يقول الفيلسوف التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا في روايته "الضحك والنسيان": "إن الخطوة الأولى لاستئصال شعب هي محو ذاكرته عبر تدمير ثقافته وتاريخه، ثم تكليف شخص آخر لصنع هوية جديدة لهذا الشعب"، ويبدو أن قادة وطنه الثاني فرنسا قد أجمعوا على اختلاف مشاربهم على السير في نهجهم الاستئصالي وسياساتهم الكولونيالية في التعامل مع مستعمرات الإمبراطورية الفرنسية القديمة، سلاحهم في ذلك ضرب الهوية، ومبتغاهم تثبيت نجاح خطة الانتقال إلى الاستعمار غير المباشر بعد ارتفاع التكلفة البشرية والمادية للاستعمار المباشر.
استيقظنا في الأيام الأخيرة في تونس على وطن أكثر جمالاً ونظافةً وبهاءً من ذلك الذي عهدناه وألفناه منذ سنوات خلَت، تجملت مدن العاصمة أو تحديداً تلك القريبة من مقرات السيادة أو التي قد تقع تحت مرمى بصر الضيف الحاكم بأمره، واستعادت مدينة باردو شيئاً من عنفوانها الغابر ولو لساعات قليلة، واستترت أتربة الأرصفة في المدينة العتيقة تحت الزرابي المنثورة، وانتشر عمال النظافة على طول طريق المطار تصيداً لما قد تأتي به الرياح اللعينة المتآمرة الخبيثة من أتربة قد لا تروق لضيف تونس.
لم يكن هذا المشهد الكاريكاتوري ليثير السخط والسخرية لو أن الدافع المكنون من ورائه إكرام الضيف وإظهار واجب الاحترام له، أو لو أنه كان مشهداً مألوفاً يتكرر بتلك التفاصيل وذلك الحرص مع كل زيارة دولة، لكننا ندرك أنه ترحاب يحظى به زعماء فرنسا دون سواهم، كما ندرك أن الدافع ليس الجينات الطائية المتوارثة من مشاهير الكرماء عبر تاريخنا التليد، وإنما جينات "الصبايحية" و"السبايسية" و"الحركيين" الذين كانوا يد فرنسا الطولى في المغرب العربي.
يزداد المشهد إثارةً للضحك حتى البكاء حين يجتمع شمل معظم نواب الشعب بعد أن عجزت مشاريع القوانين عن لمّ شملهم طيلة سنوات عجاف، تونس تتجمل بشوارعها وعمالها وسياسييها، بحكامها ومعارضتها، بنوابها الذين أضاعوا الطريق إلى باردو، تونس تتحد تماماً كما اتحد ذات يوم قادة الأمة الإسلامية في الرياض لحضور قمة ترامب، كأن الجامع دوماً لشتات هذه الأمة هما جزرة وعصا يحملهما إمبراطور غربي، ولو أن الفوارق بين الرجلين تبدو في الظاهر كبيرة، فإن كان غرور ترامب طاغياً على شخصيته، فإن ماكرون كان أقرب في طباعه إلى المستشرقين الذين يتقنون تمثيل دور العاشق لصحاري العرب ومدنهم وتاريخهم، حتى إن الصحافة الغربية قد شبهته بلورنس العرب، أشهر جواسيس الغرب في المنطقة العربية.
ربما لو وُلد ماكرون في بدايات القرن الماضي لكان واحداً من المستشرقين الذين جابوا الصحاري العربية وحاكوا الدسائس فيها وسطروا سياساتها ورسموا مستقبلها القاتم الكئيب الذي نحياه اليوم، بابتسامته التي حرص على توزيعها يميناً وشمالاً وبطربوشه الأحمر وهو يتجول في أزقة المدينة العتيقة المغطاة للمرة الأولى في تاريخها الحديث بالزرابي، بدا لنا ماكرون كمَن يتمسك بالظهور في ثوب المستعرب المتعاطف مع هذه الأرض، أو كمن يحرص على إبراز تواضعه تدفعه في ذلك الرغبة في تصيد الثناء.
ومع إتقان قادتنا لفن زرع الجمهور المناسب أمام الضيف تكتمل المسرحية فيخرج الزعيم تطوقه أمواج الجماهير الهاتفة بحياته وحياة فرنسا، ولكي لا تشوب الزيارة شائبة كان من الضروري التلويح بعصا الأمن في مواجهة بعض الأقلام التي لم تغفر بعد لفرنسا جريمة احتلالها للبلد طيلة عقود سبعة وخطيئة عدم الاعتذار وإثم النهب المستمر لمقدرات البلاد.
كشف ماكرون في كلمته التي ألقاها أمام مجلس الشعب عن جزء يسير من برنامج زيارته، ونعتقد أنه قد ترك الجزء الأهم للغرف المغلقة والحوارات الثنائية مع السبسي، وإن انطلقنا بما صرح به، فإننا سنتوقف عند خمس نقاط بدت لنا كافية لإسقاط أقنعة فرنسا وكشف حقيقة أسباب الزيارة وزبد الوعود بدعم الاقتصاد التونسي الذي لم تقصم ظهره سوى سياسة الاحتكار الفرنسية:
1. حديث ماكرون عن "أمة تونسية" وليس عن مكوّن لأمة عربية أو إسلامية أو حتى مغاربية يعيد إلى الأذهان الأكاديمية البربرية والمساعي الفرنسية لإنشاء ظهير بربري في المغرب، وفصل أقطار الشمال الإفريقي عن محيطها العربي، ثم تشتيت هذه الأقطار فيما بينها، وزرع بذور الخلاف بين حكامها، وهي مؤامرة قديمة قدم الاحتلال الفرنسي لدول المغرب، ومصطلح "الأمة التونسية" ليس حديثاً، فقد سبق وتبناه عدد من سياسيي هذا البلد، أبرزهم علي البلهوان السياسي الراحل صاحب كتاب "نحن أمة"، والحبيب بورقيبة الذي تبنى هذه النظرية ودافع عنها في خطابه الشهير يالبالماريوم أمام الزعيم الراحل معمر القذافي، لنسف حلم الوحدة بين تونس وليبيا.
وكنت أتمنى لو رد عليه أحد النواب بالقول: إننا امتداد لأمة عربية عظيمة لم تكن الحضارة الغربية التي يأتي منها ماكرون سوى نتيجة لاندحارها، لكن ربما يشحذ نوابنا ألسنتهم لصراعاتهم الجانبية والحزبية.
2. حديث ماكرون عن اتفاقيات ثنائية في مجالات التربية والتعليم.
يقيناً لم يكن المقصود بذلك مناهج التعليم في فرنسا، فذلك شأن فرنسي سيادي داخلي لا يجوز تناوله في نقاشات مع جهات أجنبية وإنما المقصود من وراء الاتفاقيات المزمعة هو تطويع منهاج التعليم في تونس بما يتوافق مع سياسة فرنسا.
سيطرح الرئيس الضيف رؤيته وتقييمه لأداء المؤسسة التربوية في البلاد التونسية وتوجيهاته المستترة بعباءة المشاريع الداعمة للقطاع تكريساً لسياسة زرع ثقافة جديدة تقطع مع الثقافة العربية الإسلامية، وتجعل من البلاد حديقة خلفية للإليزيه.
3. حديث ماكرون المباشر والصريح عن ضرورة إبقاء تونس داخل المنظمة الفرنكفونية وعن سعيه لتكون العاصمة التونسية مستضيفة الدورة المرتقبة للفرنكفونية سنة 2020.
ولا ندري هنا أي جذور لهذه المنظمة الدولية غير الماضي الاستعماري البغيض للإمبراطورية الفرنسية وأي جدوى منها سوى ترسيخ ثقافة المستعمر وتحقيق مصالحه السياسية والاقتصادية.
