فيدرالية تحت الاحتلال.. ولا فناء في ظل الاستبداد

ومناسبة هذه التوطئة هي اقتراح المحتل الروسي ضمن وثيقة رسمية منشورة طرحت في الاجتماعات الأولية بأستانة، يقضي بعقد مؤتمر شعوب سوريا في سوتشي، ومشاركة كل الجماعات العرقية والدينية مع ممثلي الحكومة وفصائل المعارضة، يقر فيه دستور سوريا الجديد مروراً بالانتخابات.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/29 الساعة 07:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/29 الساعة 07:49 بتوقيت غرينتش

العشرات بل المئات من شعوب التحرر الوطني في مختلف قارات وأصقاع كوكبنا ومنذ سنوات القرنين التاسع عشر والعشرين، وبعد أن كانت في عداد المستعمرات وأشكال الاحتلال العسكري والهيمنة الاقتصادية من جانب (المتروبولات) نالت الاستقلال الشكلي ثم الكامل، وتمتعت بحرية تقرير مصيرها، بعد اجتياز مراحل شهدت أعمال عنف وانتفاضات ومواجهات دامية، وانتهت بانسحاب الأجنبي مع جيوشه وإداراته .

ومناسبة هذه التوطئة هي اقتراح المحتل الروسي ضمن وثيقة رسمية منشورة طرحت في الاجتماعات الأولية بأستانة، يقضي بعقد مؤتمر شعوب سوريا في سوتشي، ومشاركة كل الجماعات العرقية والدينية مع ممثلي الحكومة وفصائل المعارضة، يقر فيه دستور سوريا الجديد مروراً بالانتخابات.

حتى لو جاء هذا المقترح من جانب طرف محتل لبلادنا عادَى ثورتنا ومارَس القتل والتدمير تجاه شعبنا، ووقف إلى جانب نظام الاستبداد بكل الوسائل العسكرية والسياسية والدبلوماسية، مثل أي مستعمر في التاريخ، وكان سبباً في عدم سقوطه النهائي، فإن مقترحه المكتوب لا يخلو من الواقعية، ومن حظوظ النجاح في وقف إراقة الدماء، وتحقيق المصالحة، وحصول كل صاحب حق على ما يسعى إليه إذا ما تم تنفيذه على أرض الواقع، بحيث يكون القرار النهائي والفاصل لممثلي الشعب السوري بكل أطيافه وأقوامه وأعراقه وألوانه الدينية والمذهبية، ولا شك أن جانباً من نصوص المقترح يحمل الجزء الناصع من تراث التجربة الاشتراكية في مسألة القوميات وحقوقها، وخصوصاً حول الاعتراف بوجودها وتشخيص هوياتها، وقبول مبدأ حق تقرير مصيرها في أطر دستورية وحقوقية وإدارية تبدأ بالاستقلال، مروراً بالفيدرالية والحكم الذاتي واللامركزية، وانتهاء بالدوائر القومية.

ما هو مقترح ومطروح من جانب المحتل الروسي لا يعود الفضل فيه إلى الطغمة الحاكمة في موسكو، بل هو ثمن دماء شهداء وتضحيات شعبنا، فهو بكل آلته العسكرية لن يتمكن من البقاء محتلاً إلى الأبد؛ حيث سيكون السوريون له بالمرصاد، إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد حين، ومن مصلحته الانسحاب بأسرع وقت، ثم إنه من الصعوبة بمكان أن ينال هذا المحتل ثقة وغفران السوريين، ولن يؤتمن على وعوده ومشاريعه ومقترحاته إلا عندما تتحول الصيغ والوعود إلى أفعال.

ليس هناك من عاقل يمكنه تجاهل حقيقة أن لعنة الديكتاتورية والاستبداد والشوفينية العنصرية والطائفية في بلادنا وما أنتجت من كوارث وجرائم ضد الإنسانية وانقسامات ومواجهات، وصولاً إلى ما يشبه الحرب الأهلية ليست بنت اليوم، بل نمت نواتها الأولى عندما تم تسطير الأحرف الأولى لبيان المؤتمر السوري الأول في عشرينات القرن الماضي، وصياغات مشاريع الدساتير التي وضعها الوطنيون السوريون ما قبل الاستقلال، والتي اعتمدت في عهود الحكومات الأولى في ظل الاستقلال إلى يومنا هذا، والتي حملت خطيئة تاريخية لا تغتفر، وهي تجاهل واقع المجتمع السوري المتعدد الأقوام، بحيث خلت الدساتير من الإقرار بوجود شعوب وقوميات أخرى غير العرب، ومن تحصيل حاصل تجاهل حقوقها، ناهيك عن الإثنيات والأديان والمذاهب التي تزين التنوع السوري في مختلف المناطق.

