بعد وصوله إلى سدّة الحكم في تركيا، تبنّى حزب العدالة والتنمية سياسةً لم تعهدها الجمهورية التركية منذ تأسيسها بالتوجه نحو العالم العربي، وإعادة ترميم العلاقات مع الشعوب والحكومات العربية، ولعلَّ نظام الأسد نموذج لذلك، حيث بنت تركيا علاقاتٍ استراتيجيّةً متينة مع الحكومة السورية، بلغت ذروتها حين رفعت الدولتان التأشيرة عن المواطنين عام 2009.
إلا أن اندلاع الربيع العربي والسلوك الدموي والإجرامي للنظام السوري تجاه مطالب شعبه المحقّة بالحرية والعدالة، دفع تركيا إلى أن تدعم الشعب السوري، وتقف سدًّا منيعًا أمام نظام لم يعرف سوى أداة القتل والتدمير، فتبنّت الثورة السورية، واحتضنت المعارضة منذ البداية، وفتحت حدودها لملايين الضيوف السوريين الذين بلغ عددهم أكثر من ثلاثة ملايين، واستمرت بدعمها الكبير لقوى الثورة السورية، وبذلت جهدها في ذلك، لكن القضية السورية بلغت حدا يفوق الوصف من التعقيد، فضلًا عن تداخل المصالح الإقليمية والدولية واستيقاظ الصراعات التاريخية المختلفة، فاضطرت القيادة التركية للبحث عن حلول جديدة، تحقن من خلالها الدماء، ومن ثمَّ الوصول إلى حلٍّ أخفّ وطأةً على الشعب السوري.
مرّ الموقف التركي في سورية بتطوراتٍ متلاحقة، فانتقلت السياسة التركية من المطالبة بإصلاحاتٍ جذريةٍ عند بداية الثورة السورية، إلى دعم المعارضة والقبول بالحل السياسي المشروط برحيل بشار الأسد، مرورًا بحماية أمنها وحدودها من الإرهاب، وصولا إلى بناء علاقاتٍ تحقن الدماء السورية، وتنهي الأزمة الإنسانية في البلاد.
لا يخفى على المتابع أن الضربة القاضية للثورة السورية كانت بتشرذم فصائل المعارضة في
الداخل، بسبب اختلاف الداعمين وأهدافهم، فلكلٍّ غايات وأغراض، لكن الشعب هو من دفع الثمن باهظًا، خصوصا بعد تسييس الدعم الذي فرَّق شمل المعارضة، وفتح الباب على مصراعيه أمام النظام وحلفائه، ليستعيدوا السيطرة على غالبية الأراضي، بعد أن كانت محرّرة في أيدي المعارضة. في المقابل، كان النظام السوري وحلفاؤه متماسكين وواضحي الرؤية، فإيران تدعم وتقاتل حفاظا على هلالها الشيعي الممتد من أراضيها، مرورًا بالعراق وسورية، ووصولًا إلى لبنان، أمَّا روسيا فقدمت سلاحًا جويًّا كان له السبق في السيطرة وتراجع الفصائل على مختلف الجبهات، بهدف الوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، وفعلًا وصلت وأنشأت قاعدتي طرطوس وحميميم.
وبالعودة إلى تعقيد المشهد الذي أجبر تركيا على إعادة ترتيب أوراقها في سورية، لا بدّ من الإضاءة على خريطة المصالح المتضاربة.
وبشأن الولايات المتحدة الأميركية، معروف عنها، باعتبارها القوة العظمى الأساسية في النظام الدولي، أنها تتدخل في جميع الشؤون الحسّاسة في العالم. ولعلَّ أهمَّ مرتكزات سياستها الخارجية هي حماية حلفائها في المنطقة، وأبرزهم إسرائيل، وبحكم انتهاج نظام الأسد سياسات عدائية تجاه إسرائيل، وجدت الولايات المتحدة مصلحتها في إضعاف هذا النظام. إضافةً إلى ذلك، فإن رأي الشارع الأميركي المناهض لإجرام الأسد، والذي يشكل عاملًا ضاغطًا على صانع القرار الأميركي، هو عامل فاعل في هذه الحالة. لكن الأهم أن الولايات المتحدة ترى في الإسلام السياسي، الذي طغى طابعه على قوى المعارضة في مرحلة معينة، خطرًا على نفوذها في سورية.