وكيف بلغت الوقاحة بماكرون بأن يوهمنا بأن لغة بلاده هي جزء من تاريخ تونس ولا ندري كيف يكون الطارف أصلاً للتليد والسابق فرعاً لما يتلوه، وهل يطمح ماكرون لإحياء المؤتمرات الأفخارستية في ثوب منظمة فرانكفونية؟
4. حديث ماكرون عن إمكانية اندماج الإسلام مع الديمقراطية وما ينم عنه من احتقار للآخر وتصغير من شأنه، فالتاريخ الأوروبي يحدثنا عن جرائم رجال الكنيسة قبل بزوغ فجر الديمقراطية الأوروبية وعن هيمنة الباباوية على أوروبا طيلة قرون طويلة، فلو أنه تحدث عن ثنائية الدين والسياسة وعن إمكانية التعايش بينهما لأمكن تقبل الأمر لكن أن يتحدث عن الإسلام حصراً كأن الكنيسة قد قبلت في البدايات بلعبة الديمقراطية، فإن هذا يكشف علة في قلب الرجل وحقداً دفيناً على حضارة الآخر.
5. النقطة الأخيرة والتي نعتقد أنها الأهم هي تأكيده على أن "الربيع العربي" لم ينتهِ بعد، ولا نحتاج هنا إلى التذكير بأن فرنسا كانت أشد المتحمسين لثورات الربيع، خاصة في ليبيا التي كان التدخل العسكري الفرنسي فيها حاسماً لترجيح كفة المتمردين.
ونعتقد أن ما تم تداوله بين السبسي وماكرون في الغرف المظلمة قد تجاوز الحدود التونسية ليصل إلى طرابلس الليبية، وفي ظل هذه الفوضى التي استشرت في جسد الجماهيرية الشهيدة العائمة فوق بحور من النفط تحتاج فرنسا إلى موطئ قدم على الحدود يسمح لها بأن تستعيد مكانتها كلاعب أبرز في الساحة الليبية بعد أن فقدتها لصالح أميركا، ونعود هنا إلى سنة 2011 أو إلى حكومة الباجي قايد السبسي الذي كان قد صرح آنذاك بدوره في دعم من سمّاهم "الثوار" في ليبيا بالمال والسلاح، فلقاء الباجي وماكرون اليوم يمكن أن يكون الهدف من ورائه إحياء النفوذ الفرنسي في الأرض الليبية التي باتت وليمة اقتصادية يسيل لها لعاب شركات الإعمار والتنقيب في الغرب.
فرنسا ترى أنها الأجدر بليبيا من سواها، وأن على الحل السياسي المرتقب في هذا البلد أن يوافق مصالحها الاقتصادية، وإن قدر لتونس أن تكون طرفاً أو وسيطاً فيجب أن تلعب في السر دور ممثل فرنسا والمدافع عن مصالحها، وأن تجعل من حدودها مستناخاً سهلاً للقوات الفرنسية إذا ما سارت رياح التغيير عكس ما يتمناه ساكن الإليزيه.
كنا نمني النفس بأن تكون زيارة ماكرون انطلاقة لمراجعة العقود الاستعمارية التي كبلت الاقتصاد التونسي ومنعت البلاد من التحكم في مقدراتها الطبيعية، كنا نحلم بأن ننال الحرية والسيادة بعد أن نلنا الاستقلال، أما بعد أن انتهت الزيارة وعاد الإمبراطور من جولته التفقدية انتهى معها حلم ليلة صيفية وعُدنا إلى واقع أننا ما زلنا نرسف في أغلال الهيمنة الغربية.
وتبقى الذكرى الجميلة في زيارة ماكرون هي تلك الساعات القليلة التي تخلصت فيها شوارعنا وأسواق مدينتنا العتيقة من الأتربة والأوساخ، وذلك الحضور التاريخي لنواب الشعب المنسي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.