وتفعيل الحكم المحلي.
يشترك القديم والجديد وهما يمثلان كامل الطبقة السياسية الحالية في كونهما ظلّا أسيرين يتحركان ضمن أسوار مبادئ ونسق فكري ونمط سلوك متوقف في لحظة زمنية سابقة لاندلاع الثورة بالنسبة القديم وسابقة لانتخابات 2014 بالنسبة للجديد، فكأنما قد أصابهما ما يصيب جهازاً إلكترونياً تعرض نظامه لخلل في التحديث، فاستمر بالعمل وفق النسخة القديمة من نظام التشغيل.
لضرورة الفاعلية والجدوى والصلاح خاصة وجب أن يكون النسق الفكري متجانساً أولاً والأهم أن يكون حياً، أي أن يكون محايثاً للواقع خاضعاً لعلاقة تأثر وتأثير معه وفي تطور مستمر، وهو ما لا تتميز به الأنساق الفكرية لكافة الطبقة السياسية التقليدية التونسية.
ذلك أن المبادئ رغم ثباتها تتطور فهي حية كالفكر الذي كانت محصلته تتفاعل بمنطقها الخاص مع ما يطرأ من أحداث ويتشكل من ظروف ومواقف فتفرز قرارات منسجمة والمنطق العام لهذه المبادئ والنسق الفكري الذي يحكمها.. وإن كان عكس ذلك غدت هذه المبادئ وما نتج عنها من مواقف وقرارات مجرد أفكار متحجرة تجاوزها الزمن كمثل ماء ركد ولم يجر، وكان للزمن فيه فعل فأصبح يضر أكثر مما ينفع.. كذلك من تسلح بالمبادئ وألجم العقل عن التفكير والتدبر فيما يلقي الزمن من ظروف ومواقف فقد أصبح كمن تستّر بلباس التقوى وما هو بتقي، أو كمن ادعى التطبب وما هو بطبيب، وكلاهما بلاء شديد على الناس ولو أرادا لهم الخير تماماً كما هو واقع حال أحزاب الحكم المعارضة.
الوضع الحالي بالبلاد، سواء السياسي منه أو الاقتصادي والاجتماعي، بحاجة لتيار فكري حي يكون نتاج سياقه التاريخي وواقعه المعيش ليستنبط حلولاً مبتكرة ومجددة، ويقدم خطاباً سياسياً اقتصادياً واجتماعياً جامعاً يتجاوز الطبقة السياسية الحالية الغارقة في دوامة صراعات الزعامات والأفكار القديمة الممجوجة والشعارات التي أفرغت من محتواها، ومحاولات توريث صراعاتها الجوفاء للأجيال الشابة التي جاءت لساحة السياسة بمنسوب عالٍ من الحرية وأفق رحب من إمكانات الفعل وقوة تفكير وتغيير جبارة؛ لتجد في الأحزاب التقليدية مقبرة وثلاجة فيها تتجمد كل الطاقات أو توظف فقط لخدمة "حراس المعابد القديمة" لا لخدمة الصالح العام.
تونس بحاجة لمن يفكر "خارج الصندوق"، أي أن يفكر بمنطق الثورة، وأن تكون الحلول من نفس المنطق.
والحل لا يكمن لا في تواصل الإقصاء ولا في تواصل الصراع، وإنما في البحث عن المشترك الجامع، وهو أكثر مما نظن، وأوله هو القناعة بضرورة العمل على وقف تدحرج البلاد نحو الهاوية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.