من جهة أخرى، فإن الأسباب الرئيسية للصراع في بلادنا وفي معظم بلدان الشرق الأوسط، وتحديداً في بلدان ثورات الربيع وسوريا من ضمنها، تتعلق بقضايا حرية وكرامة الإنسان وحقوق الفرد والجماعة القومية والدينية والمذهبية، الذين عانوا جميعاً الحرمان والتجاهل والقمع وإرهاب الدولة بأشكالها الحزبية الأيديولوجية والقومية الشوفينية والطائفية، أوَلم تكشف ثورات الربيع حقيقة تعددية العديد من البلدان التي كانت تبدو بسيطة في حين كانت مركبة من أقوام أصبحت في طي النسيان وهدفاً لتمثيلية القومية السائدة؟ وقد يعود الفضل إلى تلك الثورات في إعادة الاعتبار لتلك المكونات وجوداً وحقوقاً من الكرد والتركمان وغيرهما في سوريا، والأمازيغ في بلدان شمال إفريقيا.

ومن خلال الحكومات والأنظمة المتعاقبة على سوريا، وخصوصاً في عهد حكم البعث، وفي ظل فقدان أي رادع دستوري وقانوني، ناهيك عن الأخلاقي، فقد تعرضت القوميات والإثنيات غير العربية، خاصة الكرد، إلى التنكيل، وطالت محاولات تغيير التركيب القومي والاجتماعي مناطقهم عبر مخططات التعريب والتهجير القسري والحرمان من حق المواطنة والتملك والتعليم، وكانت تلك السلطات الحاكمة تستخدم النزعة العنصرية والمغالاة القومية اللفظية في صبّ جام غضبها على الكرد وغيرهم في بعض الأحيان؛ للمزايدة من أجل التشبث بالحكم، والتستر على طبائعها الطائفية.

نعم كلنا بمختلف هوياتنا ننتمي إلى الشعب السوري، وهو الجامع الوطني العام الذي يحمل في طياته أقواماً وأطيافاً وألواناً تدل كلها على الغنى والتنوع، وفي أي دستور قادم لسوريا الجديدة من خلال إرادة سورية أو عبر المحتل الروسي، يجب أن يقر بهذه الحقيقة ويحدد الحقوق بحسب إرادة الأقوام والمكونات، وفي إطار البلد الواحد، ويضمنها ثم يقدم تعريفاً للمواطنة الحقة المتساوية التي تضم الجميع شركاء متكافلين متكاملين متضامنين متكافئين، وعلى الجميع أن يعلموا أن سوريا بحدودها الراهنة ومكوناتها الحالية تشكلت ليس بإرادتنا بل بقرارات دولية، وحسب اتفاقيات ومعاهدات، آخرها سايكس – بيكو، ولذلك ليس من حق أي مكون أن يفرض إرادته دون الآخرين، ونحن جميعاً أحوج ما نكون إلى نوع من التوافقية حول عقد اجتماعي عادل لإرساء قاعدة العيش المشترك بوئام.

كل الدلائل تشير إلى أن سوتشي ستكون نهاية المطاف، خصوصاً بعد ملاحظة تلكؤ عملية جنيف 8، وتأكيد ذلك من جانب بوتين "الذي أعلن عن ولاية رابعة" في تصريح أخير: حيث دعا (كل الأطراف، الحكومة السورية وبلدان المنطقة والأمم المتحدة، إلى بدء مرحلة جديدة، في العملية السياسية، وأن بداية هذه العملية كما اتفقنا مع الرئيسين الإيراني والتركي ستكون بعقد مؤتمر شعوب سوريا، وزاد أن المهم البدء بالتحضير لإقرار دستور جديد، وبعد ذلك، وبالتوازي مع تقدّم العملية السياسية، يمكن الذهاب إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية، وأن هذا المسار طويل، ونقطة بدايته يجب أن تكون في تثبيت وقف إطلاق النار، ومناطق خفض التوتر، ووقف سفك الدماء في سوريا).

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد