سرقوا المدينة المقدّسة!

لقد سرقوا المدينة الفاضلة، فأضحت كئيبة حزينة، لم تكُ هذه نكبتها الأولى، لكن نكبتها الكبرى، وأيّ طامة أكبر من أن ينخر إبليس روح الملاك الّذي لا يُسَنُّ له بمساسه حتّى!

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/27 الساعة 23:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/27 الساعة 23:35 بتوقيت غرينتش

تعالوا بنا نتجوّل داخل أرجاء عروس المدائن.. مدينة القدس، ونلقي بنظراتنا وتأمّلاتنا إلى جمال أراضيها الخصبة الخيّرة بأزهارها وأشجارها وأنهارها، وروعة سحر جبالها التي تحوي ديار المجاهدين الأباة، والّتي شُيّدت بأيادٍ مكلومة، ومن بين خدوش اليد وتعرّج خطوطها وانحنائها يمكنك أن تفقه قصّة هؤلاء الأبطال الّذين لا يُبقون للخوف وللوجل جنباً، فقد وُلدوا وترعرعوا، عمروا وهمدوا رجالاً أحراراً.

هيّا لنبصر بهاء تلالها الّتي ظلّت صامدة راسخة حينما نخر الأعداء رَحمَها الطّاهر العفيف، وتوسّطوا جوفها الطّيّب، فتحايلوا وراوغوا لنصب الفخاخ والشّرَك اعتقاداً بأنّهم أمام شعب مخذول جبان.. ولم يذكروا درع الإيمان الحصين الّذي طوّق الإله به أهل هذه البلدة الّتي لم تنعم بالرّغد والأمان منذ احتلالها وغرز الفتن القاصلة في داخلها.

الله ما أطيبها مدينة! لقد احتضنها سور عظيم يحمل بين ضلوعه سبعة أبواب عظيمة، حُكّم كلّ باب فيها بمفتاح، وكأنّ القدس هي جنّة الخلود الّتي تسمو من فوق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت!

بين زقاق القدس وأحيائها، نُلذّذ نواظرنا من خلال حُسن المنازل القديمة الّتي تروي أبوابها وشبابيكها وكلّ حجر من أحجارها حكايات الأجداد والأوّلين الّذين رحلوا وتركوها بصمة شرف للآخرين وذكرى مصقولة في زخارف ونقوش أبوابها.

في وسط المدينة، تقعد أميرة مكرّمة وقورة ذات إسدال ذهبيّ ينعكس بريق الشّمس في قمّتها وكأنّها تخبر النّاس بأنها إشارة الأمل ومصدر انبثاق نور الحياة، بجوارها يتربّع ملك عظيم أوجد عظمته من تاريخه وقدسيّته، فهو المسجد الأقصى، مهد الأنبياء والرّسل، موطن الإسراء والقيامة وسعي الخطى والسّبل، وقال ربّي في كتاب القرآن مباركاً بإسراء محمّد صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا المسجد: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ".

كلّ ما هو خالد في هذه المدينة يوحي بالمجد والقدسيّة؛ الأرض المخضّبة بالحنّاء، والتّربة المروية بدماء الشّهداء، وحبّات الزّيتون وشجرة التفّاح، والأسوار والدّيار والحيطان وصوت الأذان، وصدى أجراس الكنائس.

لكن في عالم تداخل فيه المقدّس مع المدنّس، مضى الشّيطان لتدنيس عفّة الملائكة، في ليلة من ليالي ديسمبر/كانون الأول الّتي سادها القرّ، ليلة لم يتلألأ فيها ضياء القمر، ولم تشعل النجوم قناديلها المنيرة، بل انسكبت من السمّاء دموعاً غزاراً مدراراً.

لقد سرقوا المدينة الفاضلة، فأضحت كئيبة حزينة، لم تكُ هذه نكبتها الأولى، لكن نكبتها الكبرى، وأيّ طامة أكبر من أن ينخر إبليس روح الملاك الّذي لا يُسَنُّ له بمساسه حتّى!

يومها بكى المسجد والقبّة، حزنت الحارات والزّقاق، تألّمت الكنائس، وباتت الجدران تحمل ندوباً عميقة.

بكيت أنا، وبكينا كلّنا، فنحن أناس لا نستأثر بغير البكاء والنّحيب على ما ضاع منّا، كما أنّنا ذوو ضمائر مزعوقة قارسة، تماماً كقرّ تلك اللّيلة الّتي نهبوا وسرقوا فيها القدس.

لكنّنا على الأقلّ ما زلنا نحتفظ ببعض الكلمات والألحان والأشعار الّتي تبعث فينا بين الفينة والأخرى حسّ وروح وطنيّتنا وعروبتنا المتضوّعة:

هناك.. في أعلى الجبل
وفي كلّ مساء
يجلس الجدّ "أبو رامي"..
متأمّلاً..
راحت ذكرياته إلى ماضي الأيام..
كل ذكرى..
تتبعها تنهيدة..
تنهيدة توحي لما في هذه النفس من حسرة..
وما في هذا الوطن من آلام..
على يمين الجدّ..
وجدت تلّة..
كانت كأنّها الربيع في أبهى حلة..
تذكر جدي أشجار الزيتون..
وغصن الياسمين..
وثمرة التين..
وزهرات الأقحوان والنسرين..
تنهد!
الآن..
لم يعد شيء كما كان..
ذبل غصن الياسمين..
وجنى العدو لصالحه ثمرة التين..
وقطفت زهرة النسرين..
واعتقل الفدائيين..
واستشهد علي.. ومحمد.. وصلاح الدين..
أيتها المدينة..
لك منا قُبلة على الجبين..
يا أغلى من حور العين..
لك الله.. وحده السميع المعين

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد