جاءت الدول القومية متأخرة في التاريخ، فمثلاً، إذا كنت قد ولدت قبل 2500 سنة، في بلاد ما بين النهرين أو مِصر أو الجنوب الأوروبي، لكنت قد اقتنعت بأن تلك الإمبراطورية سوف تستمر إلى الأبد. وقد كان، استمرتْ، ألف سنة، وبعد التدهور الاقتصاديّ والعسكري، انهارتْ، وبحلول 467 م ذهبت، وبالنسبة للأشخاص الذين يعيشون في ظل الإمبراطورية العظيمة، لا بد أن تكون هذه الأحداث غير مُتوقعة.
تماماً كما كان لأولئك الذين يعيشون خلال انهيار حكم الفراعنة أو الخِلافة أو النظام القديم.
ونحن على ما يرام من أن نموذجنا للعيش في "البلدان" أمر لا مفر منه وأبدي؟ نعم، هناك الديكتاتوريات والديمقراطيات، ولكن العالم كله، يتكون من الدول القومية. وهذا يعني مزيجاً من "الأمة" (الأشخاص الذين لديهم صفات وسمات مشتركة) و"الدولة" (نظام سياسي منظم مع سيادة على مساحة محددة، مع حدود تتفق عليها الدول الأخرى). حاول أن تتخيل عالماً بلا بلدان، لا يمكنك ذلك. إن إحساسنا بمن نحن، وولاءاتنا، وحقوقنا وواجباتنا، مُرتبطون بها.
حتى منتصف القرن التاسع عشر، كان معظم العالم امتداداً للإمبراطوريات، والأراضي غير المطالب بها، وولايات المدن والأقاليم، والتي يمر عبرها المسافرون دون شيكات أو جوازات سفر. ولما كان التصنيع يجعل المجتمعات أكثر تعقيداً، نشأت بيروقراطية مركزية كبيرة لإدارتها. فالحُكومات الأكثر قدرة على توحيد مناطقها، وتخزين السجلات، وتنسيق الإجراءات (الحروب بصورة خاصة) نَمت بالقوة تجاه الجيران.
ساعدت الثورات، خاصة في فرنسا والولايات المتحدة، على خلق فكرة "المصلحة الوطنية" المعروفة عموماً، في حين تم تحسين الاتصالات، وتوحيد اللغة والثقافة والهوية.
امتد التوسع لنموذج الدولة القومية في جميع أنحاءِ العالم، وبحلول منتصف القرن العشرين، ظهرت عشرات الدول، وهناك الآن 193 دولة تحكم العالم. لكن الدولة القومية، الحدود، والحكومات المركزية، والمدنيين، والسلطة السيادية، تتزايد على نحو كبير في العالم. وكما لاحظ كارل ماركس، إذا غيّرت النمط المهيمن للإنتاج الذي يدعم المجتمع، فإن الهيكل الاجتماعي والسياسي سيتغير أيضاً.
والقضية ضد الدولة القومية ليست جديدة، فمنذ عشرين عاماً، كان كثيرون يتنبأون بزوالها الوشيك، العولمة، وكان التقطيع بعيداً عن سُلطة الدول القومية لفرض التغيير، يبدو أن الإنترنت، والتواصل، الحديث والمثير، يبشر بمستقبل لا حدود له، ودولة حرة بلا هوية، ويبدو أن تغير المناخ وحوكمة الإنترنت، والجريمة الدولية، تتجاوز قدرات الدولة القومية. ويبدو أنها أضعف من التصدي للتحديات الدولية؛ وقد سارع الناخبون إلى اكتشاف ذلك، وتوقفوا عن عناء التصويت، مما زاد الأمور سوءاً.
وفي عام 1995، تنبأ كِتابان بعنوان "نهاية الدولة القومية" – أحدهما من قِبل الدبلوماسي الفرنسي السابق جان ماري غينو، والآخر من قبل المُنظر الياباني كينيتشي أوهماي – بأن السلطة ستتوجه إلى هيئات متعددة الجِنسيات مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وصولاً إلى المَناطق والمدن.
لم يكن هناك سوى عشرات الملايين من الناس على الإنترنت في عام 1995 عندما أعلنت الدولة القومية النهاية الوشيكة، وفي عام 2015، ارتفع هذا العدد ليصل إلى حوالي 3 بلايين نسمة، بحلول عام 2020، وسوف يكون أكثر من 4 مليارات. (وأكثر من 20 مليار جهاز متصل بالإنترنت). التكنولوجيا الرقمية لا تُحب حقاً الدولة القوميّة.
جون بيري بارلو "إعلان استقلال الفضاء السيبراني" 1996، أمرٌ مبالغ فيه جداً: الإنترنت هو التكنولوجيا التي بُنيت على المبادئ التحررية، خالية من الرقابة، اللامركزية، واللاحدود، والآن، في كل مكان. مما يزيد من الجريمة الإلكترونية، وهناك طرق قليلة لوقفها أو تقديم مرتكبيها إلى العدالة، وقد ساعدت تكنولوجيا التطبيقات مثل أوبر وديليفيرو لإنتاج زيادة المفاجآت الاقتصادية، هناك بالفعل الملايين من الناس الذين يستخدمون "بيتكوين" وتقنيات "بلوكشين" مصممة صراحة لمصارعة السيطرة على المعروض من المال من البنوك المركزية والحكومات، والعدد يستمر في النمو. كما أنها تغرسنا بقيم جديدة، فهي ليست دائماً ذات طابع وطني: عدد متزايد من الناس يرون أنفسهم مواطنين "عالميين".
وفي 17 سبتمبر/أيلول 2016 كتب دونالد ترامب:"إن الأمة بلا حدود، ليست أمة على الإطلاق. ونحن سوف نجعل أميركا آمنة مرة".
فالحدود تحدد من هو المواطن، الذي يضعُ ويأخذُ من وعاء مشترك. وإذا لم تتمكن دولة ما من الدفاع عن حدودها، فإنها لم تعد موجودة بشكل مُجدٍ، سواء كمنشأة عاملة أو كأسطورة مُتفق عليها.
هذا هو جوهر المشكلة: الدول القومية تعتمدُ على السيطرة، وإذا لم يتمكنوا من السيطرة على المعلومات أو الجرائم أو الأعمال التجارية أو الحدود أو حركة الأموال؛ فسيتوقفون عن تقديم ما يطلبه المواطنون منهم.
في النهاية، الدول القومية نظام عالمي قائم ومتفق عليه، يبدو أن علينا التخلي عن بعض الحريات من أجل تأمين الآخرين. ولكن إذا لم تعد هذه الصفقة مجدية، وتوقف الاتفاق على الأسطورة، فما الذي يمكن أن يحل محله؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.