أما الروس، فيعتبرون سورية مسألة ذات بعدٍ استراتيجيّ مهمٍّ في سياستهم الخارجية، بحكم وجود القواعد العسكرية (طرطوس وحميميم)، إضافة إلى حاجتهم الملحّة للوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، فضلًا عن الغاز الطبيعي الذي تنعم به تلك الشواطئ. وكذلك لا يمكن إخفاء تحالف نظام الأسد مع الروس الذين ينتهجون سياسة ملء الفراغات التي تتركها الولايات المتحدة الأميركية، وإثبات قوة وجود في المنطقة، وبما أن الخليج العربي يُعتبر في قبضة السياسة الخارجية الأميركية، فإن روسيا وجدت في سورية مرتكزًا لها في المنطقة.
وعن إيران، صار واضحًا للجميع أن إيران عملت وما زالت على توسيع انتشارها في المنطقة، منذ الثورة عام 1979، وجدت في الأسد دعمًا لمشروعها الطائفي، فتحالفت معه، خصوصا بعد إعطائها الضوء الأخضر في حرية التصرف، حتى وإن كان على حساب السوريين أنفسهم أصحاب الأرض، فعمدت إلى التغيير الديمغرافي في البلاد، بهدف حماية الحوزات الشيعية والمزارات وغيرهما، كما أنها هدفت للوصول إلى مياه البحر المتوسط منفذا بحريا وحيدا، ولعلَّ ما يؤيد هذا الهدف هو الدعم الإيراني للقوى الشيعية في جنوب لبنان.
وبشأن السعودية والإمارات، كان نظام الأسد معاديًا لهما، ولكن الدولتين، في الوقت نفسه، كانتا معاديتين، منذ البداية، لأيِّ موجة من موجات الربيع العربي، لأن بعض دول الخليج ترى في الإسلام السياسي، أبرز القوى في الربيع العربي، منافسًا لها ومنازعًا لشرعيتها، إضافة إلى أن الدعم التركي المبكّر للثورة السورية لم يلقَ ترحيبًا من الدولتين، وكذلك ترى السعودية في التمدد الشيعي الإيراني خطرًا وجوديًّا بالنسبة لها، بيد أن الدولتين دعمتا الثورة دعمًا غير واضح الرؤية، فزاد الأمر تعقيدًا.
وكانت تركيا وقطر، منذ البداية، مؤيدتين بشدة للربيع العربي، ولدعم قوى الإسلام السياسي المعتدلة، وظهر جليًّا من خلال موقفهما الإيجابي من الثورة السورية، غير أن تركيا رأت في حماية أمنها القومي عاملًا أساسيًّا، لا سيَّما حدودها الممتدة مع سورية ووجود الفصائل السورية الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيًّا.
أما إسرائيل، فكثيرون يرون أن نظام الأسد وحلفاءه (إيران وحزب الله) أعداءٌ تاريخيون لها، سيَّما وأنها محتلة للجولان السوري، فمن الطبيعي أن تقف ضد النظام وتساهم في إسقاطه، لكن تصدّر قوى الإسلام السياسي المشهد حال بين إسرائيل والثورة السورية، فهي تنظر لتلك القوى خطرًا على أمنها. وفي المقابل، يرى آخرون، وخصوصا فصائل المعارضة، أن النظام السوري حامي حمى الإسرائيليين، ولعل احتلال الجولان منذ أكثر من أربعة عقود من دون إطلاق رصاصة واحدة باتجاه المحتلين، بينما وجه رصاصه ودباباته وجيشه ضد معارضيه هو ما يؤكد ويثبت ذلك.
