لاءات ثلاث، كانت من بين أقوى الدعامات التي بنى عليها الإمام عبد السلام ياسين -رحمه الله- مشروع العدل والإحسان.
رفع الإمام -رحمه الله- هذه اللاءات عالياً، لا للسرية.. لا للعنف.. لا للتعامل مع الخارج، إيماناً منه أن السرية والعنف والتعامل مع الخارج لن تزيد الحركة الإسلامية إلا نكوصاً، ولن تقوم لها قائمة إن لم تنبذ العمل السري، فتخرج للعلن، والعمل العنيف المسلح، فتخرج إلى السلمية، والتعامل مع الخارج، فتخط خط سيرها دون أن ترتبط بالخارج تنظيماً أو دعماً.
لا للسرية:
من الحركات الإسلامية من لا تزال تظن أن أنجح السبل للدعوة، السرية، التي تلقي عليها سرابيل من الغموض تكفي عدوها عناء التغطية عليها والتعمية، ويخلو الجو لمحركي الكراكيز، وصناع حركات العنف والقتل وسفك دماء المسلمين باسم الإسلام (داعش) وأضرابها، على سبيل المثال.
هامشية السرية، ليس من سُنة رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ولا من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، الذي نزل بطحاء مكة وأعلن أن لا إله إلا الله، وسفَّه عبادة الأوثان والإنسان، وأُوذي، حتى عزاه الله عز وجل بقوله: "وَلَقَد كذبَت رسل من قَبلكَ فَصَبَروا عَلَى مَا كذبوا وَأوذوا حَتَى أَتَاهم نَصرنَا".
أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن أبي ميسرة، قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي جهل فقال: والله يا محمد ما نكذبك إنك عندنا لمصدق ولكنا نكذب بالذي جئت به، فأنزل الله: "فَإنَهم لاَ يكَذبونَكَ وَلَكنَ الظَالمينَ بآيَات الله يَجحَدونَ").
كان الوضوح شعار الدعوة، وضوح عززه الصدق في الفعل قبل القول.
مقابل السرية يكون الوضوح، وعدم الوضوح المقصود أدى إلى فقدان الثقة بين أبناء الحركة الإسلامية والشعب، الذي عليه يعوّل، وعدم الوضوح أدى إلى إنشاء جمعيات سرية ساعدت على التدليس والكيد والخداع، ثم كانت الهجرة من ميدان العمل الملتزم إلى العواصم الأجنبية.
السرية تُبقي العمل على هامش المجتمع، وحيث يضيع الجهد في الظلام، ففي دهاليز السرية وداخل الأماكن المظلمة أصيب الشيعة بوباء الرفض، ففي داخل الأماكن الرطبة تنشأ كل أنواع الأوبئة.
لا للعنف:
حتى لا تكون فتنة، دعا الإمام، رحمه الله، إلى الحوار بين فرقاء الوطن، فهو الوسيلة الوحيدة للتفاهم، وحتى لا يزورَ هاجس العنف ربوعَنا.
والعنف باسطٌ جناحَيه في أفق الفشل الذريع الذي جرَّه على الأمة تنازعكم ما بين لبراليين يمينيين، وقوميين يسـاريين اشتراكيين وحدويين، ولا نحب العنف ولا نقول به، ونعوذ بالله العلي العظيم من خصلة العنف وهي ملمح من ملامح الجاهلية، ولازمة من لوازمها، ومعنى من معانيها.
تأصيل مفهوم "الفتنة" مفيد جداً لفقه سنة الله في تاريخ المسلمين. ينبغي أن نميز مفهوم "فتنة" عن مفهوم "جاهلية"؛ ليتجلى أمامنا الفرق بين مجتمع قاعدته الكفر والجحود لم يعرف الإسلام وتلاشت فيه تعاليم الرسالات الإلهية، وبين مجتمع مسلم لا يزال في عمومه متمسكاً بالدين وإن كرت عليه الجاهلية وغزته وحرفت من مساره.
على هذا التمييز بين المفهومين؛ مفهوم الفتنة ومفهوم الجاهلية، يترتب نوع تعاملنا مع المجتمع. من لا يقدر على الانتقال من عالم المثالية والنـزول إلى عالم الواقع، يدفع ما يراه من حوله من فساد فتنوي إلى اليأس، وتكفير المجتمع والهروب منه، والانزواء مع مثالية مكبوتة في أقبية السرية والعنف.
كان الاعتقاد بجاهلية المجتمع هو الباب الذي دخل منه العنف ضد هذا المجتمع. إن اعتبار المجتمع مجتمعاً جاهلياً هو تكفير له، وبتكفيره أصبح المجتمع هدفاً للعنف.
إن استعمال مفهوم "جاهلية" في حق المجتمع المسلم، مزلقة إلى تكفير المسلمين، والتكفير يتلوه إحلال الدم وسبي الذرية. وهكذا على مر عصور التاريخ الإسلامي ارتكز العنف السياسي على قاعدة عقائدية، فالخصم يستصدر في حقه فتوى يكفر بمقتضاها ومن ثم يحل دمه وتسبى ذريته.
الرفق يجب أن يكون ضرورة أخلاقية وضرورة عملية، قبل القومة وأثناءها وبعدها، والرفق أداة إقناع لا العنف..
يحذر الإمام -رحمه الله- من مزالق ثلاثة، يقول: يجب أن يتفادى جند الله الهوي فيها:
1- في مرحلة إعداد القوة نتجنب أساليب الاغتيال السياسي لسببين: أولهما أننا أمرنا ألا نقتل المسلمين زمان الفتن. والثاني، وهو سياسي، أن القضايا الغريبة عن الشعب، العاجزة عن الانتصار بالإقناع والتمكن في المجتمع، هي وحدها التي تلجأ إلى أساليب الإرهاب والاغتيال.
2- أثناء القومة ننزل مع الشعب إلى الشارع، نقوض الباطل إن لم تفتح لنا أبواب المنافسة السياسية؛ لنصل إلى الحكم عن طريق ممارسة الشعب حقه في اختيار حكامه.
3- بعد القومة وأثناء التصفية ورد المظالم، لا يفتح جند الله باب إراقة الدماء، بل يعالجون ماضي الفتنة بما ينبغي من العفو الشامل، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، حين فتح مكة وسرح أهلها حين قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء!". يجب الإسلام ما قبله إلا مظالم يمكن ردها من الأموال المبتزة، والأراضي المغصوبة، والمناصب المحتلة بالمحسوبية، والقضايا المحكومة بالرشوة.
ممارسة العنف تأتي من سوء الطبع العنيف، كما تأتي من سوء الفهم للواقع، وقد تأتي منهما معاً، فيكون سوء الطبع العنيف عطباً لسوء الفهم للواقع.
لا للتعامل مع الخارج:
إن تبني العنف حتماً سيؤدي إلى المواجهة المباشرة مع الدولة، التي لن تتوانى في سحقك بكل ما أوتيت من قوة، ولها من القوة ما يجعلك تستنجد بمن هو أقوى منها، وهنا تصبح آلة في يد غيرك، يدير بك معركته كيف يشاء.
بدأ تعامل الحركة الإسلامية مع الخارج باكراً، حين التحق جزء منها بالتنظيمات العالمية، فأصبحت عرضة للمتابعة والملاحقة من قِبَل مخابرات أنظمتها، التي تفننت في تلفيق التهم لها، وعلى رأسها تهمة التخابر والتآمر مع الأجنبي، ملاحقات أفضت إلى اعتقالات ومحاكمات، وما بينهما من حصص للتعذيب أثناء الاستنطاق. كل هذا ساهم في الفرار والهجرة إلى الخارج.
في البداية، وفي ظل الصراع بين الأنظمة العربية، احتضنت هذه الأخيرة، وعلى رأسها نظام القذافي، المهاجرين فآوتهم ودربتهم وسلحتهم ضد أنظمة بلادهم، فأصبحوا أداة لتصفية الحسابات بين الأنظمة، في أيدي أنظمة أخرى.
في مرحلة لاحقة إلى اليوم، توجه هذا الجزء من الحركة الإسلامية نحو الغرب، الذي منحها اللجوء السياسي بداية، قبل أن يبدأ في منحها السلاح لقتال أنظمتها، وهنا كان الانحراف والانزلاق نحو المجهول.
ففي الخارج، تتوجس الهيئات المالية الكبرى وشركات الإيداع من مشاريع الإسلاميين التي تهدد مصالحها، المرتبطة بالأنظمة العميلة لها، وبالتالي فإن الغرب لن يسمح بسقوط تلك الأنظمة إلا بعدما تمنحها تلك الحركات حق التصرف في خيرات بلادها، كما فعل الناتو مع ثوار ليبيا.
ويبقى الخط اللاحب، خط العلنية والسلمية والاستقلال عن الخارج، سواء كان تنظيمياً أو تمويلياً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.