وعن مصر، فقد كان موقفها، برئاسة محمد مرسي، عالي السقف في دعم الثورة، لكن الانقلاب
العسكري عام 2013 وتسلم عبد الفتاح السيسي رئاسة البلاد غيّر البوصلة المصرية 180 درجة. وتسبب ذلك في رفع مستوى التطرّف في سورية ردة فعل على عدم نجاح تجربة الإسلاميين المعتدلين في مصر.
ولا يجادل اثنان بشأن مسؤولية المعارضة السورية في مآلات الأوضاع في البلاد، فضعف الفصائل وتشرذمها وفق أهداف الداعم وغاياته، هو ما أوصلها إلى عدم وجود رؤية سياسية وعسكرية موحدة، فلم تتمكن تركيا من توحيد قوى الثورة على الأرض، ولا القوى السياسية التي لم تتفق على رؤية مشتركة، فبذلت، في البداية، جهدها، لكنها كانت شبه وحيدة، فضلًا عن الدعم الإيراني الكبير، ليأتي التدخل الروسي داعما أقوى وأكبر، من خلال سلاحه الجوي، وتراجع الثوار أمام الضربات الجوية الروسية بمختلف أنواع الأسلحة، إضافة إلى استخدام حق النقض إحدى عشرة مرة، ما زاد المشهد تعقيدًا.
وعلى الرغم من المواقف الدولية المتساهلة مع الأسد، حاولت تركيا بناء علاقات مشتركة فيما يخص الثورة السورية، وخاضت في كل الميادين في سبيل تحرير الشعب السوري من الاستبداد، وطرقت كل الأبواب، لكن المصالح المتضاربة والرؤى المختلفة حالت بينها وبين تحقيق ما تصبو إليه، فأميركا لم تُبدِ موقفًا واضحًا من الثورة السورية، وتحدثت في البداية مرارًا إنه لا مكان للأسد في مستقبل سورية، فكان هذا عامل تقارب مع تركيا، وعملتا معًا على دعم المعارضة، إلا أن أنقرة اكتشفت، مع مرور الوقت، عدم جدية واشنطن التي تحدثت عن أن الأولويّة في سورية هي محاربة الإرهاب والقضاء على "داعش"، لينخفض سقف التصريحات الأميركية. ولم تلبث أن دعمت الفصائل الكردية المقاتلة في سورية، وتعلم أن في ذلك خطرًا مباشرًا على أمنها، فكانت تلك الخطوة الأميركية بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير.
وإذا ما عكفنا على جهود تركيا مع السعودية والإمارات، فالدولتان ترغبان بزوال الأسد، ولكنهما، في الوقت نقسه، لم ترغبا بتعزيز الربيع العربي، ولا تريدان وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، فلم تتولد فرصة حقيقية للتعاون التركي مع الدولتين، ولعلَّ موقفهما غير الإيجابي من محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا هو ما يعزِّز هذا القول.
دفع ذلك كله وغيره أنقرة إلى إعادة ترتيب أوراقها، ومراجعة سياساتها، والتوجه إلى تحسين العلاقة شرقًا، مع روسيا تحديدًا، وكان ذلك بالنسبة لتركيا آخر الخيارات في الوقت الراهن.
وختاماً، لا ينسى دور تركيا أولاً وآخراً في حقن الدماء السورية، وهو مبدأ لم ولن يتغيّر بأي شكل. وعلى الرغم من الاتجاهات الدولية المتساهلة مع الاسد، إلا أن تركيا ما زالت ترفض الجلوس مع النظام في طاولة واحدة، وتعتبر وجوده مرحلة انتقالية، إلى حين تغير موازين القوى في المنطقة.
– تم نشر هذه التدوينة في موقع العربي الجديد
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.